الثقافة والمثقف في عراق الأزمات
أ. د. قاسم حسين صالح
2019-04-22 06:45
بدءاً لنصحح فكرة شائعة باننا حين نقول مثقفا فان الذهن ينصرف الى انه اديب او شاعر او فنان او اعلامي، وهذا ليس صحيحا، فالمتخصص بالفيزياء مثقف ايضا وقل الشيء نفسه عن كل اختصاصات المعرفة، من العلوم التكنلوجية الى العلوم الانسانية.
وفكرة اخرى خاطئة هي ان كثيرين يرون ان الثقافة نوع من الترف، ويغفلون دورها في حياة الانسان، كونها هي التي تتحكم بسلوكنا، لأنها تمتلك اليات تشبه تلك التي يصممها مبرمجو الحاسوب. فكما ان البرنامج الرقمي (الدجتل) هو الذي يتحكم بعمل الكومبيتر، فانها اعني الثقافة، هي التي تتحكم بسلوك الفرد، فسبب اختلاف سلوك رجل الدين عن سلوك الأرهابي عن سلوك أي واحد منا هو الثقافة ،لأنها تعني – علميا- نوعية الأفكار والمعتقدات والأخلاق التي نحملها بخصوص انفسنا والآخرين والعالم.
ولهذا جرى الأعتراف بها دوليا في الاعلان العالمي لحقوق الانسان الصادر بقرار الجمعية العامة عام 1984الذي أكد على أن (لكل شخص الحق في ان يسهم بحرية في الحياة الثقافية للجماعة، وفي ان يتمتع بالفنون، و يشارك في مختلف انواع التقدم العلمي وفي الفوائد الناجمة عنها).
تلك مقدمة الهدف منها ان نحمل فهما مشتركا بخصوص الثقافة..لننتقل الى ما هو اهم، سوف نركز هنا على اشكاليات ومفارقات تخص الثقافة والمثقف في العراق قد تبدو لبعضكم غريبة.
الاولى: نــحن، العراقيون، منتــجون:
* الطغاة، رفعهم للسماء حين يكونون بالسلطة ونمسح بهم الأرض حين يسقطون.
* ولثقافة من يفلقون رؤوسهم بالحراب من أجل التاريخ والموت فداء لمن ماتوا.
* ولثقافة فرهود..حيثما حلّت بالوطن محنة.
* و..مدّاحين للسلطة والسلطان.
وبالضد من ذلك.. نــحن منتــجون ايضا:
* لثقافة مبدأ.. يشوى جسد صاحبها بالنار وما يتنازل عنه.
* ولمثقفين يحتمون بالجبال ولا يخضعون لطاغية.
* ولمبدعين من طراز رفيع.
* ولأكاديميين أسسوا جامعات في بلدان عربية.
* ولعقول مبدعة في دول اوربية..لدرجة ان الأطباء العراقيين في بريطانيا لو قرروا العودة الان الى العراق لتوقفت الخدمات الصحية في بريطانيا.
المفارقة الثانية:
وفقا للنظرية التطورية القائلة بأن "الجينات" السلوكية لقانون الانتخاب الطبيعي تعمل، عبر التاريخ التطوري للانسان، على تقوية مورّثات سلوكية معينة واضعاف او دثر مورّثات اخرى، فاننا لسنا فقط نتاج تكويننا البيولوجي الخالص، انما ايضا نتاج ما صنعته الثقافات من تأثير في مورّثات أسلافنا العراقيين، وانها تظهر في تصرفاتنا دون ان ندري.
وما ننفرد به ان اسلافنا العراقيين كانوا دنيويين.. يحبون الدنيا.. وليسوا أخر ويين كالاسلاف المصريّين الذين لديهم قناعة بانهم سيبعثون ويعيشون الى الابد حياة سعيدة.
والمفارقة هنا ان ثقافـة الآخروي تميل للزهد بالدنيا والتسامح مع الآخر، فيما ثقافـة الدنيوي تميل الى الخلاف مع الآخر لاسيما اذا تعلق الامر بالسلطة والثروة. ولك ان تتساءل: هل لهذا الأمر علاقة بواقع الحال الآن الذي صار لدى السياسي العراقي هوس بخزن المال يكفي لأحفاد احفاده وما يتوقف؟.
مرتبط بهذه المفارقة، ان جدنا السومري كان الوحيد في زمانه الذي يعدّ نفسه ابنا لألهه الشخصي وليس عبدا له، بعكس باقي الاسلاف زمنئذ حيث كان الفرد فيها عبدا لألهه!. ولك ان تتساءل ثانية:هل لهذا علاقة بـ "أنفة " العراقي و"تضخم أنا" المثقف؟
المفارقة الثالثة:
ان العراقيين ابتلوا بنعمتين: النفط والثقافة!.. لدرجة ان العراقي صار يتمنى لو استيقظ صباحا وسمع هذا الخبر: ( اكد الخبراء ان كلّ ما في العراق من نفط تسرب الى خارجه) يومها سيتبادلون التهاني..ويرددون:(ايه الله خلصنه من امريكا والفاسدين..كل واحد راح ياخذ خزنته ويروح لوطنه الثاني..كندا،بريطانيا،استراليا..)
اما التنوع الثقافي في العراق فانه كان أحد الأسباب الرئيسة في إشاعة العنف بين العراقيين على مدى أكثر من ألف عام بعد ان دخلت السلطة طرفا فيه، وان أسلوب العنف وليس الحوار هو الذي ترسّب في اللاشعور الجمعي لديهم في المسائل الفكرية الخلافية ، التي هي في محصلتها الأخيرة تتعلق بالسلطة . وأنه لم يصاحب هذه الثقافة الواسعة والمتنوعة والثرية في الاختصاصات الإنسانية ثقافة توازيها في الاختصاصات العلمية تعقلن الغلو في الرأي وتوجه الاهتمام نحو الواقع ومعالجة مشكلاته بمنهجية العلم ، فنجم عن عدم التوازن بين الثقافتين انشغال الناس بثقافة الاختلاف ، التي انشغل بها حتى باعة الخبز كما يذكر الجاحظ ، وإشغال السلطة لهم بها لتلهيهم عن التفكير بتغيير واقعهم..وأنه بفعل ذلك كان العراقي يميل الى التمرد على السلطة حتى لو كانت عادلة.
نأتي الى الأهم : كيف هو حال الثقافة والمثقف الآن في عراق الأزمات..عراق ما بعد جمهورية الخوف والحصار؟
وحصل ما كنا حذرنا منه في حينها يوم قلنا لمن هو في السلطة بان انتصار الضحية على من تعدّه جلادها سيدفعها سيكولوجيا الى التعبير بانفعالية في تضخيم ما اصابها من ظلم، وستشرعن الاقتصاص ممن كان محسوبا على الجلاد، وكالعادة فان سيكولوجيا السلطة في العراق لا تأخذ بما يقوله المفكرون وعلماء النفس والاجتماع..فكان الذي تعرفونه من الكوارث والفواجع.
بعدها بسنة ظهرت ثقافة اخرى هي ثقافة الأحتماء..فبعد ان تعطل القانون وصارت الحياة فوضى والسلطة لمن هو اقوى في الشارع..اضطر البغداديون بشكل خاص الى ان يغادروا بغداد ليحتموا اما بالعشيرة او المدينة التي ينتمي لها ..كأن يذهب الراوي الى راوه مثلا.
ومن يومها تراجعت ثقافة الانتماء للوطن التي توحّد،،وشاعت وتعمقت ثقافة الولاءات المتعددة التي تفرّق لتصل الى ابشع حال في احتراب الهويات القاتلة لسنتين كارثية(2006-2008).ومن يومها ايضا تراجعت ثقافة المواطنة التي سدد لها بريمر ضربة ثقافة التثليث(شيعة،سنة،كورد)،وثقافة التسامح وثقافة الحوار، لتظهر ثقافات متعددة الأسماء : ثقافة التحرير ، ثقافة الغزو ، ثقافة العمالة ، ثقافة الارهاب،ثقافة المقاومة،وثقافة كاتم الصوت.وكان اقبحها هي ثقافة الطائفية التي وزعت العراقيين الى جماعات تفرقها ثقافة التعصب وتجمعها ثقافة الكراهية.
اخيرا ناتي الى حال المثقف في عراق الأزمات.
لقد استطلعت رأي جمهور الفيسبوك عن حال المثقف..اليكم نماذج من اجاباتهم:
* المثقف العراقي يواجه ثقافة طائفية عشائرية مدججة بالسلاح والمال والنفوذ لكنه رغم ذلك يعمل ويبدع ويقاوم.
* المثقفون لا يملكون قوة المال ولا غاز مسيل للدموع والهجمة الان ضخمة وقوية.
* بدون زعل،لانهم لم يسمعوا كلام غادة السمان فهاجروا ثم ذبلت ازهارهم هناك ولم يدركوا ان الاشجار لا تهاجر.
* المثقفون..منهم من وجد ذاته بعيدا وغادر الوطن ولم يتذكره، والموجودون في واد والجماهير في واد اخر، ومنهم من انساق وراء مغريات السلطة للاسف.
* لا يوجد تاثير للمثقف على سواد الناس الذين يمثلون قاعدة الجهل العريضة ويتاثرون بخزعبلات الملا والمشعوذ،والبعض منهم يعتبر المثقف بانه ينشر الكفر بين الناس.
* لا يوجد مثقفون في العراق بل يوجد متعلمون يجيدون الكتابة واللغوة في المقاهي والمطاعم والفنادق الشعبية.
ثمة حقيقة سيكولوجية ستبدو لكم غريبة: ان الانسان يكون اشد قسوة من الوحش حين يتعرض الى الاحباط ويحرم من تحقيق اهدافه واشباع حاجاته.. توصله الى ان يستسهل قتل الاخرين، الا المثقف فانه اما ان يهاجر او يعيش بائسا او ينتحر، ونقصد بالمثقف هنا المثقف الحقيقي لا المثقف الذي وضعه السياسي في جيبه، المثقف الذي يمتلك نزعة انسانية ورؤية شاملة وضميرا اخلاقيا ومعارضة موضوعية لما يراه حقا وعدلا.
هذا المثقف يعيش اكثر من اشكالية:
الأولى سيكولوجية..يشعر فيها بالتهميش فيعاني بسببها الاغتراب وفقدان المعنى من وجوده في الحياة.
الثانية ..فجوة كبيرة بينه وبين المجتمع ..خلاصتها انه يرى المجتمع قد وصل الى حالة (بعد ما تصيرله جاره).
الثالثة الأخطر..اشكاليته مع السلطة..وهذه تحتاج ان نتوقف عندها لنوجزها بالآتي:
* المثقف ناقد بطبيعته للجوانب السلبية، فيما السلطة بطبيعتها لا تحب من ينقدها.(الحاكم العراقي يحيط نفسه بمستشارين يقولون له ما يحب ان يسمعه)
* الصورة التي يحملها المثقف عن السلطة انها (عدوة) له، والصورة التي تحملها السلطة عن المثقف الملتزم بقول الحقيقة انه (عدو) لها..وهذه مشكلة، لأنهما سيبقيان جبلان لا يلتقيان!
* السلطة اعتادت ان تقوم بدور المتحدث، وعودت الناس على دور المنصت، فيما المثقف يعدّ نفسه الاكفأ بالتحدث والاصدق..فتخشاه لأنه اقرب منها نفسيا للناس.
* السلطة تعدّ قناعاتها هي الصحيحة لأنها ناجمة، برأيها،عن (طبخة)ناضجة وعملية، فيما (طبخة) المثقف ناقصة برأيها..ولهذا فانها لن تستمع لرأيه حتى لو كان يمنح (طبخته) طعما طيبا..الا اذا كان حلوا في فمها.
* السلطة تميل الى التعميم وتعمل على ان تشيع ثقافة تنتج افرادا بالمواصفات التي تريدها هي، فيما المثقف يميل الى التفريد، ولا يضع للثقافة مواصفات او حدودا.
* السلطة تشعر بالنقص الثقافي امام المثقف، فتتولد لدى كليهما عقدتان سيكولوجيتان متناقضتان: شعور السياسي بالنقص وشعور المثقف بالاستعلاء.
..........................................................................................................