رحلة سردية في دهاليز التاريخ الغامضة
علي حسين عبيد
2024-08-14 03:12
المهتمون بالسرد يعرفون تمام المعرفة، ذلك البون الشاسع الذي يفصل ما بين فن السرد والتدوين التاريخي الذي يأخذ منحى التوثيق، أكثر بكثير من أدوات الفن السردي الذي يصنع نسيجه بمساعدة الخيال، وتفجير اللغة، والمجازات، والإيحاءات، والصور المحلّقة في مسارات عصية على الرصد والتحديد، لهذا فإن الغوص في بطون التاريخ لا يشبه الدخول في عوالم السرد بأنواعه، ومع ذلك هذه الرواية (البصاصون) تسعى بقوة لتحقيق نوع من الدمج المدروس بين فن السرد والتاريخ.
تبدو هذه المهمة محفوفة بالفشل، نظرا لما يحيط بها من عوائق كثيرة، أهمها جمود (الكتابة التاريخية) وخلوّها من المشاعر والعواطف والميول التي تجعل منها أقرب إلى الوثائق الواقعية المدعومة بأدلة من نوع جامد لا يقبل التحليق الخيالي أو الفانتازي الطوباوي، أو الخروج عن المألوف اللغوي السائد.
لهذا سعى الروائي عباس خلف بأسلوب فيه الكثير من الصبر والتأني ليسرد منحوتته هذه (البصاصون) في مغامرة سعتْ إلى كسر الحدود بين التاريخي و السردي، وتُضاف مهمة أخرى أكبر وأكثر تعقيدا حين وضع الكاتب في مخطّطه الكتابي محاولة جادة لفضح الواقع باستعادة وإعانة مدوّنات التاريخ، حيث تناولها عباس خلف كما يريد هو وليس كما تُفرَض عليه، نقرأ حول ذلك: (إن معشر الكتاب لا سيطرة عليهم في تناول الموضوعات، لديهم خيال لا يتوقف، خصب، يفوق ما يحدث في الواقع)ص8
ومع أننا نتفق على أن الجملة التاريخية جامدة، لا يمكنها الوقوف إلى جانب الجملة السردية من حيث (التحليق الخيالي، والتأثير الشعوري)، لكن الكاتب يفاجئنا في بعض الأحيان بجمل صادمة، تمتلك شحنة شعورية كبيرة لدرجة تضاهي الشحنات التي تحملها الجمل الشعرية حين يقول: (سحبت نفسًا عميقًا أحسسْته مرّا حادّا يتسلّل من قاع رئتيّ)ص7، وهنا نتساءل كيف للنَّفَس (الشهيق) أن يتحول إلى مادة يمكن أن نتذوقها، وهل يمكن للشهيق أن يكون مرّا، ومع ذلك أنا شخصيا وجدتُ في هذه الجملة طاقة إيحائية نفسية هائلة دمجت بين الواقع والشعوري المنعكس من طاقة وقوة المعنى المبثوث من هذه الجملة.
تستمر هذه الرحلة السردية في (دهاليز التاريخ) لترصد لنا (ظاهرة تكرار التاريخ لنفسه) فما يحدث في واقعنا اليوم ليس جديدا على البشر، إنهم قادمون من تلك السلالات البعيدة التي فعلت تماما ما يفعلونه اليوم في واقعهم، وهذا يعني أن (البصاصون) راوية تريد أن تفضح الواقع بأدوات التاريخ، بالاستعانة بشخوص معروفة تاريخيا وهي (ابن أياس) شخصية تاريخية تصدت لعملية التأليف التاريخي، وشخصية (حسن الوزان) متخصص بعلم الجغرافية عاش في أفريقيا عصر النهضة، والشخصية الثالثة (أسوف) بطل رواية ابراهيم الكوني نزيف الحجر، هذه الشخصيات كل منها لها دورها المؤثر في البناء السردي لرواية البصاصون، وهي وإن عالجت قضايا تُحسَب على الماضي وما جرى فيه من حوادث ووقائع، إلا أنها أسهمت بطريقة أو أخرى في فضح الواقع (السياسي) (الاجتماعي) في هذه الرواية، يقول الراوي وهو يتحدث عن المشهد السياسي آنذاك: (إن الحكم بمجمله انتهازي ومرائي ومجاف للحقيقة، تصوَّر حتى السلطان مرتشي والادهى من ذلك كان بعض الامراء يستغل عواطف الناس الدينية ويضرب على هذا الوتر بغية شراء ذممهم) ص10
وفي مشهد آخر يحدث في (في دولة المماليك)، يؤكد الراوي متصديا لشخصية سياسية مؤثرة: (ما لفت نظر الرعية في شخصيته المتقلبة المجبولة على الخسة والخيانة كيف تستطيع وبسرعة وخفة الانتقال من منصب إلى آخر ومن عصر إلى آخر بالامتيازات نفسها)ص11
هذا الرصد التاريخي، يمكننا العثور عليه بسهولة في واقعنا السياسي اليوم، فمثل هذه الشخصية المرتشية للمسؤولين الكبار، يوجد الكثير، ومن الممكن العثور عليها بسهولة، فالتاريخ هنا أو التدوين التاريخي ينعكس على الواقع اليوم، ليؤكّد لنا أن ما يجري اليوم في المشهد السياسي الواقعي ليس وليد اللحظة، بل هو ممتد من جذوره البعيدة تاريخيا، ما يعني أن الفشل لا يزال مستمرا، والفساد لا يزال قائما، على الرغم من مرور قرون على تلك المرتسمات التاريخية التي أبتْ أن تفارقنا حتى عصرنا الراهن.
من حيث المكان يرصد الروائي عباس خلف مشهد (القصر) وهو مكان فيه الكثير من الغموض والغرابة، يوحي بالقلعة التي تستدير حولها أوار شاهقة وتجعلها في إطار عالمها الخاص الغامض، ويوحي الراوي إلى كون القصر بؤرة السلطة، وعرش السلطان، وفيه يمارس البصاصون مهنتهم (الحقيرة) الخالية من الشرف، حيث يُنظَر إلى البصاص على أنه مسخ منبوذ من قبل جميع الناس، ومحتقَر حتى من السلطان الذي يوظفه لحماية عرشه عبر التجسس ونقل المخاطر قبل حدوثها، المؤلم حقا أن البصاص في اعتراف شديد القسوة لا يحترم نفسه بل يحتقرها هو أكثر من الناس ومن السلطان، ومع ذلك لا يجد بدًّا من ممارستها والاستمرار في القيام بها، يقول الراوي الذي وهو بصاص من طراز خاص:
(قبل أن آتي لهذا العمل دخلت ورشة أسمها غريب بعض الشيء "الصيانة النفسية" فيها تتعلم كيف تواجه مختلف الأمزجة وتمتصها بأقل الأضرار)ص21
إذًا في عصر المماليك، وعصر العثمانيين منذ النشوء حتى الزوال، كانت هناك عمليات تهيئة مسبقة للبصاصين، فيتم إدخالهم في ورش (الصيانة النفسية) لكي يكونوا أكثر قدرة وأكثر استعدادًا من الناحية النفسية في أداء مهامهم التجسسية من دون شعور بالاستصغار أو الاحتقار الذاتي، لاسيما أن الوضع النفسي للبصاص يبقى في حالة تذبذب واهتزاز، كونه يبقى في حالة شعور بالمهانة والصِغَر، وينظر إلى الناس جميعا كأنهم يكرهونه ويمقتونه ويعاملونه بازدراء وعدم احترام، نقرأ عن ذلك: (كنت أصغر أمام نفسي وأشعر أنني مثل حشرة ضارة تقاوم ضعفها في محيط من التوجس) ص22
هناك براعة سردية كبيرة أتلسمّها في بعض فصول هذه الرواية، خصوصا عندما يتعلق الأمر بجلْد الذات، حيث يصبّ (البصاص) جام غضبه على نفس، ويكره بشدة ما آلت إليه شخصيته، وكأنه يريد أن يقول لـ (بصاصي) العصر حذارِ مما تقومون به، وما عليكم سوى الهروب من هذه المهنة والتخلي عنها قبل الغوص في أتونها وإلى الأبد، إنه يصف بدقة مؤلمة معاناته وهو يتحرك في أروقة القصر وغرفه مؤديا عمله بشكل متقن وكان مرغمًا على ذلك رغم إنه يعرف بحقارة هذا العمل المنبوذ، يقول:
(حين أدخل إلى غرفهم الفاخرة إما يتغير حديثهم أو أنهم يتوقفون عن الكلام لحين خروجي، تلك الطريقة أصبحت مألوفة ولا أكترث لها، وأتظاهر بعدم المبالاة، ربما يرونني خصمًا أو مخبرًا يحاول أن يتسلط على أفكارهم أو أنهم يتشككون من أمر مريب، كل الاحتمالات واردة في هذا القصر الفخم، ومع كل ذلك من الصعب عليَّ أن أخرج من هذا الدور الذي يمنحهم كل الحق أن يتحسبوا منه)ص23
ثم يعلن بلا تردد، وبصوت متألّم أشد الألم قائلا: (الدنيا في هذا القصر لا تشبه الحياة في مكان آخر، الإنسان هنا كائن مسيَّر بامتياز وليس مخيّرا)ص 27
(الكل كان مجنونا بالقراءة، تصوّر لا تجد في السوق أو في الشارع والباص والمقهى والمدرسة والجامعة من لا يحمل جريدة في يده وعلى حين غرة تبخرت هذه الظاهرة واستبدلت بأحاديث المقاهي وأقاويلها)ص 41
تتفرع هذه الرواية في دهاليز كثيرة، تجد فيها مفكرين، ورواة من رموز السرد العالمي، وتجد الفلاسفة وهم يتناوبون في الظهور والاختفاء في صفحات وسطور الرواية، فأسماء مثل فوكو وهمنغواي، ودستوفسكي، وكولن ولسن، والكوني، وحنا مينا، وجمال الغيطاني، فضلا عن الجغرافي الوزان، والتاريخي بن إياس، واسوف بطل نزيف الحجر، هذا العالم السردي المكتظ بهذه الرموز الأدبية الجغرافية الفلسفية، الإبداعية، يسعى بطريقة أو أخرى أن يفضح الواقع اليوم بأدوات ورموز وأحداث تاريخية، في محاولة حصلت على درجة النجاح حين سعت إلى الدمج بين السردي الإبداعي والتاريخي التوثيقي.
ويبقى الهدف الأكثر وضوحا لهذه الرواية، ذلك الأسف المستمر الذي عاشه –البصاص- المرغم على مهنته هذه، لأنه يتحلى بجذور فيها من الرفعة الكبيرة، وهو ينخرط من جذر عائلي أبوي مشهود له بالقوة والإباء والكرامة التي ترفض المساس بها حتى لو كان الثمن فقدان النفس، فلماذا ينخرط الأبن في هذه المهنة المهينة، هذا هو الأسف الذي يبقى درسًا لا يمكن تجاوزه، يقول الأبن البصاص الراوي: (منظري مزري قابل للتندر كما يتهيأ لي، ليس بسبب حمل أكواب الشاي والطواف بين الغرف، هذه مسألة روتينية تعودت عليها وإن لم امارسها من قبل، للضرورة أحكام وعليَّ أن أنفذ وأطيع ولكن أمام أولادي ونفسي الأمر مختلف) ويضيف قائلا: (كان أبي شرطيا بسيطا ولكنه يتمتع بروح الإباء، يستنكف من أن يهضمه أحد ويقلل من شأنه، وهذا ما سبَّب له عقما وظيفيا، كل أقرانه صعدوا في الرتب بينما ظل هو لم ينل شيئا يُذكَر، بينما أنا لم آخذ من تلك الخصال قيد أنملة)ص77.
رواية البصاصون تكتسب ميزة المغامرة في معالجة التاريخ بأسلوب سردي متأنٍ، يحفر في الجمل حفرًا، ويحاول الدمج بين التوثيق التاريخي والفن السردي بأقصى الممكنات المتاحة لفن السرد، قد يتهادن هنا ويتصاعد هناك، ولكن بالمجمل نحن أمام جهد يجمع بين رموز وأسماء وتواريخ ووقائع يُثنى على الروائي من حيث القدرة على الإحاطة بها ومسك خيوطها دونما تبعثر حتى النهاية.