عضَّةُ كلب

مذكرات قابلة للنسيان الحلقة (4)

علي حسين عبيد

2023-10-11 04:53

حين عدتُ إلى البيت من المدرسة في بداية السنة الدراسية الجديدة، كنتُ حزينا إلى حدّ أنني لم أتناول وجبة الطعام المعتادة بعد المجيء من المدرسة، وحين سألتني أمي عن السبب، أخبرتها بأنني فقدتُ صديقي الأول (حسنين)، فربما لا أراه مجدّدا، وظل هاجس الفقدان يلازمني ساعات النهار، حتى في الليل لم يفارقني وجه حسنين، لابد أن أبحث عن بيته، شعرتُ بصعوبة فقدان الصديق الذي ملأ الفراغ تماما، ذلك الفراغ الذي لا أستطيع تفسيره، فراغ مجهول يجعلك حتى وأنت طفل تشعر بشيء ما ينقص حياتك...

ثم تذكرت الطفلة سميرة التي أصابها مرض السرطان، وماتت في السادسة من عمرها، سميرة بنت جيراننا، لعبنا معا في الزقاق، كنتُ استلطفها، وكان شكل وجهها مختلفا عن الأطفال الآخرين، وجه شديد البياض، أهداب جفونها لونها أحمر، وعيناها زرقاوان، طيبتها غريبة، أتذكر لحظات دفنها، رافقتُ أبي في مراسيم الدفن ولم يمانع من الذهاب معهم إلى المقبرة، كانت بي رغبة شديدة كي أرى حفرة القبر، فدنوتُ منها، ورأيت جسد سميرة الصغير يُحمَل ويُسلَّم إلى الدفان الذي تلقّف جسدها كأنه صيد ثمين، ثم رأيت جسد سميرة وهو يُحشَرُ في حفرة القبر، لا أعرف بماذا شعرت في حينها، لكنني كنتُ مصدوما بشدّة، ومستاءً من شيء لا أفهمه، ما معنى أن يموت الطفل الصغير وأن يُخفى جسده في حفرة عميقة، ثم رأيت الجميع وهم يحثون التراب بأيديهم نحو فوهة القبر، وفي لحظات غاب جسد سميرة واستوت حفرة القبر مع الأرض، وغاب الجسد الصغير إلى الأبد، كتلة حزن هائلة جثمت فوق صدري حتى أكاد أختنق، عدتُ إلى البيت مصدوما محطما صامتا، أعاني من حزن بالغ، كان الطفلُ في داخلي يتساءل لماذا نحيى ولماذا نُدفَن؟

سئمت من حالة الفقدان التي ظلت تلازمني مثل ظلي، ثم قررت في يوم الجمعة حيث لا يوجد دوام في المدرسة، أن أذهب إلى المنطقة التي يسكنها صديقي الأول حسنين، وأبحث عنه، وأسأل الناس في تلك المنطقة كي أصل إليه، كان حسنين يسكن مع عائلته في منطقة تُدعى (الرحمانية)، أسمع بها من أهلي ومن الناس ولكن لا أعرف عنها أي شيء، تبعدُ بضعة كيلومترات عن منطقة سكني وعائلتي في حي الإسكان، لكنني لم أصل إليها سابقا، ذهبتُ ضحىً باتجاه منطقة الرحمانية، كنتُ وحيدا، لم أُخبِر أمي بذلك ولا أبي، قطعتُ المسافة في نصف ساعة تقريبا، مشيا على الأقدام، سألت بعض الأشخاص أطفالا وكبارا عن منطقة اسمها الرحمانية، و وصلتُ إليها، كانت بيوتها مختلفة عن بيوت حي الإسكان الذي أسكنه، فبيوتنا مبنية من الحجَر (الطابوق) وبيوت الرحمانية كأنها أكواخ صغيرة متلاصقة مبنية من (بردي قصب الأهوار)، وجدتُ نفسي في منطقة ذات شكل قروي، أعادتني منطقة الرحمانية إلى قريتي الأولى (أم البط)، أشكال البيوت (الأكواخ) متقاربة، أكواخ الرحمانية تشبه أكواخ قرية أم البط، وهناك مزروعات تطغي على هذه المنطقة كأنها ريفية، شعرتُ بمزاجي يتغير ونفسيّتي أكثر راحة وانشراحا، حيث الأشجار تنتشر هنا وهناك، وظلالها كثيفة تحمي الأرض من لفح الشمس، لم أعثر على طفل أو شخص في منطقة الرحمانية كي أسأله عن بيت صديقي (حسنين)، كانت الشوارع مقفرة تقريبا، كنت أتطلّع بلهفة نحو أبواب البيوت لعل أحد هذه الأبواب يُفتَح ويطل منه وجه حسنين، هكذا كنتُ أتخيّل إطلالة صديقي في أية لحظة من أحد أبواب الأكواخ المتراصّة إلى جانب بعضها، في هذه الأثناء وأنا أنتظر وجه حسنين كي أكمّل به نقصي وأتخلّص من قلقي، فاجأني كلْب أشهب اللون، أعجف الجسد، عظامه ناتئة كأنه لم يأكل الطعام منذ شهور، كان لسانه الطويل يتدلى من بين فكّيه، وكانت هناك مسافة كافية بيني وبينه، يمكنني الهرب بعيدا عنه، أنا أخشى الكلاب منذ السنوات الأولى من طفولتي، فذات يوم حين كنتُ في الرابعة أو الخامسة من عمري، كنتُ ألعبُ بالتراب خارج بيتنا الريفي أو كوخنا الصغير في قرية أم البط، كان الوقتُ ضحى كما أتذكر، كنتُ منشغلا بالتراب، أخطُّ عليه أشكالا لا أعرف ما هي، كان التراب ناعما لدرجة ساحرة، وكان باردا ومغريا وذا لون طيني لطيف، رسمتُ فيه ما كان يدور في مخيّلتي، والحقيقة لا أتذكر الآن ماذا رسمتُ على التراب الأسمر، لكنني كنتُ مستغرقا ومبهورا بسحر التراب، ففي القرية لا توجد (متنزّهات) ولا ألعاب للأطفال، وكانت متعتي الوحيدة أجدها في العبث بالتراب كيفما أشاء، غبتُ في عالم التراب، نسيت نفسي، أتذكر هذا جيدا وأنا في عمق الاستغراق الشديد، في تلك اللحظة رأيتُ كلبا ضخما، هو أحد الكلاب المسعورة في القرية، بغتةُ هجم عليَّ دونما سابق إنذار، طرحني أرضا على ظهري وأصبح جسدي الصغير تحته تماما، للآن أتذكر وحشية وجه الكلب وأنيابه الكبيرة التي اصطبغت خلال لحظات بدمي الأحمر، لقد غرز نابه الكبير في فخذ ساقي (اليمين كما أتذكر)، وأحدث نافورة دم رأيتها تتدفق إلى الأعلى، كان صراخي مرعبا، وكانت هجمة الكلب غير متوقَّعة مطلقا، أتذكر أنني صرخت عاليا (أبي، أمي) لكن لا جواب، لم يتوقف جريان الدم من فخذي، وكان الكلب كتلة ثقيلة تسكنُ فوق جسدي، وأكثر ما أرعبني وجه الكلب وأسنانه التي تحولت إلى كتلة من دمٍ قانٍ، هذه الصورة المرعبة سوف تعيش معي عمري كله، وسوف أبقى أخشى الكلاب جميعا، حتى المسالم منها، فما أن أرى كلبا في أي وقت كان، وفي أي مكان كان، حتى يشتعل في رأسي شريط تلك الحادثة التي جعلتني أشتعل فرحا حين سمعت أبي وهو يقول لأمي (سوف نغادر هذه القرية إلى المدينة وإلى الأبد)، وحين سألتْهُ عن السبب قال لها (شيخ القرية لا يكف عن معاداتي، إنه يترصّدني ويحاول إهانتي في كل حين، ليس أمامنا سوى ترك قرية أم البط نحو المدينة)، هنا شعرت بالارتياح الشديد، وفرحت لأنني سوف أغادر أنياب الكلب إلى الأبد، ولن أرى كلاب القرية مرة أخرى (لم يخطر في بالي أن حادثة الكلب بتفاصيلها سوف تبقى في رأسي سنوات عمري)، كنتُ سألتُ أمي حين عرفتُ بفكرة الانتقال إلى المدينة، (هل توجد كلاب في المدينة التي سننتقل إليها يا أمي؟) ولا زلت أتذكر جوابها إلى الآن: (الكلاب موجودة في كل مكان من الأرض يا ولدي).

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي