قصيدة النثر.. ترسيخ الحضور وإشكالية التجنيس
عادل الصويري
2016-04-09 11:01
رغم كثرة التسميات والعناوين التي أطلقت على النص المنفلت من نظام الشطرين والنظام الإيقاعي القائم على توزيع التفعيلات وتعددها؛ إلا أنّ تسمية قصيدة النثر ظلت الأكثر ثباتاً ورسوخاً من بين الأسماء الأخرى لهذا النوع من الشعر الذي ظل وحتى يومنا هذا مثار جدل واسع تمثل في المشكلات التي واجهت تجنيسه وتأصيله من جهة وتأكيد حضوره في المشهد الأدبي من جهة ثانية.
في كتابه (إشكاليات قصيدة النثر… نص مفتوح عابر للأنواع) يستعرض الناقد عز الدين المناصرة الأسماء التي أطلقت على القصيدة النثرية من 1905 وحتى عام 2001 وجاءت كمايلي : الشعر المنثور / النثر الفني / الخاطرة الشعرية / الكتابة الخاطراتية / قطع فنية / النثر المركز / قصيدة النثر / الكتابة الحرة / القصيدة الحرة / شذرات شعرية / الكتابة خارج الوزن / القصيدة خارج التفعيلة / النص المفتوح / الشعر بالنثر / الكتابة الشعرية نثراً / كتابة خنثى / الجنس الثالث / النثيرة / غير العمودي والحر / القول الشعري / النثر الشعري / قصيدة الكتلة / الشعر الأجد.
لو تأملنا جيداً في هذه التسميات لأمكن لنا اختصارها لتشابه بعضها لفظاً ومعنى على صعيد الدلالات والمقاصد كالنثر الفني والنثر المركز وكذا بالنسبة لمسميات من قبيل الكتابة خارج الوزن والقصيدة خارج التفعيلة وغير العمودي والحر. ومع كل هذه التعددية لنا أن نسأل: هل حققت القصيدة النثرية مكانها الذي تنشده في خريطة الشعر العربي المتكئ على إرث هائل؟ خصوصاً وان كتابها - كما يرى المناصرة - ناقشوا إشكاليات قصيدتهم عندما وضعوا بدائل غي متفق عليها ، فبعضهم رأى أن القصيدة الحرة هي ذاتها قصيدة النثر وليست قصيدة التفعيلة التي استنفدت - بحسبهم - طاقات صناعة الدهشة الشعرية والتجديد اللغوي واكتشاف العلاقات بين الأشياء وغيرها من متطلبات كتابة كتابة الشعر المتماهي مع المرحلة الجديدة ومتغيراتها المتسارعة .
ويبرز اسم الشاعر والناقد ادونيس كـ (مناضل) من أجل شرعنة القصيدة النثرية ، رغم أن كثيرين أشكلوا عليه اتكائه في مقالته النقدية التي أوضح فيها الخصائص الفنية لقصيدة النثر والتي كتبها عام 1960 على كتاب سوزان برنار على الرغم من اشارته هو لهذا الموضوع وان كانت اشارات من بعيد كما يرى المشكلون.
ويقول ادونيس بعدم خضوع الشعر للمقاييس النهائية بصفتها خلاصة ؛ لذلك يجب أن تتحرر اللغة وتنطلق إاى آفاق رحبة حتى وإن جوبهت بهجوم أصحاب (الذهنيات القديمة). ولكن، هل يشترط على من يتبنى منهج التحرر الأدونيسي أن يقدم نصاً يزخر بمصطلحات تنظيرية كفائض القيمة مثلاً أو الديالكتيك والميتافيزيقيا تحت يافطة (الكشف عما هو بحاجة إلى كشف)؟، أو يافطة الحداثة التي ظلت بلا جدار صلب تتعلق عليه لاستهلاك مضامينها بالشكل الذي يقترب من التيارات المؤدلجة الوافدة؟.
هذه التساؤلات، يمكن أن نجد لها إجابات من خلال استعراض خيري منصور لإحدى قصائد الشاعر اللبناني بول شاوول في مجموعته (الهواء الشاغر) فيقول عنها: " إن ما تحيل إليه هذه المجموعة هو منحى في الكتابة يشترك فيه الكثيرون، بتفاوت لافت للنظر وهو منحى يستثمر خلاصات نظرية عن الشعر بوصفه نشاطاً مجانياً، إنها عملية طرد للشعر من تأريخيته الإنسانية واللغوية ، ومن مدار النفوذ الإبداعي إلى اللهو المحض، وباختصار هو منحى يهمش الشعر من حيث يبالغ في الثرثرة ، إنه تأثيث لغوي فقير لفراغ فاغر في الروح والقلب معاً ! "1.
يشير خيري منصور في كلامه هذا إلى استسهال كتابة هذا الشكل الشعري لدرجة وصفه بالنشاط المجاني حتى يصل الى قناعته التي قادته للتصريح بأنها كتابات طاردة للشعر بشقيه الإنساني واللغوي .
وبالعودة لقصيدة بول شاوول وهي بعنوان (السقوط والمكان) التي اخذها خيري منصور كنموذج بنى عليه قناعته النقدية ، فأن القصيدة جاءت بثلاث مقاطع منتشرة على طول الصفحة بالشكل التالي:
أحياناً تسقط
لأنك
تختار
مكاناً
تسقط
فيه
أحياناً لاتسقط
لأنك
لاتجد
مكاناً
تسقط
فيه
أحياناً تسقط
ولاتسقط
لأنك
وجدت
مكاناً
لن
تسقط
فيه
يبحث الناقد عن اشعاعات النص ، ومايمكن أن يقدمه من دلالات وموحيات وإحالات فيحكم بأنه لم يجد سوى جمل إخبارية يحكمها منطق شكلي لاعلاقة له بأي فهم -مهما بلغت تجريديته - للشعر.
وإذا نسجت القصائد النثرية على هذا المنوال وهو المستبعد قطعاً فأن الحكم من الجهة المضادة سيكون جاهزاً بأن المشروع الحقيقي لقصيدة النثر هو تجريد اللغة من دلالاتها لتسبح في فضاء هذياني قبل أن ترسو عند تسلية لفظية زخرت وتزخر بها الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية ؛ فيحتدم الصراع الشكلاني بين المتمترسين في الخندق النثري الحداثي / الدادائي / السوريالي… ..الخ ، وبين المرابطين على ثغور القصيدة التقليدية مايعكس أحادية رؤيوية ليست غريبة أصلاً عن نمط التفكير العربي .
يتحدث النثريون كثيراً عن ثورة هائلة أحدثتها قصيدتهم، الأمر الذي يرفضه جملة وتفصيلاً الناقد الجزائري الدكتور عبد الملك مرتاض نافياً أي ثورة نثرية في الأدب العربي منذ ابن المقفع، بل يجد قصيدة النثر تمزيقاً للجمل وبتراً للألفاظ وإيذاء للمعاني. كما يصرح برفضه تجنيسها على انها جنس أدبي قائم بذاته وأدواته وعناصره عاداً كل التنظيرات الكتابية حول هذا الشكل لم تتبلور بحيث تحقق قناعة للآخر بخصوصيته، ومع ذلك يستشهد بكتابات أبي حيان التوحيدي ودعاء الكروان لطه حسين مبدياً إعجابه بعناصرهما الجمالية حتى مع نثريتها ويخلص إلى أن (قصيدة النثر محاولة نثرية للتعلق بالشعرية).
وعلى خلاف رأي الدكتور مرتاض ،يدافع الناقد المغربي نجيب العوفي عن حضور قصيدة النثر بصفتها ظاهرة إبداعية مهيمنة على المشهد الشعري العربي من دون أن يغفل عن وجود ماأسماه (غثاء شعرياً) يسيء للشعر وهو ناتج عن التماهي والاستنساخ مطالبا بوقفة نقدية صارمة تكشف خلله.
هذا الرأي - على واقعيته -، قد يصطدم بجدار تنظيري، اذ قد يقول البعض ان من وصف كتاباتهم بالغثاء قد تكون نتاجاتهم من وجهة نظر مقابلة هي قمة الحداثة والدهشة ؛ لأن
المعيار الحقيقي لتقييم قصيدة النثر في الحقيقة معيار مفقود وغائب لفترة تبقي هذا الشكل الشعري عالقاً بآمال ترسيخ الحضور حتى مع كثافته الحضورية المرتبكة فضلاً عن الإشكالية مثار الجدل لتجنيسه .