تطوير مواهب الأكاديمية أم شراء النجوم الجاهزة.. أيهما أفضل؟
الجزيرة
2022-05-30 07:23
بقلم: لؤي فوزي
"تايغر وودز بدأ يمارس الغولف وهو في الثانية من عمره فقط، وفاز بست بطولات عالم للناشئين قبل سن السابعة عشرة، وعندما احترف اللعبة، أصبح الأفضل في العالم بسن الحادية والعشرين".
"أما دونالدو توماس، لاعب كرة السلة الجامعية، فقد بدأ التدريب على الوثب العالي لأول مرة وهو في الثانية والعشرين من عمره، وأصبح بطل العالم في الوثب العالي وهو في الثالثة والعشرين من عمره، بعد 16 شهرا فقط من التدريب".
"الاثنان أصبحا أبطال العالم في رياضتهما رغم أنهما تخصصا فيها عند نقاط شديدة التباعد في عمرهما، وهذا يجعلنا نسأل؛ هل التخصص المبكر هو القاعدة في أبطال العالم من الرياضيين أم العكس؟".
الصدمة الألمانية
كانت هذه هي افتتاحية الألماني الدكتور آرني غوليش، رئيس قسم علوم الرياضة ومدير معهد العلوم الرياضية التطبيقية في جامعة كايزر سلاوترن، وهو يبدأ حديثه عن نظام تطوير المواهب الشابة في ألمانيا. رجل متوسط الطول، وقصير الشعر، وصارم الملامح رغم سمته الودود، يحاول الإجابة عن سؤال بديهي للغاية؛ هل التخصص المبكر للمواهب في رياضة محددة يُسهِّل من تميزهم في هذه الرياضة مستقبلا؟ وهل يمكن استخدام تميزهم المبكر في رياضة ما لتوقع مستقبلهم في الرياضة نفسها؟ (1) (2)
هل يمكن تعريف وتحديد المواهب في سن مبكرة "Early Talent Identification"؟ طبقا لغوليش، هذا ممكن طبعا، ولكن لا يمكن الاعتماد عليه بصفة أساسية، والأهم هذا ليس خبرا سيئا، لأن تعريف وتحديد المواهب في سن مبكرة ليس ضروريا لصناعة أبطال متميزين محترفين من الأساس.
هذه قضية مهمة للغاية على مستوى الرأي العام الأكاديمي في الرياضة الألمانية، خاصة بعد استثمار ضخم في مشاريع تحديد ودعم المواهب منذ الفشل في يورو 2002 ومونديال 2006، وما يطرحه غوليش هو فكرة صادمة تناقش كل هذه الجهود، التي أثبتت نجاحها بالفعل في تمويل المنتخب الأول بعدد كبير من المواهب في السنوات الأخيرة، لذا قوبلت أفكاره بشيء من التشكك في البداية. (3)
بالطبع لم تنشأ قناعات الرجل بناء على رأي شخصي، ولكن قام غوليش بما يُعرف بالميتا أناليسيس (Meta-Analysis)، وهو تحليل شامل لعدد ضخم من الدراسات في موضوع محدد، ومقارنة نتائجها وأساليبها، للوصول إلى قول فصل في الأمر، ويمكن تلخيص نتائج بحثه (4) في عدة نقاط: أولا، الأداء في السن المبكرة ليس مؤشرا يُعتمد عليه للأداء في المستوى المحترف. وثانيا، لا توجد من الأساس طريقة يعتمد عليها لتوقع مستوى أداء اللاعب في المستقبل. وثالثا وأخيرا، فإن أنماط التدريب والمشاركة الرياضية التي تُنتج ناشئين جيدين في لعبة تختلف، وتكاد تكون مضادة أحيانا، لأنماط التدريب التي تُنتج بالغين جيدين في اللعبة ذاتها.
النقطة الأخيرة تعني باختصار أن التخصص المبكر في رياضة ما، والتدرب عليها بمساعدة مدرب محترف دون ممارسة أية رياضات أخرى، سيُحقِّق تطورا سريعا في المستوى للرياضيين الناشئين، بينما تَميُّز الرياضي البالغ في المستوى المحترف غالبا ما ينتج عن ممارسة عدة رياضات في سن متأخرة نسبيا، حتى ولو لم تكن تحت إشراف مدرب محترف طوال الوقت.
34% فرصة.. 66% إيمان
طبقا لحسابات غوليش، فإن نسبة المواهب الناشئة التي تُحقق النجاحات ذاتها في المستوى المحترف تتراوح ما بين 0-34% فقط، وهذا يعني أن هناك عدة مسارات رياضية يمكن للموهبة الناشئة اتخاذها، وأن التخصص المبكر، مثل تايغر وودز، لا يعزز من حظوظها بالضرورة. (1)
تقول الحسابات ذاتها إن 76% من الرياضيين العالميين البالغين مارسوا عدة رياضات أثناء نموهم، مايكل جوردان وروجيه فيدرير ومايكل فيلبس وغيرهم أمثلة واضحة على ذلك. المشاركة في عدة رياضات يمنح اللاعب فرصة أفضل في اختيار الرياضة الأكثر مناسبة لموهبته، بالإضافة إلى أنه يزيد من عمر الرياضي ويُقلِّل من إصاباته كما هو مُثبت علميا، ويُعزِّز مهارات التعلُّم ويجعله أكثر مرونة وقدرة على التفوق في الرياضة التي سيقع اختياره عليها. (1)
السؤال المنطقي هنا: كيف نجح الألمان إذن؟
الإجابة تنقسم إلى جزأين؛ الأول هو ما يصفه دكتور غوليش بـ "Turnover Rate" أو معدل الانقلاب بالترجمة الحرفية، وهو مصطلح وظيفي يُستخدم لتحديد السرعة التي يُستبدل بها الموظفون في شركة ما، وفي كرة القدم يعني ذلك المعدل الذي يُستبدل به الناشئون في أكاديميات كرة القدم، أو ما يُعرف بعملية الاختيار والاستبعاد (Selection & Deselection Process).
دعنا نشرح الأمر بهذه الطريقة؛ دقة تعريف المواهب في سن مبكرة بألمانيا تصل إلى 70%، وهي نسبة خارقة للعادة، ولكن حتى لو وصلت هذه النسبة إلى 90% فلن يُشكِّل ذلك فارقا كبيرا في حياة هذه المواهب. لماذا؟ لأن من بين 100 موهبة تم تعريفها وتحديدها في سن الحادية عشرة، لن يستمر سوى 10 فقط حتى الثامنة عشرة. هذا هو ما يحدث حاليا في برنامج تطوير المواهب الألماني في كل الأكاديميات على المستوى الوطني.
بالمثل، فإن 6% فقط من اللاعبين الدوليين كانوا موجودين في فِرَق تحت 15 عاما، وهذا يعني أن 94% من لاعبي منتخب ألمانيا تم التقاطهم في مرحلة متأخرة نسبيا من مسيرتهم الناشئة، وهذا هو ما يجعل عملية استبعاد المواهب القديمة واستبدالها بمواهب أفضل وأكفأ، حتى لو كانت في مراحل متأخرة نسبيا من عمرها، هي العامل الأهم في صناعة لاعبي كرة القدم البالغين المتميزين، وهو ما يُعرف بعملية الاختيار والاستبعاد السالف ذكرها.
العنصر الأهم هنا لم يكن القدرة على تعريف المواهب في سن مبكرة، ولكن اتساع الاختيارات المتاحة لكل أكاديمية، سواء كان ذلك لأسباب اجتماعية أو جغرافية، التي سمحت لها بتطعيم مدارس الكرة بمواهب جديدة كلما أمكن، تزيح المواهب الأقل لمعانا، ليصبح المنتج النهائي هو حاصل هذه الرحلة متعرجة المسار، التي، على عكس المتوقع، لا تمنح هذه المواهب المبكرة خطا تصاعديا مباشرا حتى لحظة تحوُّلهم إلى محترفين.
قاعدة الاستثناءات
ماذا عن لاماسيا وجيل 1987 في برشلونة؟ وماذا عن فصل 1992 في مانشستر يونايتد؟ هنا يأتي الجزء الثاني من الإجابة؛ هذه هي استثناءات القاعدة. بالطبع، ارتبط الكثيرون عاطفيا بهذه الأجيال، ورغبوا في محاكاتها واستنساخها في أنديتهم، ولكن هذا لا يعني أنها تُعبِّر عنهم، أو تُمثِّل قاعدة يمكن للجميع السير على خُطاها، ولو كانت كذلك لتمكَّن برشلونة ومانشستر يونايتد أنفسهم من صناعة غيرها، فضلا عن الباقين، وهو ما لم يحدث طبعا.
عند لحظة ما، وقع خلط كبير بين الإعجاب بهذه النماذج لاستثنائيتها الشديدة، وبين كونها الطريقة الأمثل لصناعة فريق من المواهب، وساعد على ذلك الهوس الإعلامي بهذه الأجيال، ببساطة لأنها تُمثِّل الطريق المختصر المثالي لبناء فريق قوي يسيطر على اللعبة لسنوات، ومَن سيرفض طريقا مختصرا حتى لو كانت نسبة نجاحه 1%؟ اسأل كل الأندية التي جعلت من لاعبي وسطها السابقين مدربين على أمل أن يخرج منهم غوارديولا جديد.
في محاولة للبحث عن إجابة أدق، أعدَّ محررو دويتش فيله الألمانية تقريرا عن الناديين اللذين يُمثِّلان طرفَيْ العصا؛ الأول هو سيغما أولوموتس التشيكي، الذي ينشط في دوري الدرجة الأولى رفقة سلافيا براغ وفيكتوريا بلزن، والذي تتضمن قائمة فريقه الأول 17 لاعبا من أكاديمية النادي، والثاني كان باير ليفركوزن الألماني، النادي الذي منح لاعبي الأكاديمية أقل عدد من الدقائق على الإطلاق في موسم 2020-2021 عبر أوروبا. (5)
المثير هنا أن كلا الناديين يملك قائمة شابة نسبيا، ولكن طرقهما في ضم المواهب مختلفة جذريا؛ إذ يؤمن الأول بأن مفهوم "العائلة" هو أهم ركائز هويته كنادٍ. جيكوب بينيش، مدير التطوير في أكاديمية سيغما أولوموتس، يقول إن الهدف من الأكاديمية هو إخراج لاعبين أو ثلاثة فقط للفريق الأول كل عام، وهذا رقم كبير نادرا ما يتحقق من وجهة نظره، بينما كل الباقين يتحولون إما إلى مدربين، أو مساعدين، أو معدين بدنيين، أو رعاة، أو حتى مشجعين. هو نفسه كان أحد هؤلاء الذين لعبوا لصفوف الفريق، مثله مثل أغلب المدربين والعاملين بالنادي.
ليفركوزن يعتبر نفسه النقيض الموضوعي للنادي التشيكي، إذ يعتمد بشكل أساسي على اختصار العملية والتقاط المواهب في سن متأخرة قبيل سطوعهم مباشرة؛ اشترِ بثمن بخس، ثم بِع بعشرات الملايين. هذا هو ملخص سياستهم في التعاقدات وفي صناعة فريق قوي يستطيع الوصول إلى دوري الأبطال بانتظام.
1% تكفي
ليفركوزن يمنح 99% من دقائق اللعبة لهؤلاء الذين تعاقد معهم النادي مؤخرا، بينما 52% من دقائق لعب سيغما أولوموتس تذهب إلى لاعبي الأكاديمية، ولكن النظرة المتفحصة تدفعك لإدراك مهم؛ هذان ليسا ناديين على طرفَيْ العصا، بل هما، ببساطة، في مرحلة مختلفة من الهرم الغذائي، إن جاز التعبير.
ليفركوزن يملك داعما ماليا أكبر بكثير من أولوموتس، وهذا يجعله يختار الاستثمار في مرحلة متأخرة نسبيا من نضج المواهب لأنه يملك ما يكفي لشرائها في هذه السن، خاصة عندما يكون بيع واحد منها فقط، مثل كاي هافيرتز، كفيلا بإدخال 90 مليون يورو إلى خزائن النادي دفعة واحدة. إن أضفت ذلك إلى حقيقة أنهم عثروا على بديله بالفعل في فلوريان فيرتز، الذي بدأ ينال اهتمام كبار أوروبا بدوره، فستكتشف أنها سياسة ناجحة جدا؛ هافرتز انضم من أليمانيا أخن بلا مقابل في 2010، بينما أنفق ليفركوزن 200 ألف يورو فقط للحصول على عقد فيرتز من فريق كولن تحت 17 عاما. (6) (7)
على الجانب الآخر، يعتمد أولوموتس على بيع أفضل مواهبه لأكبر الأندية المحلية لأن -بالمنطق نفسه- بيع لاعب واحد فقط يكفي لتغطية نفقات الأكاديمية لعام كامل. هذا هو ما حدث بالضبط في 2019 عندما انضم لوكاش كالفاكش إلى فيكتوريا بلزن مقابل 700 ألف يورو تقريبا، المبلغ ذاته الذي تحتاج إليه الأكاديمية طوال عام كامل، لذا فالمكاسب المتوقعة تفوق التكاليف بكثير، خاصة مع نادٍ يملك المشجعون المحليون أغلبية أسهمه.
هذا كله يصب في صحة نظرية غوليش؛ هناك طرق عدة لتكوين فريق أول ناجح، والهوس بالمواهب الصغيرة الناشئة مبالغ فيه فعلا، ولعل تلك هي النقطة المحورية التي يجب أن يدركها الجميع من أبحاث البروفيسور الألماني؛ أنها تسلط الضوء على آلاف الناشئين الذين يغادرون الأكاديميات كل عام ولا يظهرون في الإحصائيات، وتجعلنا ندرك مدى ضيق الزاوية التي ننظر منها إلى الأمر كله.