هل نحن بحاجة لنظام ديمقراطي جديد يراعي مصالح الأجيال المقبلة؟
بي بي سي عربي
2019-03-24 08:19
رومان كرزناريك-صحفي
كتب ديفيد هيوم، الفيلسوف الاسكتلندي، عام 1739 أن "علة ظهور الحكومات المدنية هو عجز الناس عن التخلص من نظرتهم الضيقة للأمور التي تجعلهم يؤثرون الحاضر على المستقبل".
وكان الفيلسوف الاسكتلندي يرى أن دور الحكومة، ممثلة في أعضاء البرلمان والممثلين السياسيين، هو كبح جماح رغباتنا الأنانية والطائشة، وتعزيز مصالح المجتمع طويلة الأجل.
وربما يبدو اليوم أن آراء هيوم لا تعدو كونها أحلاما وردية، بعد أن بات جليا للعيان أن النظم السياسية تذكي محدودية الفكر وقصر النظر بأكثر مما تعالجها. والكثير من الساسة لا تكاد تتعدى نظرتهم للمستقبل حدود الانتخابات القادمة وينساقون وراء تغريدة على موقع تويتر أو استطلاع للرأي.
وعادة ما تفضل الحكومات الحلول السريعة، مثل الزج بالمجرمين في السجون بدلا من معالجة الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي دفعت المجرم لارتكاب الجريمة. وفي الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمات في العالم، تحتدم الخلافات بين قادة الدول على طاولة المفاوضات حول مصالح قصيرة الأجل.
وربما يتجلى قصر نظر النظم الديمقراطية الحديثة في أوضح صوره في مفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي التي تتواتر أخبارها على مدار الساعة أو في تعليقات رئيس الولايات المتحدة الرعناء التي أصبحت محط اهتمام العالم.
لكن هل ثمة حل لقصر النظر السياسي الذي يضع مصالح الأجيال القادمة في مهب الريح؟
ليس من المستغرب أن يرجع البعض مشكلة ضيق الأفق والتركيز على المكاسب الآنية على حساب الاستقرار طويل الأمد إلى تسارع وتيرة الحياة السياسية إثر انتشار الأجهزة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، لكن هذه المشكلة لها أسباب متجذرة في النظام الديمقراطي.
إذ تشوب النظم الديمقراطية عيوب عديدة، منها الدورة الانتخابية ذاتها، التي تدفع السياسيين المنتخبين لوضع خطط وسياسات قصيرة الأجل، قد تتمثل في إعفاءات ضريبية يستميلون بها الناخبين للتصويت لهم في الجولة الانتخابية المقبلة، بينما يتجاهلون القضايا طويلة الأجل التي قد لا ترفع رصيدهم السياسي على الفور، مثل حل مشكلة تدهور البيئة أو إصلاح نظام المعاشات أو الاستثمار في التعليم الأساسي.
والسبب الثاني هو اقتحام الشركات للفضاء السياسي، سواء كان ذلك عبر تمويل الحملات الانتخابية أو تشكيل جماعات للضغط على الحكومات، لضمان جني فوائد قصيرة الأجل. وقد أدى ذلك إلى تراجع أولوية السياسات طويلة الأجل في جميع دول العالم.
والسبب الثالث والأخطر هو أن الديمقراطية النيابية - القائمة على مبدأ انتخاب نواب لتمثيل الشعب - تسقط مصالح الأجيال المقبلة من حساباتها. إذ لا تتمتع الأجيال الناشئة في ظل هذا النظام بأي حقوق، ولا يوجد في أغلب الدول هيئات لتمثيل آرائهم أو مخاوفهم إزاء قرارات اليوم التي ستؤثر بلا ريب على حياتهم مستقبلا.
وهذا ما دفع مئات الآلاف من تلاميذ المدارس حول العالم، للتظاهر والاعتصام، متأثرين بأفكار غريتا ثانبرغ، المراهقة السويدية، لمطالبة الدول الغنية بتخفيض انبعاثات الكربون.
لقد ضاق الشباب ذرعا بالنظم الديمقراطية التي تعمد إلى إسكات أصواتهم وإقصائهم عن المشهد السياسي.
وربما آن الأوان لنصارح أنفسنا بأن الديمقراطية الحديثة، خاصة في الدول الغنية، عبدت الطريق لاحتكار المستقبل، وكأن المستقبل قد غدا مستعمرة نائية مستباحة خالية من السكان، قد نلقي فيها بمشاكل التدهور البيئي ومخاطر الاعتماد على الأجهزة التكنولوجية والنفايات النووية والديون العامة الخارجية دون أن نفكر في حلول لها في الوقت الحالي.
وفي القرن الثامن والتاسع عشر سوغت بريطانيا استعمارها لأستراليا بمبدأ "الأرض المباحة"، ومن هذا المنطلق عاملت السكان الأصليين كأنهم لا وجود لهم. ولعلنا نتعامل اليوم مع المستقبل تماشيا مع هذا المبدأ، وكأنه أصبح ملكا خاصا لنا.
ويتمثل التحدي الأكبر الذي نواجهه الآن في إعادة صياغة النظام الديمقراطي الحالي لمعالجة ما يشوبه من ضيق أفق وهيمنة على المستقبل تتيح للجيل الحالي التحكم في مصير الأجيال المقبلة.
ويرى البعض أن قصر النظر صفة متأصلة في النظم الديمقراطية، إلى حد أننا قد نكون أفضل حالا تحت حكم "مستبد عادل" لا ضرر منه، لأنه سيضع الحلول المناسبة للأزمات العديدة التي تواجهها الإنسانية نيابة عنا.
وقد تبنى هذا الرأي مارتن ريس، عالم الفلك البريطاني، الذي ذكر أن التحديات طويلة الأمد، مثل تغير المناخ وانتشار الأسلحة البيولوجية، لن يتمكن من حلها إلا طاغية مستنير يفرض التدابير اللازمة لحمايتنا من مخاطرها في القرن الحادي والعشرين.
وضرب مثالا على ذلك بالصين، كنظام استبدادي حقق نجاجا استثنائيا في التخطيط طويل المدى، يتبدى بوضوح في استثماراتها الضخمة في مجال توليد الطاقة الشمسة.
والعجيب أن الكثيرين يوافقونه الرأي، لم أكن بالطبع واحدا منهم. لكننا إذا قلبنا صفحات التاريخ، سنجد أن الطغاة نادرا، وإن لم يكن من المستحيل، أن يظلوا عادلين أو مستنيرين لفترة طويل، والشاهد على ذلك سجل حقوق الإنسان الصيني. ناهيك عن أنه لا يوجد من الأدلة ما يكفي لإثبات أن الأنظمة المستبدة كانت أفضل تخطيطا وتفكيرا من الأنظمة الديمقراطية. إذ تولد السويد مثلا 60 في المئة من احتياجاتها من الكهرباء من الموارد المتجددة، بينما تولد الصين 26 في المئة فقط.
وقد طبقت بعض الدول تجارب رائدة لتمكين مواطني المستقبل، مثل فنلندا التي أسست لجنة برلمانية للمستقبل تنظر في آثار التشريعات على الأجيال المقبلة قبل تمريرها.
وعينت ويلز مفوضة لشؤون الأجيال المقبلة، صوفي هاو، بموجب قانون الصحة النفسية للأجيال المقبلة الذي صدر في عام 2015. وتتضمن صلاحيات المفوضة التأكد من أن القرارات السياسية الصادرة عن الهيئات العامة في ويلز تراعي مصالح المواطنين لنحو 30 عاما على الأقل.
واقترح ديفيد سوزوكي، الناشط البيئي الكندي، حلا جذريا آخر، يتمثل في تأسيس مجلس من المواطنين، يجري اختيارهم عشوائيا، ليحلوا محل الساسة المنتخبين، على أن يضم المجلس مواطنين كنديين عاديين لا ينتمون لأي حزب، ويقضي كل منهم ست سنوات في منصبه.
ويرى سوزوكي أن هذا المجلس الذي يشبه هيئة المحلفين، سيكون أكثر كفاءة من الساسة المنتخبين في التعامل مع القضايا طويلة الأجل، مثل التغير المناخي وفقدان التنوع الحيوي، وسيحل مشكلة انشغال الساسة بالانتخابات المقبلة.
وبرزت حركة جديدة في اليابان تدعى "تصميم المستقبل"، بقيادة الخبير الاقتصادي، تاتسويوشي سايجو من معهد أبحاث القضايا الإنسانية والطبيعة في كيوتو. وتعقد الحركة جلسات للمواطنين في مختلف البلديات، بحيث تقوم مجموعة من المشاركين بدور المواطنين الحاليين، بينما تمثل المجموعة الأخرى دور المواطنين في عام 2060، ويرتدي كل منهم سترات خاصة كأنهم قادمون من المستقبل.
وتتطلع الحركة إلى تأسيس وزارة للمستقبل تابعة للحكومة المركزية وإدارة للمستقبل تتبع المجالس المحلية، بحيث تنسج على منوال جلسات مواطني المستقبل في صياغة السياسات.
وقد استلهمت الحركة بعض أفكارها من مبدأ الجيل السابع، لاتخاذ قرارات تراعي مصلحة سبعة أجيال بعد الجيل الحالي. وهذا المبدأ يطبقه بعض السكان الأصليين بالولايات المتحدة.
وهذا النمط من التفكير شجع منظمة أهلية أمريكية يقودها شباب تدعى "صندوق أطفالنا"، على رفع دعوى قضائية على الحكومة الأمريكية لتأمين بيئة صحية وطقس ثابت للأجيال الحالية والمقبلة. واللافت أن المدعين في القضية في سن المراهقة أو في مطلع العشرينيات.
ويقول هؤلاء الشباب إن الحكومة الأمريكية تعمدت وضع سياسات أسهمت في تغيير المناخ واستنزاف الموارد الطبيعية، مما يمثل تعديا على حقوقهم التي يكفلها لها الدستور مستقبلا.
وتقول آن كارلسون، أستاذة القانون البيئي بجامعة كاليفورنيا إن هؤلاء الأطفال يطالبون بمستقبل آمن للأجيال القادمة في العالم. وإذا حكمت المحكمة لصالحهم، ستكون سابقة قضائية قد تمنح بعض الحقوق لمواطني المستقبل.
لكن ما جدوى هذه المبادرات؟
لقد دخل العالم منعطفا سياسيا تاريخيا، وكان من إحدى علاماته بروز تيار يطالب بحقوق الأجيال المقبلة ومصالحهم على الصعيد العالمي وستتردد أصداؤه في العقود المقبلة كلما زادت مخاطر التدهور البيئي والاعتماد على الأجهزة التكنولوجية.
ولن يكون المستبد العادل هو الحل الوحيد للخروج من أزمة السياسات قصيرة المدى، فقد اتخذت النظم الديمقراطية أشكالا شتى وأعيد صياغتها مرات عديدة، بداية من الديمقراطية المباشرة التي وضعها الإغريق وحتى الديمقراطية النيابية التي ظهرت في القرن الثامن عشر.
وقد نرى قريبا نظاما ديمقراطيا جديدا يتيح بعض السلطات للأجيال المقبلة ويحرر المستقبل من قبضة ضيق الأفق ومحدودية التفكير.