يبقى الكاتب كاتبًا ما دام يُفكِّرُ ويقرأ
أ. د. عبد الجبار الرفاعي
2024-11-06 06:31
الكتابة يغذيها التساؤل والتفكير النقدي، والقراءة المتواصلة، والتأمل العميق، وغربلة وتمحيص الآراء، والشجاعة في إعلان أخطاء كتابته وبيان ثغراتها، وفضح أوهامه. ما يعرفه الكاتب يضمحل بمرور الأيام ما لم يثره على الدوام بما هو جديد. يبقى الكاتب كاتبًا ما دام يتساءل ويفكر ويقرأ ويتعلم ويطور تجربته الكتابيّة، فإذا شعر أنه استغنى بما لديه، وكف عن القراءة والتعلم والتفكير لم يعد كاتبًا.
ليست هناك كتابة مبرّأة من استعمال الكلمة بوصفها قناعا ينشد تمرير ما تخفيه دوافع الكاتب الواعية وغير الواعية. القارئ الذكي يتلصص على نوايا الكاتب، يحاول اكتشاف ما يختبئ بداخله. الكتابة كرسالة للقارئ، تعلن عن الصريح، وتخفي المضمر. المضمر لا يكتشفه إلا القارئ الذكي. ما دام الكاتب يحلم بالكمال فلا يمكن أن يرضيه بشكل كامل أيُّ منجز ويراه نهائيًا.
الرضا نسبي، حتى لو رضيتُ اليوم عن كتاب أصدرته أو مقالة نشرتها، فحين أعود إليها بعد سنوات أشعر بالحزن أحيانًا من شيء مما ورد فيها، فمثلًا حين أقرأ ما كتبتُه قبل أكثر من أربعين عامًا أجدني كتبتُ شيئًا من أحلام هوية جماعتي وتطلعاتها للغد، أحلامي كانت حبيسة مخيلة الجماعة ونرجسياتها وسردياتها ويقينياتها غير المبرهنة، من دون أن أفكر فيها بعمق أو أُمحّصها.
وظيفة الكاتب كشف الأزمات والمشكلات التربويّة والتعليميّة والأخلاقيّة والروحيّة والمعرفيّة في الحياة، والإعلان عنها للمتخصّصين، ومحاولة اقتراح معالجات لها. أعرف بعض الكتّاب يمتلك مفردات قليلة، وثقافته بسيطة، ولا يقرأ شيئًا، غير أنه يدور بهذه الكلمات لكلِّ موضوع يكتبه في الأدب والفن والاجتماع والمعارف المتنوعة. يكتب مقالات مطولة تنشر في الصحافة باستمرار، لو حاولتَ أن تضع النصف الثاني من المقالة محلّ النصف الأول لن يتغير شيء، وهكذا لو حذفت أية فقرة أو استبدلتها بأخرى. عندما يكتب في الأدب والفن يكرّر الكلمات والمضامين ذاتها، وهكذا لو كتب في السياسة والاجتماع والرواية والنقد الأدبي والثقافي. لا تعرف ماذا يريد، وأظن أنه هو أيضا لا يعرف ماذا يريد، وربما لا يعرف من الكتابة إلا إعادة تركيب هذه المفردات بسياق جديد كلّ مرة، من دون أن تنتج معنى مفيدًا يلامس الموضوع الذي يكتب فيه. الكاتب الحقيقي يفكر أكثر مما يقرأ، يقرأ 1000 صفحة، ويفكر بتريث، ليكتب صفحة واحدة، هذا هو الكاتب الذي تفرض كتابته حضورها الأبدي في المكتبة. في بلادنا معيار النجاح والتفوق كمّي لا كيفي، في التربية والتعليم والثقافة والإعلام والسياسة. حدثني صديق أكمل الماجستير في جامعة أميركية بتخصّص علم الاجتماع قبل 40 سنة، يقول: كتبت رسالة الماجستير في 150 صفحة، عندما طالعها الأستاذ المشرف انتخب 27 صفحة فقط وأهمل الباقي، وقال لي: هذه هي الرسالة فقط، وما تبقى فائض لا ضرورة له.
النقد العلمي يتعذّر أن يتفهمه مَن تنتقده، فليس من السهل إبداء أية ملاحظة نقدية مباشرة لكتابة كاتب في مجتمعاتنا، غالبًا ما تكون ضريبة هذه الملاحظة فادحة تتصدع فيها الصداقات مهما كانت راسخة، وربما تضمحل علاقات تاريخية بشكل متسارع إثر نقد علمي. لذلك تقع الكتابات المسمّاة نقدية بين حدّين، فهي إما تصفية حساب مع مَن يريد أحدهم أن يهجوه ويزدريه، ومثل هذه الكتابة ليست من النقد بشيء، وإن كان كاتبها يسميها نقدًا. وإما تتضخم وتتراكم وتطغى كلمات المديح المجوّفة كمطر منهمر لمن لا يستحق، ويبرع في صياغتها بعضُ الشعراء والكتّاب، ووعاظ السلطات السياسيّة والدينيّة، ويضيف إليها ويسقيها كلَّ مرة بكلمات مثيرة للدهشة ومبالغات مضجِرة.
تتكرّر كثيرًا عبارة: "الاختلاف لا يفسد للود قضية"، يردّدها كثيرون غالبًا ويسوقونها وكأنّها من البداهات، غير أن معظم مَن يردّدها يخونها. يحتاج الإنصات للنقد العلمي والحوار إلى تهذيب وتربية متواصلة حتى تتقبّله الذات. لكي تتجذر أخلاقيات النقد ينبغي أن تبدأ التربية عليه منذ الطفولة داخل العائلة، وظيفة الأبوين بناء وعي الطفل على الحقّ في الاختلاف، والحقّ في الخطأ، والحقّ في الاعتراف بالخطأ، والحقّ في أن له حقوقًا كإنسان حرّ في حرية التفكير وإبداء رأيه الصريح، وإن كان مختلفًا عن رأي أبويه وعائلته، تضاف هذه الحقوق التربوية إلى حقوقه في الاحترام والاهتمام والأمان والعيش الكريم والرعاية. يجب أن تبدأ تربيته على هذه الحقوق منذ طفولته المبكرة، وتترسّخ في المراحل الدراسية المختلفة، من الروضة إلى آخر مرحلة في الدراسات العليا.
ما لم تتعلّم وتعمل سلطاتنا السياسية والدينية ومجتمعاتنا على التربية على الحقّ في الخطأ، والحقّ في الاختلاف، والحقّ في إبداء الرأي وإن كان مضادًا، فلا يمكن أن نتعلم ونعمل بتقاليد الإنصات للنقد العلمي، والحوار الذي يغربل الآراء ويمحّصها، ويختبر مصداقيتها في الواقع. مَن يتربى على هذه الحقوق والنقد العلمي يكون قادرًا على نقد ذاته ومراجعة وثوقياته في محطات حياته المختلفة، والتحرر منها إن كانت غير مبرهنة.
بعد الفراغ مثلًا من قراءة كتاب استثنائي يدلّل عقليًا بصرامة على ما يسوقه من أفكار وآراء، تتزحزح يقينيات القارئ الذكي، الذي يمتلك شجاعة عقلية لنقد ذاته وغربلة أفكاره ومعتقداته، ويرى يقينياته غير المبرهَنة تنهار، وشيئًا من قناعاته الموروثة تُمحى، وتحلّ محلّها قناعات مبرهَنة، وعندئذ تتبدّل رؤيته للعالم، ويشعر كأنه وُلد من جديد.
حاجة الكاتب لقراءة الكتابات النوعية العميقة كحاجته للرشد والتكامل، لا تنتهي هذه الحاجة ولا تتوقف مادام كاتبًا. استعلاء بعض الكتّاب أوهمهم بالاكتفاء بما يعرفون، وأشعرهم بعدم الحاجة إلى قراءة أيّ جديد، مما أوقعهم بوهم الاستغناء والاكتفاء بما يعرفون، الذي جفّف بالتدريج الروافدَ الضروريّة لتفكيرهم النقدي وثقافتهم، فنضبت روافد وعيهم، واضمحل ما يعرفون من قبل، وغابوا عن الواقع الشديد التحول، ولم يعد لديهم المنجم الذي يزودهم بما تتطلبه الكتابة الحقيقيّة.
أعرف كتّابًا كانوا يكتبون بشكل جيد، لكن شعورهم بالاكتفاء دعاهم لترك القراءة، وعدم مواكبة ما تراكمه المعرفة كلَّ يوم، فلبثت كتاباتهم تضمحل ويهملها القراء الأذكياء، بعد أن رأوها تكرّر كلَّ شيء، وكأن كلَّ شيء يتغير إلا ما يكتبون. بعد صناعة الاسم يكفّ بعض الكتّاب عن التزود بالمزيد من المعارف، وإثراء وتطوير مهاراته الكتابية. الشهرة تصنع هالة وسلطة تخضع لها النفوس طوعًا، فتسوّق الشهرة كتابة الكاتب بشكل واسع، وإن كانت رديئة. أحيانا يكتب كاتب غير معروف نصًا فريدًا ونادرًا، لكن لا ينتبه إليه أحد، فيرحّل إلى كهف النسيان.
ما زلت أقرأ كثيرًا وأكتب قليلًا، حاولت أقرأ للـكلِّ، وإن كنت نسيتُ الكلّ، وانتجتُ نسختي الخاصة. لا أستطيع الحكم على كتاب قبل أن اقرأه، لا أعتمد ما يقوله خصوم الكاتب، ولا عشّاقه. يحدث حجاب بيني وبين الكاتب، إن كانت كتبه غارقة بالدعاية، ولا تحظى باهتمام الخبراء. أعرف بعض الكتب لا تساوي ثمن الورق المطبوعة عليه، ومع ذلك تنتشر بين القراء انتشار النار في الهشيم وأعرف بعض الكتب الثمينة في حقلها لا يكترث بها أحد إلا الخبراء. ليس بالضرورة أن يفرض الكاتب حضوره بقيمة وعلمية ما يكتبه، وبمصداقية تعبيره عن الواقع دائمًا. بعض الكتّاب اتخذتهم أحزاب ماركسية وقومية وأصولية مرجعيات ملهِمة لها، ففرضت كتاباتهم حضورها الواسع عبر جهاز الدعاية والتسويق لأحزابهم، وإن كانت قيمتها الفكرية متواضعة، وأحيانًا بائسة. الفكر الذي يفرض نفسه غالبًا يسوّقه حزب فاعل ومؤثر، أو تفرضه سلطة دينية تخضع لها الأرواح طوعًا، أو سلطة سياسية ترضخ لها العقول والإرادات قهرًا.
كانت وما زالت أدبيات مؤسسي ومنظري الأحزاب والجماعات في بلادنا تتكرّر إصداراتها باستمرار بغضّ النظر عن قيمة مضمونها، خاصة عندما يستولي أتباعها على السلطة. كتابات ميشيل عفلق مثلًا، كانت تطبع ببيروت بغزارة، ويتكرّر إصدارها بشكل مثير، وتوزع بشكل واسع ببغداد وغيرها من المدن العراقية، ولم تكفّ المطابع عن نشرها إلى سنة 2003. حزب البعث فرضها سنوات سلطته في العراق للتثقيف الحزبي لأعضائه، ولتعميم شعاراته بين المواطنين، على الرغم من أن كتابات عفلق غارقة بإنشاء سياسي مملّ، وأوهام رومانسية، تعكس بؤس العقل وفقر الخيال، بلا رؤية معرفية عميقة، ولا وعي للتاريخ وذكاء باستنطاقه، وبلا لا وعي علمي بالواقع، واستكشاف لمأزقه وتحدياته وبواعث أزماته. لم يعرف عن عفلق عقلية عميقة أو عبقرية استثنائية في التنظير، ولا بصيرة بالواقع، ولم يكن معروفًا باهتمامه بالقراءة والكتاب الجديد. يمتلك عفلق دهاء ومكرًا ومراوغة، ومقدرة على التسلق، وتصفية مَن يقف في طريقه بيد غيره، كما يشهد بذلك رفاقه.
تحدث عن مطالعاته واهتمامه بالكتب مرة جورج طرابيشي، الذي يعرف عفلق جيدًا، في محاضرة فقال: "تنوّع آبائي الذين اخترتهم في فترة من عمري، أول شبابي اخترت ميشيل عفلق، وصرت بعثيًا، لكن لم يدم الأمر طويلًا لسبب بسيط، وهو أني كنت أتقن اللغة الفرنسية، ولما كانت الوفود الأجنبية تأتي وتريد لقاء عفلق - وهو مؤلف كتاب مشهور تربينا عليه، اسمه (في ذكرى الرسول العربي) - كنت أقوم بالترجمة، فسأله الوفد اليوغسلافي الذي جاء لمقابلته حينها: (ما هو آخر كتاب قرأته؟)، فإذا بي أفاجأ بجواب صدمني، وأنا الذي كنت أتعبد له وأقدسه، أجاب عفلق: (أنا أفتخر بأني منذ خمسة عشر عامًا لم أقرأ كتابًا واحدًا، وكلّ ما كتبته هو من بنات أفكاري!)، فُجعت، فأنا كنت عاشقًا للثقافة من صغري، ومحبًا للكتب، فصعقني هذا الجواب من عفلق" *.