الجبل الأدهم

عبد الامير المجر

2023-03-13 04:48

حين هبطت من بطن أمي قبل آلاف السنين، لسعتني ريح باردة نسبيا، والعشب الذي سقطت عليه كان رطبا بعض الشيء.. على جانبي الأيمن تعلو شجرة عملاقة، اغصانها تغطي مساحة كبيرة من الفضاء، وقد دهمت أسماعي وقتها، أصوات لطيور مختلفة تقف عليها.. ربما احتفت بمقدمي، او هكذا فسّرت الأمر لاحقا، بعد ان تمكنّت من الوقوف على قدميّ وأخذت أتعرّف الى الأشياء من حولي.

أمي لم تكف عن الولادات، وانا لم أكف عن فرحي بمقدم أخوتي الذين يزيحون الوحشة عني قبل أن أفقدهم.. كانت أمّنا تلقينا وهي واقفة عند ضفة النهر الشرقية التي تقع عليها شجرتنا العملاقة، وتستلقي عند اسفل جذعها الضخم بعد ان تنتهي من الطلق، وتغفو بعض الوقت.. على مسافة غير بعيدة عنها يتجول أبي في المكان، وقد ترك شعر راسه ولحيته يغطي اعلى صدره ونصف ظهره، يرتدي ثوبا داكنا بعض الشيء ويمسك عصا غليظة وطويلة، او هكذا وجدته حين فتحت عيني قبل آلاف السنين، يزرع القمح ويرعى خليطا من حيوانات تحيطه وتمرح في المكان، وينظر الينا بدهشة وفرح، يزداد كلّما سقط من رحم امّي وليد جديد.

وبعد ان يشتد عود أي واحد من اخوتي او اخواتي، يمد ابي عصاه التي تغدو كالقنطرة فوق النهر فيعبر عليها اخوتي الى الضفة الاخرى او الغربية حيث يشهق جبل أدهم تتقاسم سطحه الصخور السود والعشب الاخضر الداكن، وفي قمته تجلس فتاة تغني، فيما يعزف لها شاب يجلس قربها، فتسرق الألباب وتجعل اخوتي يغامرون بالذهاب الى الجبل للوصول الى تلك القمة التي لايكفّ فيها النغم. كنت قبلهم قد ذهبت الى هناك، أي قبل آلاف السنين، ولكني عدت بعد ان وجدتها قفراء تعصف بها الريح وتحاصرها هوام الجبال، وعدت بعد ان تركت دما كثيرا نزفته في المكان ونزفت معه كمية اكبر من التعب والخوف.

لكني لم استطع اقناع اخوتي الذين يتسلقون الجبل الأدهم بعزيمة قبل ان تطويهم الوديان المظلمة خلفه، ولم يعد أحد منهم .. كم ظل يبكيني ما يحصل لأخوتي، لكني لم استطع اسماع صوت بكائي لأبي الذي اعتقد انه يعلم بما يحصل، لكنه ظل يمد عصاه او قنطرته لهم ليعبروا، ربما لأنه يريد الإستمرار في لعبته التي اعتادها منذ آلاف السنين، حيث التمتع بزرع المزيد من اخوتي في بطن أمي ورعي الحيوانات الذي يشعره بأنه سيد المكان.

وحين تهب ريح عالية من جهة الجبل والتلال والاشجار، ويعلو الصفير في الظلام، تغفو الحيوانات كلها عند اسفل الشجرة العملاقة، تحيط أبي وأمي اللذين يستحيلان قطعة واحدة، منشغلين بصناعة أخ جديد لي.. وربما ايضا البكاء بصمت على أخر اختفى وراء الجبل الأدهم...!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا