فرنسا بين العاطفةِ الصادقةِ والأَداءِ الملتَبِس
سجعان قزي
2020-09-12 07:10
فيما تَنكَبُّ أميركا وروسيا وإسرائيل على حَسْرِ التمدّدِ الإيرانيّ في سوريا والعراق، فرنسا تغازلُه في لبنان. ومِن الغزلِ ما يثيرُ غَيْرةَ تركيا. هذه "طيبةٌ" سياسيّةٌ تُعرقِلُ حلَّ الأزمةِ اللبنانيّة، وتُعثِّرُ الدورَ الفرنسيَّ في الشرقِ الأوسطِ والعالمِ العربيّ. يُفترَضُ بفرنسا أن تَفْقَهَ حقائقَ لبنانَ والشرقِ الأوسط أكثرَ من أيِّ دولةٍ أجنبيّة.
فرنسا سَبقَت الجميعَ إلى لبنانَ والشرقِ. فمنذ القرنِ الحادي عشر وهي تَلعبُ أدوارًا دينيّةً وسياسيّةً واقتصاديّةً وعسكريّةً وثقافيّة. لكنَّ "طيبةً" وِراثيّةً طَبَعت سياستَها في الشرقِ وأدّت إلى إضعافِ أدوارِها: بعدَ الحربِ العالميّةِ الأولى تَواطأ الإنكليزُ عليها وانتزَعوا منها مناطقَ فِلسطينيّةً وعِراقيّةً وتركيّةً كانت من حِصَّتِها في اتفاقيّةِ سايكس/بيكو. وبعدَ الحربِ العالميّةِ الثانيةِ قَلّبوا عليها شعوبَ سوريا ولبنان وأنْهوا انتدابَها وأَحَلّوا نفوذَهم مكانَها. واليومَ، تَتحرّكُ تحتَ الـمِجهَر الأميركيِّ ولا تدري في أيِّ لحظةٍ يَشكُرها الأميركيّون ويُكْمِلون وحدَهم.
في المرّةِ الأولى كانت فرنسا في الشرقِ حائرةً بين اتّباعِ كاثوليكيَّتِها أو عَلمانيّتِها. وفي المرّةِ الثانيةِ كانت حائرةً بين إعطاءِ الأولويّةِ لدورِها في المشرقِ العربيِّ أو في المغرِب العربيّ. واليوم تبدو فرنسا ضائعةً بين انتمائِها الأوروبيِّ وإطلالتِها على المتوسّط، ومُربَكةً بين سياستِها العربيّةِ وميولِـها الفارسيّة. تَظُنُّ فرنسا أنَّ لا مكانَ لها في لبنانَ والشرقِ الأوسط في الصراعِ وتُفضِّلُ دورَ الوِساطَة. لذلك لا تَرغَبُ أن تكونَ في لبنان فريقًا بين إيران وأميركا، ولا بين إيران والسعوديّة في المنطقة.
غيرَ أنَّ هناك فارقًا بين الفريقِ والشريك. فكونُ فرنسا في قلبِ العالمِ الحرِّ وفي طليعةِ الدولِ الديمقراطيّةِ، واجِبُها، قبلَ أميركا وبريطانيا، أن تكونَ شريكًا لهذا العالَم الحرِّ في الدفاع عن الديمقراطيّةِ والقوانينِ الدوليّةِ ضِدَّ القوى التي تُحاول تَقويضَها وإسقاطَها، على الأقلِّ، في لبنان. تسعى فرنسا أنْ تَنجحَ حيث فَشِلَ غيرُها، لكنّي أخشى أن تَفشَلَ حيث بمقدورِها أن تَنجح. فلشِدّةِ ما تتحاشى إغضابَ أحدٍ تُغضِبُ الجميع.
"طيبةُ" فرنسا تصبحُ تذاكيًا لـمّا يُعلن وزيرُ خارجيّتِها "جان ــ إيڤ لو دريان" أنَّ لحزبِ الله جناحين: عسكريًّا ويُدينه، وسياسيًّا انتخَبه اللبنانيّون (إذاعة فرانس إنڤو 06 أيلول 2020). "إنجازٌ" أنْ تَقتبِسَ فرنسا اليومَ موقفَ بريطانيا السابقَ، في حين أنَّ بريطانيا نفسَها تراجعَت عنه وصَنَّفت حزبَ الله، بجناحَيه، منظّمةً إرهابيّةً (16 كانون الثاني 2020). عدا أنَّ الوزيرَ "لو دريان" لا يؤمِنُ بما قاله ـــ إذ يُفكِّرُ عكْسَ ذلك ـــ فاللبنانيّون الّذين انتَخبوا حزبَ الله هم من الشيعةِ، وقد انتخَبوا سلاحَه من خلال انتخابِ نوّابه. وبالتالي لا تمييزَ بين السياسةِ والسلاح. أكثر: إنَّ الانتخاباتِ، وإن كانت معيارَ الصفةِ التمثيليّةِ، فليست معيارًا دائمًا للحقِّ والباطل. وفرنسا تُدرك أكثرَ من سواها كَم انتخاباتٍ ديمقراطيّةٍ في أوروبا أفرَزت في القرنِ الماضي ديكتاتوريّاتٍ دَمَّرت أوروبا وشوَّهت حضارتَها وهويّتَها.
أساسًا، ليست فرنسا مضْطرّةً إلى أن تَتلبَّكَ وتميّزَ بين جناحَي حزبِ الله لتُبرِّرَ التفاوضَ معه، فاللبنانيّون ليسوا ضدَّ ذلك، ولا يُخطِّطون لعزلِ حزبِ الله أو لتجاهلِ صفتِه التمثيليّةِ الواسعةِ في البيئةِ الشيعيّة. لكنّ اللبنانيّين يريدون أن يتركّزَ التفاوضُ معه حولَ دورِ سلاحِه لا حولَ دورِ نوّابِه في المجلسِ النيابيّ، وحولَ مصيرِ عقيدتِه لا حولَ عَقْدٍ سياسيٍّ جديد، وحولَ احترامِه الدستورَ أوّلًا لا حولَ تعديله.
إشراكُ حزبِ الله في "الحلِّ الفرنسي" للبنان عنصرٌ حتميٌّ. لكنَّ الإشكالَ يبدأُ مع تَعذُّرِ دخولِ حزبِ الله إلى أيِّ حلٍّ من دونِ سلاحِه ومن دونِ المشروع الإيراني. هناك تَماثلٌ كليٌّ بين عقيدةِ حزبِ الله وسلاحِه ومشروعِه. هكذا دَخل إلى المجتمعِ اللبنانيِّ والحكوماتِ والمجالسَ النيابيّةِ والإدارات، وهكذا دَخَل إلى ساحاتِ القتالِ في سوريا والعراق واليمن.
تجاه هذه الإشكاليّاتِ تراجَعت فرنسا عن مفهوم "الحلّ" إلى مفهومِ "التسويةِ"، وطرحَت فكرةَ "العقدِ السياسيِّ" لإعطاءِ دورٍ أوسَعَ لحزبِ الله في النظام اللبناني. لكنَّ المشكلةَ هي أنَّ حزبَ الله يريد استيعابَ الدولةِ لا أن تَستوعبَه الدولة، ولا يسعى إلى عقدٍ سياسيٍّ بل إلى إسقاطِ عقيدتِه على لبنان. لذلك تراجَعت فرنسا مرّةً أخرى لتكتفيَ حاليًّا بالنضالِ لتأليفِ حكومةٍ وإطلاقِ الإصلاحات الاقتصاديّةِ والماليّة. وهذان التراجعان كافيان لتتأكّدَ فرنسا أنَّ لا فرقَ لدى حزبِ الله بين السياسةِ والسلاحِ. وآخِرُ تَجلّياتِ ذلك، تنظيمُ حزبِ الله، بمشاركةِ الدولةِ اللبنانيّة، الزيارةَ الجماهيريّةَ الوقِحةَ لرئيسِ حركةِ "حماس"، إسماعيل هنية إلى بيروت. هكذا حزبُ الله شَكرَ فرنسا.
هذه الهفواتُ الفرنسيّةُ لا تُلغي مطلقًا عاطفةَ فرنسا الاستثنائيّةَ تجاه لبنان وحِرصَها على استقلالِه واستقرارِه وسيادتِه. وحتّى حين يُخطئُ الرئيس إيمانويل ماكرون ــــ بسببِ مستشارين فرنسيّين يقرأون "ابنَ الـمُقفَّع"، أو لبنانيّين يَفهَمون بالفوائدِ الـمَصرَفيّةِ لا بالفوائدِ الوطنيّة ــــ يَظُنُّ أنّه خيرًا يَفعل ليُنقِذَ لبنان رغمًا عن اللبنانيّين. حين هبَّ الرئيسُ ماكرون وأتى مُسرِعًا إلى بيروت غداةَ تفجيرِ المرفَأ، لم يَكن يُفكّرُ بالسياسةِ والمصالح، لا بالنفطِ ولا بالغاز، ولا بالعربِ ولا بالفُرس. كان يُفكّر بوجودِ لبنانَ ورسالتِه. أتى يَتلو فعلَ إيمانٍ بلبنان ويُنشِدُ ترنيمةَ حبٍّ للّبنانيّين. أتى حاملًا تاريخَ فرنسا من أجلِ مستقبلِ لبنان. أتى بابتساماتٍ وعاد بدموع. لقد ذَرَف ماكرون دموعًا على الضحايا والدَمارِ والأطفالِ واليتامى أكثرَ مما ذَرف المسؤولون اللبنانيّون.
إني واثقٌ من أنَّ فرنسا لا تخونُ لبنان، ورئيسُها مستعدٌّ لتقبّلِ أيِّ ملاحظةٍ لتصحيحِ أيِّ أداءٍ مُلتبِس وإبعادِ أيِّ مجموعةٍ تَستغِلُّ دورَه النبيل لتَتسلّلَ إلى السياسة في لبنان. وإذا أخَذنا عليه التهاونَ مع حزبِ الله، فلا نَـغْـفَلَنَّ أنّه بالمقابل، جاهدَ لتأليفِ حكومةٍ، وأرسلَ مساعداتٍ فوريّةً، ونادى العالمَ لنَجدةِ بيروت، ودَعا إلى مؤتمرٍ اقتصاديٍّ/ماليٍّ جديد، وخَصَّص أموالًا للمدارسِ المتعثِّرة؛ ولا يزال ينتظرُ بَدءَ الإصلاحاتِ ليُحرِّرَ أموالَ "مؤتمر سيدر". أَلم يَندُب اللبنانيّون حظَّهم بمسؤوليهِم وهُم يشاهدون إيمانويل ماكرون يَهتَمُّ وِجدانيًّا بتفاصيلِ حياتهم؟ وأَلم يَتمنَّوا أن يكونَ لهم رئيسُ جمهوريّةٍ مثلَ إيمانويل ماكرون؟ هنا، لا تعودُ خطيئةً أن نَشتهيَ رئيسَ قريبِنا.