ثلاث قراءات عربية للنظام العالمي الجديد وموقع روسيا فيه

عريب الرنتاوي

2018-02-27 04:30

صنفت الاستراتيجية الكونية الجديدة للولايات المتحدة، روسيا والصين بين القوى "الرجعية" المناهضة للولايات المتحدة والمنافسة لها، وأطلقت الاستراتيجية الدفاعية الجديدة للبنتاغون، ما يمكن وصفه بـ "سبق تسلح جديد" بين موسكو وواشنطن، يستعيد مفردات الحرب الباردة ويذكر بها.

وعلى وقع هذه التطورات الجديدة في العلاقات الدولية، يتزايد الحديث، خصوصاً في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط على اتساعها، عن نظام عالمي جديد آخذ في التشكل، على أنقاض نظام "الأحادية القطبية"، الذي بدأ مع انهيار الاتحاد السوفياتي، واختبر لأول مرة في حرب الخليج الثانية (حرب تحرير الكويت"، قبل أن يبدأ بمواجهة الصعوبات مع اندلاع الازمة الاقتصادية عام 2008، ومن ثم تفاقم الأزمة السورية ودخول روسيا كلاعب رئيس فيها في الربع الأخير من العام 2015، وصعود دول وتكتلات جديدة على المسرح الدولي، عسكرية وسياسية واقتصادية، وشيوع الحديث عن نظام "متعدد الأقطاب"، وإن كانت ملامحه لم تتضح بعد.

وتتكشف القراءات العربية لموقع روسيا ودورها في النظام الدولي الجديد، الآخذ في التشكل، عن ثلاثة أنماط من التفكير:

الأول؛ ويمكن وصفه بـ "الرغائبي"، وتتبناه عموماً جماعات وقوى وتيارات محسوبة على المدرسة القومية - اليسارية العربية القديمة، والدول والجماعات المنضوية في إطار ما يعرف اليوم باسم "محور المقاومة والممانعة" في المنطقة، والذي يضم إلى جانب إيران، كل من سوريا وحزب الله وجماعات أخرى.

بعض مدارس هذا التيار، تريد أن تصدق أن الاتحاد الروسي سيواصل دور الاتحاد السوفياتي المنحل، وأنه سيقف إلى جانب بعض الأطراف العربية والإقليمية في صراعها مع إسرائيل والولايات المتحدة، وأن وجود روسيا العسكري في سوريا اليوم، قد أكسبها القدرة على الوقوف بـ "ندّية" في مواجهة الولايات المتحدة، وأن سوريا ستكون الساحة التي ستشهد على ولادة نظام "الثنائية القطبية معدلاً".

ومع أن تجربة الأعوام القليلة الفائتة، أظهرت أن ليس في الواقع ما يدعم الفرضية القائلة بقدرة روسيا على أن تكون "القطب الثاني" في معادلة النظام الدولي، إلا أنها أظهرت كذلك، وبما لا يدع مجالاً للشك، أن روسيا في أحسن تقدير، تقف على مسافة واحدة بين العرب والإسرائيليين، وأنها لا تقيم وزناً لمطالب الإصلاح والتغيير الديمقراطي في العالم العربي، وأنها مستعدة لدعم أنظمة وحكومات ديكتاتورية، بذريعة أن ثورات الربيع العربي وانتفاضاته، لم تجلب سوى الخراب للعالم العربي، وأن الأولوية في العالم العربي، يجب أن تعطى للاستقرار والتنمية، وليس لحقوق الانسان ونشر الديمقراطية، في تبنٍ صريح للأطروحة العربية الرسمية التي تضع الاستقرار والتنمية في تقابل وتضاد مع الإصلاح والديمقراطية.

الثاني؛ ويرى أن روسيا أضعف من أن تكون لاعباً قادراً على "معادلة" دور الولايات المتحدة على الساحة الدولية، وأن نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، يكاد يقتصر على سوريا، وأنها حتى في ساحة نفوذها الرئيسة: سوريا، تجد مشقة في التوصل إلى حل للأزمة السورية، من دون أن تأخذ بنظر الاعتبار مصالح فرقاء كثيرين آخرين وحساباتهم.

ويذهب هذا الفريق، إلى عدم استبعاد تحول سوريا، إلى مستنقع ثانٍ لروسيا، في تذكير بالمستنقع الأفغاني الأول، وأن موسكو تواجه تحدياً أمريكياً في شمال سوريا وشمالها الشرقي، وتحدياً إسرائيلياً في جنوب غرب سوريا، وتحدياً تركياً في الشمال الغربي، فضلاً عن علاقاتها الغامضة والمعقدة مع طهران ودمشق والقوى الحليفة والرديفة لهاتين العاصمتين.

هذا الفريق لا يقيم وزناً لصعود قوى وتكتلات اقتصادية وأمنية جديدة، مثل الصين ومجموعة "البريكس" ومجموعة "شنغهاي" وغيرها، ويرى أن دور هذه القوى والتكتلات، سيظل محدوداً للغاية عند صياغة العلاقات الدولية وتحديد معالم النظام العالمي الجديد الذي تراه هذه المدرسة امتداداً واستمراراً لنظام "الأحادية القطبية".

الثالث: وينطلق من فرضية أن بديل نظام "القطب الواحد" الـآخذ في الترنح، هو نظام "متعدد الأقطاب"، وليس نظام "الثنائية القطبية" كما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة، وأن الولايات المتحدة ستظل تلعب دوراً رئيساً فيه، وإن لم يكن متفرداً أو مهيمناً، وأن روسيا ستضطلع بأدوار في ظل هذا النظام، من ضمن مجموعة من الأقطاب الدولية الناشئة، مثل الصين والهند والبرازيل، فضلاً عن القوى الدولية التقليدية الأخرى مثل دول الاتحاد الأوروبي، وليس بوصفها نداً منفرداً للولايات المتحدة.

ويعطي هذا الفريق، أوزاناً مهمة لصعود "المارد الاقتصادي الصيني" إلى جانب بقاء روسيا كقوة عسكرية، يحسب لها حساب، بالنظر لامتلاكها ترسانة من أسلحة الدمار الشامل ووسائل نقلها من صواريخ وغواصات وطائرات استراتيجية وقواعد في جوارها وفي مياه المتوسط الدافئة.

والحقيقة أن ثمة "حيرة" عربية في فهم طبيعة المواقف والمصالح الروسية في المنطقة، وفي التعرف على محددات الدور الروسي على الساحتين الإقليمية والدولية، ما يجعل "التخبط" في تشكيل الرؤى ورسم السياسات، أمراً ظاهراً للعيان في كثير من المحطات والساحات.

روسيا لن تستطيع التفوق على الولايات المتحدة أو حتى مجاراتها اقتصادياً... فحجم الاقتصاد الأمريكي يفوق بأكثر من ثلاثة عشرة مرة حجم الاقتصاد الروسي، والفجوة بين البلدين في هذا المجال، مرشحة للاتساع وليس للتجسير... وثمة قائمة من عشر دول على الأقل، يتعين على روسيا أن تتجاوزها من أجل كسب "المباراة الاقتصادية" مع الولايات المتحدة.

سيُخفق الاقتصاد الروسي، كما أخفق الاقتصاد السوفياتي من قبل، في كسب "المباراة الاقتصادية"، ولن يكون بمقدوره تمويل "سباق تسلح"، لا يبدو أن واشنطن في عهد إدارة الرئيس ترامب، مترددة في خوض غماره... فالزيادة في ميزانية الانفاق العسكري الأمريكي بعد انقضاء سنة أولى على إدارة ترامب (أكثر من سبعين مليار دولار)، تفوق بكثير إجمالي الموازنة الدفاعية الروسية (46 مليار دولار) عن السنة ذاته، وتزيد آخر موازنة دفاعية أمريكية عن موازنة روسيا الدفاعية بأكثر من أربعة عشر ضعفاً على أقل تقدير.

إن المباراة الاقتصادية و"الدفاعية" بين الدولتين، تجري في ظروف ليست مواتية لروسيا، بعد أن فقدت الأخيرة سيطرتها على مساحات واسعة من الاتحاد السوفياتي القديم، فضلاً عن أوروبا الشرقية، وبعد أن فقدت تأثيرها على عشرات من دول العالم الثالث و"عدم الانحياز"، بل أن كثير من هذه الدول، التي طالما دارت في الفلك السوفياتي، لم تعد تحتفظ اليوم بعلاقات طيبة مع روسيا، حتى أن بعضها يبدي حماسة ظاهرة في استقبال قوات "الناتو" ودرعها الصاروخي وقواعده على أرضه وفي مياهه وأجوائه، مما خلق، ويخلق، مناخات من القلق والتحسب في مؤسسات صنع القرار الروسية من سياسية ودفاعية.

مقابل، عدم قدرة الولايات المتحدة، على الاحتفاظ بدورها كزعيمة متفردة للعالم كما كان عليه الحال في ظل نظام "القطبية الأحادية"... وعجز روسيا عن استعادة إرث الاتحاد السوفياتي القديم ودوره ووزنه في العلاقات الدولية، وعدم قدرتها مجاراة واشنطن في "المباراة الاقتصادية" و"سباق التسلح"، كما كان عليه الحال زمن الحرب الباردة و"القطبية الثنائية"... ومع الصعود المتسارع لبعض الأقطاب الاقتصادية و"النووية" في آسيا وأمريكا اللاتينية.... يبدو أن العالم يتجه لـ "تعددية قطبية"، ستجد الولايات المتحدة نفسها مجبرة على التعامل مع أقطابه الموزعة على عدد أكبر من الدول، كما أن روسيا ستجد نفسها مرغمة على القبول بموقعها كلاعب إقليمي - دولي من بين عدة لاعبين.

* قناة الحرة

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي