كيف نشيع الذكاء الثقافي عبر التعليم والإعلام والتواصل الاجتماعي؟
اسماء محمد مصطفى
2024-09-21 06:01
في عالم ملتهب بنار الكراهية، ووسط تعالي أصوات رفض الآخر ذي الثقافة المختلفة، علناً أو ضمناً، يعمل أصحاب الصوت الحر المنادي بالمحبة والتعايش والتسامح واحترام ثقافة الآخر، على الاهتمام بمفاهيم تعزز التنوع الثقافي وقبول الآخرين في المجتمع الواحد أو المجتمعات عامةً.
ومن تلك المفاهيم الذكاء الثقافي الذي وإن كان قد جرى تناوله بكثرة في دراسات ومقالات لوصف قدرة الفرد على العمل بفاعلية وسط مجموعة متنوعة من الثقافات، إلاّ إنه يرتبط بجميع مجالات الحياة، كالعلاقات الشخصية والمجتمع والتعليم.
وهذا ما يشجعنا على البحث هنا عن أهمية إشاعة مفهوم الذكاء الثقافي بين الناس وصولاً إلى احترام التنوع الثقافي ومواجهة خطاب الكراهية داخل المجتمعات وليس بيئات العمل والتعليم فقط، باعتبار أنّ العلاقة بين الذكاء الثقافي والتنوع الثقافي تفاعلية ووثيقة، لا يتطور أحدهما ولا يتحقق إلاّ بوجودهما معاً.
فإذا كان الاول يعني قدرة الفرد على فهم الثقافات الأخرى واستيعابها والاندماج والتفاعل معها بمرونة، فإنّ الثاني يعني قبول الثقافات المختلفة والاعتراف بها واحترامها. ومن ناحية أخرى إن تداخلات الحياة والمسؤوليات المجتمعية، تؤدي إلى شمول أهمية الذكاء الثقافي نطاقاً أوسع من نطاق العمل والتعليم، فهو يؤدي إلى احترام التنوع الثقافي في المجتمعات متعددة الثقافات والعالم ككل، وليس في بيئة العمل والتعليم فقط، ما يُمكِّن أصحابه من التصدي لحالات وسلوكيات فردية أو اجتماعية تحاول إقصاء الآخرين.
على سبيل المثال، نجد في شبكات التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الفضائية، على مستوى العراق، ظلالاً واضحة للعقليات التي تروج لكره الآخرين المختلفين في ثقافاتهم القومية أو الدينية أو الطائفية، وتعمل من خلال منشوراتها وبرامجها وتعليقاتها على بث الضغائن ضدهم وتحقيرهم ورفض ثقافاتهم والتنمر عليهم، بما يشوش مفاهيم احترام التنوع الثقافي في المجتمعات وبيئات العلم والعمل، الأمر الذي يحتم على المؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أن تقوم بدور مضاد لتلك الخطابات، بأن تلعب دوراً في إشاعة الذكاء الثقافي وصولاً إلى التعايش الحقيقي بين الثقافات في المجتمعات التي واجهت، ولا تزال، تحديات تعمل على إشاعة خطاب الكراهية.
كريستوفر إيرلي وسون آنج: صياغة المصطلح
ورد مصطلح الذكاء الثقافي في الكتاب المنهجي "الذكاء الثقافي: التفاعلات الفردية عبر الثقافات" لكريستوفر إيرلي الأستاذ في كلية لندن للأعمال، وسون آنج الأستاذة في كلية نانيانغ للأعمال، وهما من صاغا المصطلح، وعرّفاه بأنه: "قدرة الفرد على العمل بفاعلية في مجموعة متنوعة من الناس من ثقافات متعددة"، وكذلك "قدرة الفرد على التكيف بفعالية عند التفاعل مع أشخاص من خلفيات ثقافية متنوعة، وتشمل أبعاداً مختلفة بما في ذلك الجوانب السلوكية والتحفيزية وما وراء المعرفية."
في علم النفس التربوي: تعريف وأبعاد وأمثلة
تعمل الدكتورة فضيلة عرفات أستاذة علم النفس التربوي في كلية التربية/جامعة الموصل، على إعداد دراسة عن الذكاء الثقافي، بالاعتماد على مصادر عدّة سنشير إليها في ختام حديثها، المستند إلى دراستها.
تقول الدكتورة عرفات:
ـ إنّ الذكاء الثقافي هو القدرة على فهم الثقافات الأخرى، وتقديرها، واحترامها، والتفاعل بفعالية معها، كما يعني القدرة على فهم وتقدير وتقديم استجابات فعالة للتفاعلات بين الأشخاص من خلفيات ثقافية مختلفة، بما في ذلك القدرة على التعبير عن الثقافة الخاصة بالشخص بطرق تشجع على الفهم والاحترام المتبادل.
وللذكاء الثقافي أبعاد، تقدمها عرفات مقرونة ببعض الأمثلة، بدءًا بالإدراك الثقافي (مثال: شخص يفهم أن الاحتفال بالأعياد يختلف من ثقافة لأخرى، ويحترم تلك الاختلافات)، والمرونة الثقافية (شخص مرن ثقافياً يتكيف بسهولة مع طرق العيش والتفكير في بيئات ثقافية جديدة)، والاتصال الثقافي (شخص يتفاعل بفعالية مع أفراد من ثقافات مختلفة، ويفهم الفروق الثقافية في اللغة والتعبيرات)، والتحليل الثقافي (شخص يفكر نقدياً حول تأثير الثقافة على الاجتماع والسياسة في مجتمع معين)، والاحترام المتبادل (شخص يحترم تقاليد وقيم الثقافات الأخرى، ويتفهم أنها قد تكون مختلفة عن تلك التي ينتمي إليها)، والتواصل الثقافي (شخص يشارك في فعاليات ثقافية مختلفة ليتفاعل مع أشخاص من خلفيات ثقافية متنوعة)، والوعي الذاتي (شخص يدرك كيفية تأثير ثقافته الشخصية على تفاعلاته مع الآخرين ويسعى لفهم تلك الثقافات بشكل أفضل).
تعزيز الذكاء الثقافي
لتعزيز الذكاء الثقافي والوصول إلى احترام كامل للتنوع الثقافي في العراق والمجتمعات الأخرى التي بها حاجة إلى ذلك، تشير الدكتورة عرفات إلى أهمية تحقيق النقاط الآتية:
ـ تعزيز التعليم المتعدد الثقافات: تضمين مواد تعليمية تعكس تنوع الثقافات في العراق، وتشجيع التفاعل الثقافي الإيجابي بين الطلاب من خلال البرامج التعليمية.
ـ تدريب المعلمين والإعلاميين والناشطين الاجتماعيين: توفير دورات تدريبية لزيادة وعيهم بأهمية الثقافات المتعددة وكيفية التعامل معها بفعالية.
ـ تشجيع وسائل الإعلام على التنوع الثقافي: تعزيز برامج إعلامية تعكس تنوع الثقافات في العراق، وتشجيع وسائل الإعلام على تجنب التمييز وتعزيز الفهم المتبادل.
ـ تعزيز التواصل الثقافي عبر وسائل التواصل الاجتماعي: تشجيع استخدام وسائل التواصل الاجتماعي كوسيلة لتبادل الثقافات وتعزيز الحوار الثقافي الإيجابي.
ـ تشجيع التعاون الثقافي مع البلدان الأخرى، لتعزيز فهم الثقافات المختلفة وتعزيز السلام والتعايش السلمي.
ـ دعم الفنون والثقافة المحلية: تشجيع الفنانين والمثقفين المحليين لإظهار التنوع الثقافي في إبداعاتهم، وتنظيم فعاليات ثقافية تعكس التنوع الثقافي في العراق.
ـ تعزيز الحوار الثقافي في المجتمع: تنظيم منتديات ونقاشات تثقيفية حول الثقافات المختلفة في العراق لتعزيز الفهم المتبادل والاحترام.
ـ دعم اللغات الأصلية والثقافات الأقل شيوعاً: تشجيع استخدام وتعلم اللغات الأقل شيوعاً في العراق والحفاظ على التراث الثقافي للثقافات الأصلية.
ـ تعزيز التفاعل الثقافي في المؤسسات التعليمية والإعلامية وشبكات التواصل الاجتماعي: تشجيع تبادل الخبرات والمعرفة بين المؤسسات لتعزيز الحوار الثقافي والتعايش السلمي.
ـ تحفيز المشاركة الثقافية الشبابية: دعم وتشجيع المبادرات الشبابية التي تعزز التواصل الثقافي وتعزيز الفهم المتبادل بين الشباب من ثقافات مختلفة في العراق.
ـ تعزيز التعليم عن الثقافات الأخرى: تضمين برامج تعليمية تعرف الناس على الثقافات الأخرى بشكل صحيح وشامل، لتجنب الفهم السطحي أو النمطي.
ـ تشجيع التبادل الثقافي العابر للحدود: تنظيم فعاليات تبادل ثقافي بين العراق والدول المجاورة لتعزيز التفاهم والتعاون الثقافي الإقليمي.
ـ تعزيز القيم الثقافية المشتركة: التركيز على القيم والمبادئ الثقافية المشتركة بين الثقافات في العراق لتعزيز الوحدة والتعايش السلمي.
ـ تعزيز القيادة الثقافية: تشجيع القادة الثقافيين على القيام بدور فاعل في تعزيز الحوار الثقافي وتشجيع الاحترام المتبادل بين الثقافات.
ـ تعزيز التفكير النقدي والإبداعي: تشجيع تنمية مهارات التفكير النقدي والإبداعي لدى الأفراد لتعزيز فهمهم الثقافي واحترامهم للتنوع الثقافي.
جدير بالذكر إن الأستاذة عرفات اعتمدت في دراستها على الذكاء الاصطناعي والبحوث الآتية: "قياس الذكاء الثقافي لدى طلبة الجامعة"، للباحثة دعاء صباح وأ.م.د. صفاء حامد، و"الذكاء العاطفي وعلاقته بقلق المستقبل ومستوى الطموح لدى كلية التربية جامعة الأسكندرية"، للدكتورة إيمان محمد عباس، و"دور الذكاء الثقافي في تعزيز الأداء التكيفي للموظفين"، للباحثة اريفان يونس، و"الذكاء الثقافي وعلاقته بالحكمة والعوامل الخمسة الكبرى للشخصية"، للدكتورة ناهد فتحي أحمد، و"الذكاء الثقافي لدى مديري المدارس الثانوية الخاصة التي تدرس المنهاج البريطاني وعلاقته بالقيادة الإبداعية في إمارة دبي"، للباحثة ريم محمد فوزي، إشراف الأستاذ الدكتور عباس عبد مهدي الشريفي، و"الذكاء الثقافي وعلاقته بالتوجهات الشخصية عند طلبة الجامعة"، للباحث عبدالوهاب يوسف.
وقفة مهمة مع د. كاظم المقدادي
لأهمية الإعلام والتواصل الاجتماعي في إشاعة الذكاء الثقافي في عالم اليوم الذي شهد الكثير من التحديات التي تنشر الكراهية والإقصاء، لنا وقفة مع رأي الإعلامي الدكتور كاظم المقدادي، الذي يقول إنّ من مبادئ العمل الإعلامي الحر غير المؤدلج، إشاعة الذكاء الثقافي، واحترام الرأي الآخر، وكذلك احترام تاريخ وثقافات الشعوب وحضاراتها، واحترام القيم التي قامت عليها تلك الحضارات.
ويذهب إلى أنه من الضروري جداً، الإطلاع على ثقافة الآخرين، وهذا وحده كفيل بترسيخ القيم المدنية والحضارية، وإشاعة روح التثاقف المشترك والسعي إلى إنتاج خطاب فكري متقدم ينهض بمهام معرفية وأنثروبولوجية نحو آفاق مستقبلية مبرمجة تستمد فعالياتها اليومية من ثقافات الشعوب مشتركة.
يرى المقدادي أن الأكثر جدلاً اليوم، هو غياب إدارة ثقافة التنوع المعرفي والإنساني وفي كثير من المجتمعات الغربية والشرقية على حد سواء.
وهذه الإشكالية وحدها موجودة على مستوى البلد الواحد، وفي الشعب الواحد، مما يشكل مع الوقت بوادر لاتجاهات عنصرية مقيتة لا ينفع معها الذكاء الذهني والذكاء الثقافي.
ويشير إلى أن الدور المحوري الذي تلعبه وسائل الإعلام والاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي في تفاعلات الواقع المجتمعي، يتمظهر وبشكل لافت في حياتنا وأمورنا اليومية، بسبب الحضور المكثف لوسائل الاتصال والتواصل، وبطاقات توليدية مدهشة، مما يجعل تأثيرها على مجمل حياتنا اليومية أمراً حتمياً لا نكوص عنه.
ويرى المقدادي أن وسائل الاتصال ومواقع التواصل اليوم هي الأقوى، والأكثر فعالية من وسائل الإعلام التقليدية قاطبة، لأنها الأقرب إلى عقل وانشغالات المتلقي وبأعمار متفاوتة ومتباينة، لما تملكه من ميزة تفاعلية مؤثرة وقوية بصور غير مسبوقة، مشيراً إلى أن قدرة الذكاء الثقافي كقوة كامنة يمكن أن تساعد في تحقيق مبادئ التعايش بين الثقافات، والشعوب التي تختلف بأعراقها وأصولها ومنطلقاتها.
تحقيق برامج نوعية
وعن الإجراءات العملية التي تستطيع وسائل الإعلام مجتمعة إتخاذها، وتوظيف الذكاء الثقافي من خلالها لما هو أبعد من نبذ الكراهية والعنصرية وخطابات الزيف المعرفي، يقول المقدادي إن من ضمن تلك الإجراءات تحقيق برامج نوعية، تؤسس لمفاهيم حضارية وإنسانية، معتمدة على خطاب يدين التطرف الديني والمذهبي والعرقي، ويفتح طريق الحوارات الفكرية الفعالة بواجهات وعناوين حضارية تساهم في تحقيق تكوينات ثقافية معرفية مشتركة.
ويرى المقدادي إن إشاعة الذكاء الثقافي، هو الطريق الأمثل لنهضة الأمم والشعوب وتقدم الإنسانية، والتأكيد على نبذ الحروب، واللجوء إلى لغة الحوار والتفاهم وإشاعة روح التسامح، والإيثار، لإنضاج فكرة إرادة المعرفة.
الذكاء الثقافي.. احترام التنوع الثقافي.. كيف يعزز أحدهما الآخر؟
يزودنا برنامج الذكاء الاصطناعي جيمناي (gemini) الخاص بغوغل، بالكيفية التي يعزز كلّ من الذكاء الثقافي واحترام التنوع الثقافي أحدهما الآخر، معتمداً على معلومات من مصادره باللغة الإنكليزية: (العلاقة بين الذكاء الثقافي واحترام التنوع الثقافي، على موقع جامعة ولاية أوهايو، وكتاب "الذكاء الثقافي: مفتاح النجاح في عالم مترابط" لبيفرلي غاي، ومقال "كيف يمكن للذكاء الثقافي أن يُحسّن حياتك" على موقع Psychology Today).
يقول جيمناي إنّ الذكاء الثقافي يُساعدنا في فهم وجهات نظر الآخرين من خلفيات ثقافية مختلفة، ويُنمّي مهارات التواصل الفعال بين الثقافات المختلفة، ويُشجع التعاطف مع الثقافات المختلفة، ويُقلّل من التحيز والتمييز، ويُعزز التسامح والتفاهم بين الثقافات المختلفة.
وعن تعزيز احترام التنوع الثقافي للذكاء الثقافي، يقول إن التنوع يُحفزنا على التعلم عن الثقافات المختلفة، ويُشجعنا على الانفتاح على تجارب جديدة، ويُساعدنا في تطوير مهارات التكيف مع بيئات ثقافية مختلفة، ويُنمّي مهارات حلّ المشكلات بين الثقافات المختلفة، ويُعزز الإبداع والابتكار.
عالم أكثر تفهماً وتسامحاً
حين نجيء لنختتم هذا التحقيق الصحافي، لا نجد أفضل مما يقوله جيمناي من "إن المجتمعات التي تُقدّر الذكاء الثقافي واحترام التنوع الثقافي تكون أكثر انسجامًا وتماسكًا، وأكثر قدرة على حلّ النزاعات، وأكثر عرضة للابتكار والتقدم، وأكثر جاذبية للأشخاص من خلفيات مختلفة، وأكثر عدلاً وإنصافًا، "وبهذا فإنّ الذكاء الثقافي واحترام التنوع الثقافي مهمان جداً لبناء مجتمعات سلمية ومزدهرة، ومن خلال تعزيز هذين المفهومين، يمكننا خلق عالم أكثر تفهماً وتسامحاً".