مشروع مانهاتن الصيني والاستيلاء على أسرار صناعة رقائق الذكاء الاصطناعي
Fifreedomtoday
2025-12-27 04:15
ما كانت تخشاه الولايات المتحدة، نجحت الصين في الوصول إليه. ذكرت وكالة رويترز في تقرير لها نقلًا عن مصادر مطلعة، أن علماء صينيين، في مختبر شديد الحراسة بمدينة شنتشن، قد بنوا ما سعت واشنطن لسنوات لمنعه: نموذج أولي لآلة قادرة على إنتاج رقائق أشباه الموصلات المتطورة التي تُشغّل الذكاء الاصطناعي والهواتف الذكية التي تُعدّ أساسية للهيمنة الغربية.
يشغل النموذج الأولي، الذي اكتمل بناؤه في أوائل عام 2025 ويخضع حاليًا للاختبار، مساحة طابق كامل تقريبًا. وقد بناه فريق من المهندسين السابقين في شركة أشباه الموصلات الهولندية العملاقة ASML (ASML.AS)، الذين قاموا بهندسة عكسية لآلات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية المتطرفة (EUVs) التابعة للشركة، وفقًا لشخصين مُطّلعين على المشروع.
ما هي آلات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV)؟
تُمثّل آلات الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى قلب «الحرب الباردة التكنولوجية» الراهنة؛ فهي تستخدم أطوالاً موجية دقيقة لنقش دوائر إلكترونية على رقائق السيليكون، بسمكٍ يقل عن خصلة شعر الإنسان بآلاف المرات. وتعد هذه التقنية، التي يحتكرها الغرب حالياً، المفتاح الأساسي لزيادة قوة الرقائق عبر تصغير حجم دوائرها.
وفي سياق متصل، أفاد مصدران بأن الجهاز الصيني الجديد يعمل بكفاءة وقد نجح بالفعل في توليد الأشعة المطلوبة، إلا أنه لم يصل بعد إلى مرحلة إنتاج رقائق قابلة للتشغيل.
وفي أبريل، صرّح كريستوف فوكيه، الرئيس التنفيذي لشركة ASML، بأن الصين ستحتاج إلى «سنوات طويلة» لتطوير هذه التقنية. إلا أن وجود هذا النموذج الأولي، الذي نشرته رويترز لأول مرة، يُشير إلى أن الصين قد تكون أقرب بسنوات لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال أشباه الموصلات مما توقعه المحللون.
وقد أتاح توفر قطع غيار من أجهزة ASML القديمة في الأسواق الثانوية للصين بناء نموذج أولي محلي، حيث حددت الحكومة هدفًا لإنتاج رقائق عاملة على هذا النموذج بحلول عام 2028، وفقًا للمصدرين. لكنّ المقربين من المشروع يقولون إنّ الهدف الأكثر واقعية هو عام 2030، وهو ما يزال قبل سنوات من العقد الذي اعتقد المحللون أنّه سيستغرقه وصول الصين إلى مستوى الغرب في مجال أشباه الموصلات.
يمثّل هذا الإنجاز تتويجًا لمبادرة حكومية استمرت ست سنوات لتحقيق الاكتفاء الذاتي في مجال أشباه الموصلات، وهو أحد أهم أولويات الرئيس شي جين بينغ. وبينما كانت أهداف الصين في مجال أشباه الموصلات معلنة، فقد نُفّذ مشروع شنتشن EUV سرًا، وفقًا للمصادر.
مشروع مانهاتن الصيني
يندرج المشروع ضمن استراتيجية البلاد لأشباه الموصلات، والتي حدّدتها وسائل الإعلام الرسمية بأنّها تُدار من قِبل دينغ شيويه شيانغ، المقرب من شي جين بينغ، والذي يرأس اللجنة المركزية للعلوم والتكنولوجيا التابعة للحزب الشيوعي.
بحسب مصدرين ومصدر ثالث، تلعب شركة هواوي الصينية العملاقة للإلكترونيات دورًا محوريًا في تنسيق شبكة من الشركات ومعاهد البحوث الحكومية في جميع أنحاء البلاد، تضم آلاف المهندسين.
وصف المصدران هذا المشروع بأنه النسخة الصينية من مشروع مانهاتن، وهو المشروع الأمريكي الذي أُطلق خلال الحرب العالمية الثانية لتطوير القنبلة الذرية.
وقال أحد المصدرين: «الهدف هو أن تتمكن الصين في نهاية المطاف من تصنيع رقائق متطورة باستخدام آلات صينية الصنع بالكامل. وتريد الصين إقصاء الولايات المتحدة تمامًا من سلاسل التوريد الخاصة بها».
ASML الشركة الوحيدة التي تُصنِّع التقنية
وحتى الآن، لم تتقن سوى شركة واحدة تقنية الطباعة الحجرية فوق البنفسجية المتطرفة (EUV): وهي شركة ASML، ومقرها في فيلدهوفن بهولندا. وتُعد آلاتها، التي تبلغ تكلفتها حوالي 250 مليون دولار، أساسية لتصنيع أحدث الرقائق التي صممتها شركات مثل Nvidia وAMD، والتي تنتجها شركات تصنيع الرقائق مثل TSMC وإنتل وسامسونغ.
قامت شركة ASML ببناء أول نموذج أولي عملي لتقنية الطباعة الحجرية فوق البنفسجية المتطرفة (EUV) في عام 2001، وأخبرت وكالة رويترز أن الأمر استغرق ما يقرب من عقدين من الزمن ومليارات اليورو من الإنفاق على البحث والتطوير قبل أن تنتج أولى رقائقها المتاحة تجاريًا في عام 2008.
أسماء مستعارة وهويات سرية
روى مهندس صيني مخضرم، كان يعمل سابقاً في شركة ASML العالمية، تفاصيل مثيرة عقب انضمامه للمشروع؛ حيث فوجئ بأن «مكافأة التوقيع» السخية التي تلقاها لم تكن المفاجأة الوحيدة، بل رافقتها بطاقة هوية تحمل اسماً مزيفاً.
داخل أسوار المنشأة شديدة الحراسة، اكتشف المهندس أن الأمر ليس مجرد إجراء احترازي فردي، بل هو نظام متبع؛ حيث التقى بزملاء سابقين له من ASML يعملون جميعاً بأسماء مستعارة. وبحسب مصادر مطلعة، تلقى الموظفون تعليمات صارمة باستخدام هذه الأسماء حتى فيما بينهم للحفاظ على سرية الهويات.
كانت التوجيهات واضحة وحازمة: المشروع مصنف كقضية أمن قومي، ولا يحق لأحد خارج هذا المجمع معرفة طبيعة العمل، أو حتى معرفة أن هؤلاء الخبراء متواجدون هناك من الأساس.
استهداف «العقول الذهبية»
يركز المشروع الصيني جهوده على استقطاب العلماء والمهندسين الصينيين الذين عملوا في ASML وتقاعدوا مؤخراً. هؤلاء يمثلون «صيداً ثميناً» لأنهم يمتلكون أدق التفاصيل التقنية، وفي الوقت نفسه، يواجهون قيوداً قانونية أقل بعد مغادرتهم الشركة.
ولا يتوقف الأمر عند المتقاعدين؛ فقد أكد موظفون صينيون يعملون حالياً في مقر ASML بهولندا لـ «رويترز» أن شركة هواوي تحاول بنشاط استقطابهم وتقديم عروض عمل لهم منذ عام 2020.
عجز القانون أمام الحدود
تواجه شركة ASML معضلة حقيقية؛ فقوانين الخصوصية الأوروبية تمنعها من تتبع مسارات موظفيها السابقين. ورغم توقيعهم على اتفاقيات سرية، إلا أن ملاحقتهم قضائياً في الصين تبدو مهمة شبه مستحيلة.
وخير دليل على ذلك هو القضية الشهيرة عام 2019، حين ربحت ASML حكماً قضائياً بقيمة 845 مليون دولار ضد مهندس سابق سرق أسراراً تجارية، لكن النتيجة كانت مخيبة للآمال: أعلن المهندس إفلاسه، ويواصل اليوم عمله في بكين تحت رعاية ودعم كامل من الحكومة الصينية.
في تصريح لـ «رويترز»، أكدت ASML أنها تبذل قصارى جهدها لحماية أسرارها التجارية، موضحة: «رغم أننا لا نستطيع التحكم في وجهة الموظفين بعد مغادرتهم، إلا أنهم ملزمون قانونياً بالسرية، وقد اتخذنا بالفعل إجراءات قانونية ناجحة ضد محاولات السرقة السابقة».
إجراءات أمنية واختراقات صينية
أكدت الشركة أنها تفرض رقابة صارمة لحماية أسرار تكنولوجيا الطباعة الحجرية بالأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV)، من خلال تقييد الوصول إلى المعلومات الحساسة وحصرها في نطاق ضيق من الموظفين المصرح لهم فقط، حتى داخل أروقة الشركة نفسها.
ومع ذلك، جاء تحذير الاستخبارات الهولندية في تقريرها الصادر في أبريل الماضي ليرسم صورة مغايرة؛ حيث كشفت أن الصين تعتمد «برامج تجسس واسعة النطاق» لاقتناص التكنولوجيا والمعارف الغربية المتقدمة، بما في ذلك استقطاب العلماء والكوادر العاملة في كبرى شركات التقنية.
أشار أحد المصادر إلى أن الفضل في تحقيق هذا الإنجاز التقني في مدينة شنتشن يعود بالأساس إلى خبراء شركة ASML المخضرمين؛ فبدون درايتهم العميقة وخبراتهم التراكمية، كان من المستحيل تقريباً النجاح في «الهندسة العكسية» لهذه الأجهزة المعقدة.
ويأتي استقطاب هؤلاء الخبراء كجزء من حملة صينية مكثفة بدأت عام 2019 لجذب كفاءات أشباه الموصلات من الخارج. وبحسب مراجعة أجرتها وكالة «رويترز» لوثائق حكومية، قدمت بكين إغراءات مالية ضخمة شملت مكافآت توقيع تتراوح بين 3 إلى 5 ملايين يوان (نحو 420 إلى 700 ألف دولار أمريكي)، بالإضافة إلى تسهيلات سخية لتملك المنازل.
«لين نان» نموذجاً
برز اسم لين نان، الرئيس السابق لقسم تكنولوجيا مصادر الضوء في ASML، كأحد أهم الكفاءات التي تم استقطابها. وتحت قيادته، حقق فريقه في “معهد شنغهاي للبصريات” التابع للأكاديمية الصينية للعلوم قفزة نوعية، حيث نجحوا في تسجيل ثماني براءات اختراع تتعلق بمصادر ضوء الأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV) خلال 18 شهراً فقط، وفقاً لسجلات براءات الاختراع الرسمية.
أفاد شخصان مطلعان على جهود التجنيد الصينية بأن بعض المواطنين المجنسين من دول أخرى مُنحوا جوازات سفر صينية وسُمح لهم بالاحتفاظ بجنسيتهم المزدوجة.
أنظمة الأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV) الأكثر تطوراً
تتميز أنظمة الأشعة فوق البنفسجية القصوى (EUV) الأكثر تطوراً من شركة ASML بضخامة استثنائية؛ إذ يقارب حجمها حافلة مدرسية وتزن نحو 180 طناً.
وبحسب مصدرين مطلعين، فإنه بعد محاولات فاشلة لمحاكاة هذا الحجم، اضطر الباحثون في مختبر شنتشن لتكبير حجم النموذج الأولي الصيني عدة مرات بهدف تحسين قدرته التشغيلية.
ورغم أن النموذج الصيني يُعد «بدائياً» عند مقارنته بأجهزة ASML، إلا أنه أظهر كفاءة كافية لأغراض الاختبار. ومع ذلك، لا تزال الفجوة التقنية كبيرة، لا سيما في الأنظمة البصرية؛ حيث واجه الباحثون الصينيون صعوبات بالغة في إنتاج أو الحصول على عدسات ومرايا تضاهي جودة تلك التي تصنعها شركة “كارل زايس” (Carl Zeiss) الألمانية، المورد الحصري والأساسي لشركة ASML، والتي امتنعت عن التعليق على هذه التقارير.
آليات العمل: ليزر، قصدير، وبلازما
تعتمد هذه الآلات على عملية فيزيائية معقدة للغاية؛ حيث تُطلق أشعة ليزر على قطرات من القصدير المنصهر بمعدل يصل إلى 50,000 مرة في الثانية، مما يُولّد «بلازما» تصل درجة حرارتها إلى 200,000 درجة مئوية. ويتم توجيه وتركيز الضوء الناتج باستخدام مرايا فائقة الدقة يستغرق تصنيع الواحدة منها عدة أشهر، وفقاً للمعلومات التقنية المنشورة على موقع “زايس”.
ولعبت كبرى المعاهد البحثية الصينية دوراً محورياً في محاولة ابتكار بدائل محلية لهذه المكونات المعقدة. ووفقاً لأحد المصادر، حقق معهد تشانغتشون للبصريات والميكانيكا الدقيقة والفيزياء (CIOMP) إنجازاً هاماً في دمج الأشعة فوق البنفسجية القصوى داخل النظام البصري للنموذج الأولي.
هذا التقدم قد يسمح ببدء تشغيل النظام في أوائل عام 2025، على الرغم من التأكيدات بأن النظام البصري لا يزال يفتقر إلى الدقة المطلوبة ويحتاج إلى تحسينات جوهرية للوصول إلى مستويات الإنتاج التجاري.
إغراءات مالية لاستقطاب العقول
في إعلان توظيف إلكتروني نُشر في مارس الماضي، كشف معهد الأبحاث الصيني عن تقديم رواتب «غير محدودة» للباحثين الحاملين لدرجة الدكتوراه في مجال الطباعة الحجرية، بالإضافة إلى منح بحثية ضخمة تصل قيمتها إلى 4 ملايين يوان (560 ألف دولار)، وإعانات شخصية بقيمة مليون يوان (140 ألف دولار).
وفي هذا الصدد، يرى جيف كوتش، المحلل في شركة «سيمي أناليسيس» والمهندس السابق لدى ASML، أن الصين ستحقق «تقدماً ملموساً» بمجرد امتلاكها لمصدر ضوء يتمتع بقوة وموثوقية عالية ولا يسبب تلوثاً كبيراً للمكونات. وأضاف: «الأمر ممكن تقنياً وهي مسألة وقت ليس إلا؛ فالصين لا تبدأ من الصفر، بل تستفيد من وجود تقنية (EUV) تجارياً في الأسواق بالفعل».
سلاسل التوريد الخفية: الهندسة العكسية والسوق السوداء
كشفت مصادر مطلعة أن الصين تعتمد استراتيجية «تفكيك المكونات» من آلات ASML القديمة، واستيراد قطع الغيار من موردي الشركة عبر أسواق المعدات المستعملة. ولتجاوز الرقابة، يتم استخدام شبكات معقدة من الشركات الوسيطة لإخفاء هوية المشتري النهائي.
كما أفادت التقارير بأن النموذج الصيني الأولي يدمج مكونات خاضعة لقيود التصدير من شركتي نيكون وكانون اليابانيتين. وفي حين امتنعت نيكون عن التعليق، صرّحت كانون بعدم علمها بهذه التقارير، بينما لم تصدر السفارة اليابانية في واشنطن أي رد.
المزادات الدولية ومنصات التجارة الإلكترونية
تستغل بكين المزادات الدورية التي تقيمها البنوك الدولية لبيع معدات تصنيع أشباه الموصلات القديمة. ووفقاً لمراجعة أجرتها «رويترز» لمنصة المزادات التابعة لشركة علي بابا، استمرت عمليات بيع معدات طباعة ضوئية قديمة من ASML داخل الصين حتى أكتوبر 2025.
داخل المنشأة، يعمل فريق يضم نحو 100 خريج جامعي حديث على مشروع ضخم للهندسة العكسية لمكونات آلات الطباعة الضوئية بتقنيتي (EUV) و(DUV).
تخضع عملية العمل لرقابة صارمة؛ حيث يتم توثيق حركة كل عامل بكاميرا فردية مخصصة لمكتبه، لتسجيل عمليات تفكيك وإعادة تجميع الأجزاء المعقدة. وبحسب المصادر، تمنح الإدارة مكافآت مالية فورية للموظفين الذين ينجحون في فك شفرة إعادة تجميع أي مكون بدقة، في جهد يصفه الخبراء بأنه حجر الزاوية في مساعي الصين للاستقلال التقني.
علماء هواوي ينامون في مواقع العمل
بينما تُشرف الحكومة الصينية على مشروع تقنية الطباعة الحجرية فوق البنفسجية المتطرفة (EUV)، تُشارك هواوي في جميع مراحل سلسلة التوريد، بدءًا من تصميم الرقائق ومعدات التصنيع، وصولًا إلى التصنيع والدمج النهائي في منتجات مثل الهواتف الذكية، وذلك وفقًا لأربعة مصادر مطلعة على عمليات هواوي.
ويُطلع الرئيس التنفيذي، رن تشنغفي، كبار القادة الصينيين على سير العمل، بحسب أحد المصادر. وقد أدرجت الولايات المتحدة هواوي على قائمة الكيانات المحظورة عام 2019، ما منع الشركات الأمريكية من التعامل معها دون ترخيص.
وقد نشرت هواوي موظفين في مكاتبها ومصانعها ومراكز أبحاثها في جميع أنحاء البلاد لهذا الغرض. وغالبًا ما ينام الموظفون المُكلفون بفرق أشباه الموصلات في مواقع العمل، ويُمنعون من العودة إلى منازلهم خلال أيام العمل، مع تقييد استخدام الهواتف للفرق التي تُعنى بمهام أكثر حساسية، وفقًا للمصادر. وداخل هواوي، لا يعلم سوى عدد قليل من الموظفين نطاق هذا العمل. وقال أحد المصادر: «يتم عزل الفرق عن بعضها البعض لحماية سرية المشروع. فهم لا يعرفون ما تعمل عليه الفرق الأخرى».