السطحيون
صحيفة النهار
2022-11-16 04:57
بقلم: محمد الرميحي
إذا قال لك أحد شبه جازم الى أين ستؤدي التقنية وما تأثيرها في البشر، عليك أن تبتسم ولا تعلق، فكل من غامر بتصور تطور ما للتقنية قد فشل، بعضهم فشل بعد سنوات، وبعضهم فشل حتى في بضعة أشهر، لا يوجد أحد يستطيع أن يقول لنا بشكل شبه يقيني الى أين ستأخذنا التقنية الحديثة؟
بين يدي كتاب عنوانه ببساطة هو "السطحيون" من تأليف نيكولاس كار، ولعل القارئ يكتشف أن المعنى المراد هنا أن التقنية، وبخاصة في وسائل التواصل الاجتماعي، تقود البشر في كل المجتمعات الى التسطيح. التقنية الاتصالية منجم هائل لا يستطيع أحد أن يسبر غوره، تتدخل فيه الدول والجماعات والأحزاب والقيم والأفراد، ليصنعوا في عصرنا كماً هائلاً من المحتوى الذي يناسب كلاً منهم، ولكنه في الغالب يفارق الحقيقة.
التقدم التقني نعمة في مكان ما، ونقمة في مكان آخر، نعمة تحرر الإنسان من القيود والممنوعات وحتى التابوهات، ونقمة تقود الى عزلته وتشتته وأخذه، جماعات وأفراداً، لتبني أفكار وممارسات قد تكون ضارة به. لم يعد النص المكتوب هو هدف التعلم، أصبح النص الموجز السريع، ولم يعد يُفرق بين الوسيلة والرسالة، أصبحت الوسيلة هي الرسالة، لقد ولجنا في مرحلة تسمى "تبسيط الثقافة"، فأغلب الناس اليوم يستقون معلوماتهم من وسائل التواصل الاجتماعي، وهي تأخذنا الى عصر ظلام جديد يتسم بالضحالة والنرجسية في وقت واحد.
وسائل التواصل الاجتماعي تمارس على الفرد سحرها وحيلها وأصبحت صناعة ببلايين الدولارات، كما أنها صناعة موجهة. خذ مثلاً تطبيق "التيك توك الصيني"، فالمحتوى الذي يقدم للصينيين هو محتوى تعليمي وتثقيفي، أما الذي يقدم للعالم فهو ترفيهي تغمره التفاهة، فيشكل الجهاز العصبي للإنسان بمحتواه المختلف مخيالاً كأنه حقيقة.
اليقين أصبح واهناً بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، والخرافة تحولت الى حقيقة، والكتابة على وسائل التواصل الاجتماعي كونها فردية ومعزولة، يتوهم فيها الكاتب أنه "ملك الحقيقة" أما إذا كان مستتراً خلف قناع باسم وهمي، فيتسنى له أنه "ملك الأرض" يستطيع أن يوزع شتائمه وينفس عقده على الآخرين، وهو في ما يظن أنه آمن من العقوبة أو الملاحقة، طبعاً هو واهم فمقدم الخدمة في تلك الوسيلة يستطيع أن يصل إليه بسهولة ويسر.
بدأ كثيرون يهجرون القراءة الجادة وقراءة الكتب، بل واشتكى العديد في سلك التعليم من أن الكتاب لم تعد له قيمة، فشبكة المعلومات العالمية تستطيع أن توفر لك أي معلومة في التو واللحظة، وما تبحث عنه، سواء أكان تاريخ أشخاص أم أنواعاً من الأدوية أم مناطق الترفيه. وتناقصت القدرة لدى كثيرين على قراءة مقال مطول أو كتاب كامل، فشبكة الإنترنت جعلت من الجميع قراء أقل صبراً، وقد يمدح أحدهم مقالاً كتبته ثم يعاتبك "ولكنه طويل..."! في محاولة لحثك على الاختصار وتقديم النتيجة من دون تبريرها!
جيلنا عندما يستحضر نشأته يتذكر كم كان شغفه بالكتاب والمجلة كبيراً، يبحث عنها وينفرد بها كي يقرأ. بل إن بعض القراء العرب، بخاصة في المناطق البعيدة يسافر لساعات من قريته البعيدة كي يحصل على مجلة أو كتاب يستمتع بقراءته، لم يعد ذلك متخيلاً لدى الجيل الجديد، لقد وقع الجميع في شرك دوامة التحديث حتى لم نعد نعرف من يعلم عن الآخر أكثر، هل هي برامج النت العالمية التي تعرف عنا أكثر أم نحن نعرف عنها أكثر؟ أي حامل لجهاز صغير كالهاتف الذكي يمكن أن تعرف حركته في أي مكان هو فيه، لا يحتاج "المحقق الحديث" أن يستنطق "المتهم". يكفي تفريغ محتوى هاتفه النقال ليعرف تقريباً كل شيء عنه.
لو سألت نفسك كم من أصدقائك لا يحمل هاتفاً نقالاً، ربما لا تجد، وإن ْوجدت فهو قلة القلة والنادر في سلوك الإنسان في عصرنا.
يشير تاريخ الشبكة الى أن تسارع وتيرة البيانات سيزداد، قبل ربع قرن كانت موجودة في ما يطلق عليه "الصفحات الساكنة"، ولم تكن تلك الصفحات مختلفة عما كان يوجد في المجلات، أما اليوم فتقدم الشبكة سيلاً من المعلومات يشارك فيها الجميع تقريباً، بل أصبح تأثيرها أقوى بكثير من الصحافة والتلفزيون. كلما وجد المواطن خللاً ما في مكان ما، فقط يقوم بتصويره بهاتفه ونشره على أي من الوسائل المتاحة، والملاحظ أن السلطات تستجيب وبسرعة لذلك "الخبر" أكثر مما تفعل تجاه مقال في صحيفة أو خبر في التلفاز.
يستطيع المتابع أن يحصل على ما يحدث في اللحظة نفسها. الذي يحدث حولنا اليوم نتيجة ذلك التطور أن الإنسان أصبح مسلوب الإرادة والرأي، يصدق سريعاً ما يصل إليه، وفي الغالب الكثير منه مشحون بالأوهام والتحليلات ذات الأهداف المبطنة والأكاذيب التي تسيطر على حواسه وتشكل مرئياته ومواقفه من نفسه وعالمه، وتعظم من مخاوفه وتزيد من كراهيته، وهي مبنية في الغالب على حجج ناقصة أو خارجة عن السياق، فتشكل ذلك الإنسان السطحي الذي يمكن أن يقاد بسهولة الى أماكن أقلها شراء سلع لا يحتاجها، وأكثرها أن يقف من مجتمعه موقف المعادي والمتحفز. إنه استلاب حديث يرقى الى العبودية وأكثر شرور العبودية هي عبودية الذهن، فإنْ سيطر أحد على عقلك تصبح شخصاً سطحياً، تقاد الى التهلكة وأنت مبتسم.