حموضة الإبداع
د. جليل وادي
2024-07-23 02:05
في غاية الأدب الجم والخلق الرفيع ذاك الذي صاغ عبارة المثل القائل (الما ينوش العنب يگول حامض)، فلم ينل من العنب اللذيذ بكلام سيىء، ولم يجرح الذي وصف العنب بالحامض صراحة، وان كان المعنى الضمني للمثل يحتمل الكثير من التأويل، ومع أن لا صاغة محددين للأمثال، ذلك انها حصيلة تجارب شعوب سبكت جملها بمرور السنين حتى لا زيادة او نقصان فيها، كما يسبك الصاغة حُلي الذهب، ولا صاغة ماهرين أكثر من الذين يتمتعون بعمق حضاري وثقافي كالعراقيين والمصريين والصينيين والاغريق، اما شعوب (دول أول امبارح) فأمثالها باهتة، ولا (تمس القلب) على حد وصف أهالي الفرات الأوسط من بلادنا.
يحضرني هذا المثل، وأمثال أخرى يتعذر ايرادها في هذا المقام، عندما يعمل البعض على تسخيف انجازات الآخرين، بينما هم غير قادرين على الاتيان بمثلها، ولم يتأخذوا منها حافزا لتطوير أنفسهم، والارتقاء الى مستوى أصحابها. وبيقين أقول: ان المبدعين لا تضيرهم منجزات الآخرين، بل تفرحهم، وتعطي لإنجازهم معنى. من حق المبدع أن يرى في الآخرين مرآة له، يشعر من خلالها بتقدير الذات، بسماعه اشادة بإنجازه، فذلك يشحذ الهمم، ويزيد الحماس لمواصلة الابداع، ويخلق مناخا للتنافس الشريف.
انصتوا للفنانين المصريين الذين ما أن تسأل أحدهم عن زميله حتى يعلي من نجمه، ويُكبر من مقامه، ويصفه بالجميل من الألفاظ، ويعطيه مقام المعلم الذي لا معلم بعده، مع ان الموصوف أقل مستوى في مهاراته، وأدنى نوعية في انتاجه من الواصف، هذا درس في الأخلاق، واتجاه نبيل لديمومة الابداع.
يتفنن البعض بتسخيف منجز الآخر، بينما نتمنى أن يكون التفنن في خلق المنجز المنافس، ولكن يبدو كلامي كمن يريد حليبا من الثور، ومع ذلك يريدون تصدر المجالس واعتلاء المناصب، ولا يرضيهم الا أن يبقى المبدعون في دائرة الظل، يضعون غشاوة عليهم، لكي لا ترى الناس أفضليتهم، متناسين ان الابداع له لسان ويتكلم.
مساحة تسخيف الانجاز تتسع، والروح الانتقادية تتزايد، وأعجب لمنتقد حالة لا يقترح البديل، كثيرون تتقدم في أحاديثهم كلمتا (يجب) و(يُفترض)، لكنهم لا يبادرون للتدليل على حسن ادارتهم لسلوكهم وبيوتهم ومؤسساتهم، مثلهم كمثل بعض السياسيين الذين يصرخون على الدوام: بان على الحكومة أن تعمل كذا، وأن تتخذ كذا، مع انهم هم الحكومة، ويكيلون لها الاتهامات، بينما وزرائهم أعضاء فيها، وهم من صمم نموذج النظام السياسي، ومن أشرف على تنفيذه.
أكاد أجزم ان السفن لن تصل الى مرافئها بسلام، مالم يسّلم مقودها للمبدعين والأكفاء في الادارة ولأهل الانجازات، وما الخراب الذي نحن فيه، الا بسبب تولية زمام الأمور لأصحاب الولاء، وغالبيتهم بلا تجربة وبلا انجاز، وليس لديهم الرغبة في التطور، وليس عندهم الاستعداد للتعلم، ونريد منهم حليبا صافيا، يا لمصيبتنا.
من لا يجعل المنافسة في الوصول الى دوائر صنع القرار بين أصحاب المنجزات، فالفشل مصيره ان آجلا او عاجلا، ولن ينفعه القول: أنه لا يعرف او يدري ان الحال ستكون على ما هي عليه، لأن المنجز يعني الخبرة والدراية والمعرفة بحيثيات الأمور، ولعل في تجاربنا الماضية ما يدلل كيف انتهت الأمور الى مآس عندما جرى تفضيل أصحاب الولاء على أصحاب الانجاز.
فالعمل هو المعيار الذي يفترض الاحتكام اليه، وليس النوايا التي نظنها في الآخرين، او ما يقولونه أمامك وليس هناك ما يثبته، او الأيمان الغليظة التي يقسمون بها، أرجو ألا يكون كلامي (حامضا) على الذين أقسموا على خدمة العراق وشعبه، وانتهت أيمانهم الى الاستحواذ على سلال العنب وتقاسمها مع الغرباء.