اللغة بوصفها أفقًا لرؤية العالم
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2025-07-17 04:45
اللغة ليست قوالب فارغة، ولا وعاء محايدا يملأ بأي معنى، إنها طاقة خلاقة، ترسم خارطة الذهن، وتوجه مسارات التفكير، وتعيد تشكيل الوعي. ليست اللغة أداة محايدة لنقل الأفكار، بل هي بوصلة الفهم، ومِرآة الإدراك، ومعبر لرؤية الذات والعالم. تسهم اللغة في صوغ هويتنا، وتشكيل علاقتنا بالعالم، وتحديد موقعنا فيه. كل تحول في اللغة يواكبه تحول في التفكير، اللغة لا تنقل المعنى فحسب، بل تسهم في خلقه. إنها ليست ظلا للواقع، وإنما شريك في تشييده، وتلوين ملامحه، وإنتاج صورته في أذهاننا.
الرؤية التي تشكّلها اللغة ليستْ مغلقة أو نهائيّة، بل تتسع وتضيق تبعًا لتحولات الوعي، وتجدد المفاهيم، وتنوع الألسنة، وثراء الحياة الروحيّة والأخلاقيّة والمعرفيّة والعاطفيّة والجماليّة. حدود اللغة حدود الفكر، الفكر لا يتخطّى ما لا تعبّر عنه اللغة. الواقع لا ينعكس تلقائيًا في اللغة، كما أن اللغة لا تنشأ من فراغ. العلاقة بينهما جدليّة تفاعليّة، كلٌّ منهما يُعيد إنتاج وتشكيل الآخر.
تتغذى اللغة من التجربة، وتغذي الوعي، وتعيد رسم صورة العالم في ذهن الإنسان. ليست اللغة أداةً ثانويَّة نلجأ إليها بعد تبلور الفكرة، بل هي المعمل الذي يعمل على المساهمة بتشكيل المفاهيم والرؤى والأفكار، إنّها مهد المعنى، ومسرح تشكّل الرؤية. ليست اللغة انعكاسًا خالصًا للعالم، بل هي شريك في صناعة رؤيتنا له.
تصوّراتنا عن الزمان والماضي والحاضر والمستقبل، والمكان، ومختلف المعطيات في الواقع المعيش وما نتطلع أن يكون عليه غدًا، ليست مرآة تعكس صورة محايدة عنها، بل هي مشروطة بلغة الدين والأسطورة والعلم والمعرفة والثقافة التي ننتمي إليها. مثلًا مفهوم الزمن الدائري يعكس رؤية للكون متكررة، تبدأ من حيث تنتهي، وتنتهي من حيث تبدأ.
الزمن في بعض الثقافات القديمة لم يكن يُرى بوصفه خطًّا يمتد من ماضٍ إلى حاضر ثم مستقبل، بل كان يُتصوَّر دائرةً مغلقة، تعود فيها الأحداث وتتكرر في نسقٍ أبدي. في هذا الفهم، لا تتجه الحياة نحو غاية نهائية، بل تسلك مسارًا دائريًا، تبدأ من حيث انتهت، وتنتهي من حيث بدأت. ينبع هذا التصور من معاينة الطبيعة، فالفصول تتعاقب، والنهار يعقبه الليل، والموت يتبعه ميلاد، والكون كله يُرى بوصفه مسرحًا لدورات أبديّة من التجدد والانبعاث.
هذا التكرار المنتظم أوحى للإنسان القديم أن الزمن لا يتحرك إلى الأمام، بل يدور حول نفسه. لذلك تشكّل وعيه الزمني في إطار هذه الدورات، لا في أفق التقدم أو التطور. وكان للغة أثر عميق في انتاج هذا التصور الذي يرسم تفسير الحياة والمصير، حيث تُفهم الكوارث والخلاص، والموت والمصير، لا كمراحل منفصلة، بل كمحطات في دورة كونيَّة كبرى، يتجلى فيها معنى الوجود بوصفه عودةً أبديَّة، لا سيرًا إلى مستقبل مغاير.
بينما يؤسس تصور الزمن الخطي في العصر الحديث لفهمٍ تطوّري للأحداث، ونظرة متسلسلة للتاريخ. إذ تشكَّل تصور الزمن الخطي في العصر الحديث بوصفه وعيًا جديدًا بالزمن، يرى الأحداث تتتابع في خط متصاعد لا يعود إلى نقطة البدء، بل يمضي إلى الأمام على نحو متواصل، ما أفضى إلى نشوء فهم تطوّري للتاريخ، يقوم على التراكم، والتقدم، والتحول المستمر.
هذا التصور انبثق من تحوّل جذري في رؤية الإنسان للعالم، حين لم يعد الواقع يُقرأ من خلال الأسطورة أو الميتافيزيقا، بل من خلال العقل والعلم والتجربة. ولّد هذا التحوّل إحساسًا بأن الحياة قابلة للتغيير، وأن المستقبل ليس تكرارًا للماضي، بل أفقٌ مفتوحٌ للإنجاز.
في هذا الفهم، لم يعد الزمن دورانًا يعيد إنتاج ذاته، بل صار مسارًا يُبنى بالتجربة، ويتشكّل بالوعي، ويتجه نحو غاية قابلة للتحقيق. وهكذا نشأ وعي حديث بالتاريخ بوصفه سيرةً للتقدم البشري، لا سلسلة من التكرارات، وصار الزمن الخطي خلفيةً لفكرة الإنسان الفاعل، القادر على تجاوز ما كان، وصناعة ما سيكون. هذا الاختلاف في تصور الزمان والماضي والحاضر والمستقبل، والمكان، ومختلف المعطيات في الواقع المعيش، وما نتطلع أن يكون عليه غدًا، ليس مجرّد اختلاف لغوي، بل هو اختلاف في الوعي بالذات، وتفسير الحياة، وتأويل المصير الإنساني.
مثلما تسهم اللغة في صياغة تصوراتنا عن الزمان والمكان، وما كان وما سيكون، فإنّها تتجلى في الذكاء الاصطناعي بكيفية أخرى مغايرة لما مضى. هذا الذكاء لا يعيد تشكيل أدوات التعبير فحسب، بل يُعيد تكوين بنية الوعي، ويستولد أنماطًا جديدة من التفكير، ويغيّر شروط إنتاج اللغة والمعنى. لم تعد اللغة محصورة في التفاعل الإنساني المباشر، بل باتت تُنتَج في بيئة رقميَّة هجينة، تتداخل فيها النصوص والصور والرموز والإشارات، وتتدخل فيها الخوارزميَّات بوصفها وسيطًا جديدًا لصياغة المعنى.
يفرض العصر الرقمي على اللغة إيقاعًا مختلفًا، يتناغم مع منطق السرعة، واختزال الزمن، وتكثيف التعبير، ويؤسس لوعي لغوي يتلاءم مع لحظة لم تعد تتسع فيها اللغة الغارقة بالفائض اللفظي، ولا تحتمل غزارة المرادفات والمحسّنات البديعيَّة.
في هذا السياق، تُعاد صياغة لغة الإنسان على نحو مستمر، بنحو تتناغم مع منطق السرعة، وتكثيف المعنى، واختزال الزمن، وتواكب التحول العميق في أنماط الإدراك والتفكير والتواصل، وتحاكي متطلبات العيش في عالم لا يكفّ عن التبدّل.
وما دامت اللغة كائنًا حيًا يتفاعل مع الواقع، فإنها تغدو مرآةً لتجارب الإنسان في كل تحولاته، وعدسةً تتكشف من خلالها رؤيته المتجددة للعالم، بوصفها امتدادًا لوعيه، وتجسيدًا لصورته عن ذاته في أفق تكنولوجي جديد. في هذا السياق، تُعاد صياغة لغة الإنسان باستمرار، لتواكب الإيقاع المتغيّر للعالم، وتحاكي تحوّلاته العميقة.
وفي ضوء هذا التفاعل المستمر بين اللغة والواقع، تغدو اللغة مرآةً تنعكس فيها التجارب الوجوديّة والروحيّة والأخلاقيّة والعاطفيّة والجماليّة للإنسان، وعدسةً تتكشف من خلالها رؤيته للعالم، بما هي رؤية نابعة من صميم وعيه، ومجسّدة لصورة ذاته في مرآة اللغة.
لم يَعُد اختزالُ اللغة بوصفها أداةً تواصليّةً محضة مقبولًا في نظر جماعة من الفلاسفة، منذ أن أدركوا أن اللغة ليست مجرد قناة تمرّر المعاني، بل هي حقلٌ خلّاق ينتج المعنى، ويعيد تشكيل الوعي، ويؤسس لرؤية الإنسان للعالم. كان الفيلسوف، واللساني، والدبلوماسي الألماني، فيلهلم فون همبولت، "1767 – 1835"، من رواد فلسفة اللغة الحديثة، إذ طرح نظريته الرائدة في أن اللغة ليست وسيلة لنقل الفكر فحسب، بل هي قوة خالقة للفكر ذاته، وأن الإنسان لا يُدرك العالم إلّا من خلال اللغة التي يتكلمها، لأنّها تصوغ رؤيته وتُنتج تجربته للوجود. همبولت من أوائل من وعى أن اللغة لا تعكس الفكر فقط، بل تصوغه وتنتجه، وأن الإنسان لا يُبصر العالم إلا من خلال اللغة التي يتكلمها، إذ ترسم كلُّ لغة أفقًا خاصًا للوجود، وتخط خارطة الرؤية، وتكوّن الصورة الذهنيّة للعالم.
لا تمثل اللغة عند همبولت أداةً محايدة تنقل ما سبق تكوينه في الذهن، بل هي الفضاء الذي تُصاغ فيه الأفكار ذاتها، والمجال الذي تتشكّل فيه خبرة الإنسان بالواقع. ليست اللغة وعاءً جامدًا للفكر، بل هي كيانٌ حيٌّ، يتغذى من التجربة، ويعيد إنتاجها بصيغة رمزيَّة تفتح الوعي على معنى العالم ومكان الإنسان فيه. ومن هنا، فإن اختلاف اللغات لا يعود إلى تنوع الكلمات أو القواعد فقط، بل إلى اختلاف الرؤى التي تُنتجها كل لغة للعالم. كل لغة تتضمن رؤية ضمنيَّة للعالم، وتُنتج تصورًا خاصًا بها للوجود والإنسان والله. وهذا ما يجعل للغة وظيفة تكوينيَّة لا مجرد تواصليَّة. يتكلم الإنسان بلغته، لكن لغته في الوقت نفسه تتكلم فيه، تشكله، وتبني صورته عن نفسه وعن محيطه.
هذه الرؤية تتردد أصداؤها في مقولات لاحقة لفلاسفة، مثل النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين "1889 – 1951"، الذي شكّلت أعماله منعطفًا حاسمًا في فلسفة المعنى، إذ بدأت رؤيته من تصور منطقي صارم للغة في عمله المبكر "رسالة منطقيّة فلسفيّة"، حيث رأى أنّ اللغة تكتسب معناها من قابليتها لتصوير الواقع، وأن الجملة ذات المعنى هي التي تماثل حالة واقعيّة ممكنة.
لكن هذه الرؤية تغيّرت بعمق في كتاباته المتأخرة، وخصوصًا في "تحقيقات فلسفيّة"، حيث تخلى عن فكرة المعنى بوصفه تطابقًا بين اللغة والعالم، وذهب إلى أن المعنى لا يسكن الكلمات بذاتها، بل ينبثق من طريقة استعمالها في الحياة اليوميَّة. في هذا الإطار، صاغ عبارته الشهيرة: "حدود لغتي هي حدود عالمي"، مشيرًا إلى أن الإنسان لا يُدرك العالم إلا من خلال اللغة التي يفكر ويتكلم بها، وأن ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح لا يمكن التفكير فيه أو تشكيل وعي حيّ به.
المعنى لا يُفهم خارج سياق الاستعمال، ولا يستقر في الكلمات بوصفها رموزًا ثابتة، بل يُنتَج داخل ما سمّاه "ألعاب اللغة"، أي الأنشطة المختلفة التي تُمارَس فيها اللغة، مثل الوعد، والسؤال، والاعتذار، والتعليم، والدعاء، وغيرها.
كل "لعبة لغويَّة" تمثّل نظامًا خاصًا من المعاني، محكومًا بقواعد ضمنيَّة يتشاركها المتكلّمون. وهكذا، يتحوّل المعنى من كونه علاقة ثابتة بين الكلمة والشيء، إلى كونه فعلًا بشريًا حيًا، لا يُفهم إلا في ضوء الممارسة والسياق والتفاعل. وبذلك تتحول اللغة من أداة لنقل الفكر إلى أفق لتكوّن الفكر ذاته، ومجال تتشكل فيه رؤية الإنسان للعالم.
أما مارتن هايدغر "1889 – 1976"، فقد أعاد التفكير في معنى الكينونة من منظور أنطولوجي جذري، إذ جعل فيه اللغة ليست أداةً للتعبير أو وسيلةً للتواصل فحسب، بل شرطًا أساسيًا لانكشاف الوجود وظهور المعنى.
يرى هايدغر أن الفهم الإنساني لا يُختزل في نشاط ذهني مجرد أو عملية تمثيل معرفي داخلي، بل هو نمط من الوجود في العالم، حيث لا يكون الإنسان كائنًا مفصولًا عن العالم، بل مندمجًا فيه منذ البداية، في علاقة حية ومباشرة مع ما حوله.
نحن لا نفهم العالم من خارجه، بل من داخل اندماجنا العملي به، بوصفنا كائنات منخرطة في شؤون الحياة، نتعامل مع الأدوات، وننشغل بالآخرين، ونتحرك ضمن أفق من التوقعات والغايات والماضي الشخصي. هذا الانخراط العملي هو ما يتيح للفهم أن يحدث بوصفه انكشافًا للوجود؛ فالكائنات لا تُفهم بوصفها موضوعات منفصلة، بل تتجلى لنا في ضوء علاقاتنا بها، وفي سياق استخدامنا لها، ومعانيها بالنسبة لنا. الفهم، بهذا المعنى، ليس تصورًا نظريًا لما هو موجود، بل هو طريقة في ظهور الموجود من داخل علاقة وجودية بين الإنسان والعالم.
ما يجعل الفهم ممكنًا ليس قدرة الإنسان على التفكير الذهني فحسب، بل كونه كائنًا مهمومًا، منشغلًا بوجوده، قلقًا على مصيره، لا يعيش على هامش العالم بل في صلبه. الفهم عند هايدغر هو شكل من أشكال انكشاف الوجود، حيث ينكشف الوجود للكائن الإنساني بوصفه منفتحًا عليه ومشاركًا فيه، لا بوصفه مراقبًا خارجيًا. في هذا السياق، قال عبارته الشهيرة: "اللغة بيت الكينونة".
لا تعني هذه العبارة أن اللغة تحيط بالكائنات أو تصفها وحسب، بل إن الإنسان لا يسكن العالم إلا باللغة، وأن الكلمة، في نظره، ليست مجرد إشارة لشيء خارجي، بل حدث وجودي يوقظ الكينونة، ويضيء المعنى، ويفتح أفقًا لفهم الذات والعالم.
في تصور هايدغر، ما لا يُقال لا يُفهم، وما لا يظهر في اللغة يظل محجوبًا عن الحضور. ليست اللغة إضافة على الفكر، بل هي التي تمنحه إمكانية الظهور، وتُهيئ للكينونة أن تُقال. الإنسان لا يملك اللغة، بل تسكنه اللغة، ويقترب من الوجود بقدر ما تُنير له اللغة طريق الرؤية.
وهكذا، تتحوّل اللغة إلى بيت يؤوي فيه الإنسان وجوده، ومجال تتجلى فيه الحقيقة، ومرآة ينعكس فيها المعنى. بهذه الرؤية، تتجاوز اللغة وظيفتها الأداتية إلى أن تغدو أفقًا للكينونة، ومجالًا لانكشاف الوجود، ومرآةً لتجليات المعنى، حيث لا يدرك الإنسان نفسه والعالم إلا بقدر ما تتجلى له اللغة بوصفها بيتًا للوجود.
وعمل أحد أبرز فلاسفة التأويل في القرن العشرين، وأقصد هانز غيورغ غادامير "1900–2002"، في عمله الأهم "الحقيقة والمنهج"، على إعادة بناء مفهوم الفهم، منتقدًا التصورات التي اختزلت المعرفة في قواعد علمية صارمة. إذ يرى غادامير أن الفهم لا يتم خارج التاريخ، بل هو دائمًا مشروط بتاريخية الوعي، بما ينطوي عليه من تحيزات ومسبقات تشكل أفق المتلقي وتوجّه تأويله. الفهم، بحسب غادامير، لا يحدث من خلال استنطاق المعنى بمعزل عن الذات، بل يتولد من تفاعل "أفق القارئ" مع "أفق النص"، وهذا التفاعل يولد ما يسميه "تلاقي الآفاق"، حيث ينبثق المعنى من الحوار بين الماضي والحاضر، بين النص والتجربة، بين اللغة والحياة. اللغة عند غادامير ليست أداة محايدة تنقل المعنى، بل هي الحقل الذي يتكشف فيه المعنى ويتجلى من خلاله الوجود.
الإنسان لا يقف خارج اللغة، بل يسكنها، وكل فهم للواقع مشروط باللغة التي نتكلم بها. التأويل إذن لا يتم من موقع حيادي، بل هو انخراط كلي في حوار حيّ مع النص، ومع التقليد الذي ننتمي إليه. من هنا لا تكون الحقيقة شيئًا يُمتلك، بل شيئًا يتجلى في الحوار، بوصفه فعلًا وجوديًا لا معرفيًا فقط. تلتقي رؤية غادامير مع تصورات فيلهلم فون همبولت، الذي رأى أن كل لغة ترسم تصورًا خاصًا للعالم، وأن الإنسان لا يبصر الوجود إلا من داخل لغته، كما تتلاقى مع تأويلية أستاذه هايدغر في اعتبار اللغة بيت الكينونة، ومع فلسفة فيتغنشتاين المتأخرة التي تؤكد أن المعنى لا يوجد خارج الاستعمال، بل يُولد في ألعاب اللغة وسياقاتها. بهذه الرؤية، تتحول اللغة من أداة وصف إلى أفق للفهم، ويتحوّل التأويل من تقنية إلى حدث وجودي، يتخلق فيه المعنى في كل لحظة لقاء حيّ بين النص والقارئ.
تتردد أصداء هذه الرؤية أيضًا في أعمال لاحقة لفلاسفة مثل، الفيلسوف الفرنسي بول ريكور "1913 – 2005"، الذي يذهب إلى أن الرمز والاستعارة في اللغة ليسا زينة، بل أدوات توليد المعنى، مما يجعل اللغة مصدرًا للفكر لا مجرد ناقل له. ولدى عالم اللسانيات الأميركي، بنيامين لي وورف، "1897 – 1941"، الذي يرى أن بنية اللغة تؤثر في بنية الفكر والإدراك، وهي صيغة حديثة لفكرة همبولت عن "رؤية العالم من خلال اللغة". وكذلك نقرأ هذه الرؤية في مؤلفات فلاسفة لغة آخرين.
تلتقي هذه الرؤية للغة مع ما تنهض به فلسفة الدين التأويلية، في سعيها الدؤوب إلى تحرير لغة الدين من أسر المعجم التراثي، وتخليصها من القوالب التي عطلت رؤيا لغة الغيب، وتعطلت معها منابع الذوق والحدس والمشاهدة. لا تنظر فلسفة الدين إلى لغة الغيب بوصفها مجرد ناقل للحقيقة، بل ترى فيها أفقًا يتشكل فيه المعنى، ومسارًا تتجلى فيه تجارب القلب، وتشفّ من خلالها تجليات الحضور الإلهي.
في ضوء هذه الرؤية، لا تُختزل اللغة الدينيَّة في الوظيفة التقريرية أو الإخبارية، بل تُبعث فيها الحياة الروحية بوصفها حقلًا من الرمز، ومجالًا للتعبير عن مكاشفات الروح، وتجليات الغيب، وتذوق نكهة المحبّة في مقام الحضرة الإلهيَّة، وتجليات الجمال الإلهي في الوجود. لا تعود اللغة سلطة تُلقِّن، بل تتحول إلى رؤية تُلهِم، وتوقظ القلب، وتفتح بصيرة المتلقي على عوالم تتجاوز حدود العبارة، وتتسع لما لا يُقال، وما لا يُختصر في المنطق الجدلي. بذلك تخرج اللغة من ضيق المعنى الحرفي إلى سعة التأويل، ومن التصور المغلق إلى الانفتاح على التجربة الروحيَّة الحيَّة، فتصير اللغة أفقًا يتخلّق فيه المعنى، لا حجابًا يحجبه، وتغدو علاقة الإنسان بالله علاقة إشراق نورانيَّة، لا إملاءً وتلقينًا، ومجالًا لتذوق المحبّة والرحمة والسلام والجمال.