ديستوبيا «الميتافيرس» قادمة: العيش في الآلة

علي عواد

2021-11-10 08:28

«أعلم أن شريحة اللحم هذه غير حقيقية. أعلم أنه عندما أضعها في فمي، فإن المصفوفة تقول لعقلي إنها طرية وشهية. بعد تسع سنوات، أتعلم ما الذي أدركه؟ الجهل نعمة» (محادثة بين سايفر والعميل سميث من ثلاثية أفلام «ماتريكس»).

طوال ساعة و17 دقيقة، ظهر مؤسّس شركة «فايسبوك»، مارك زوكربيرغ، أمام شعب الإنترنت معلناً حقبة رقمية جديدة: «الميتافيرس» آتٍ، وأن شركة «فايسبوك» صار اسمها «ميتا». هكذا، أعلن مؤسّس أكبر منصّة تواصل اجتماعي تضمّ نحو نصف البشرية، أن مستقبل المستخدمين سيكون داخل الآلة لا خارجها. فما هو «الميتافيرس»؟ وكيف سيدير هذا العالم الموازي الرقمي اقتصاده عبر العملات الرقمية والـNFT؟ وهل سيبقى للحياة الحقيقية أي معنى أمام إغراءات الحياة الافتراضية؟

«الميتافيرس»: الخيال - الحقيقة

فعلياً، لا يمكن شرح «الميتافيرس» من دون استخدام المخيلة. يمكن أن نتصوّر شخصاً قد استيقظ لتوّه، تناول الفطور وعاد إلى غرفته ليضع نظارة الواقع الافتراضي (VR)، ويدخل إلى الحياة الرقمية. سيتنقل داخل مساحة افتراضية ويلتقي زملاءه، سيذهب معهم إلى الجامعة أو المدرسة أو إلى اجتماع داخل الشركة التي يعمل بها، والتي يجني ماله عبرها وبالعملات الرقمية. وعندما ينتهي من ذلك، سينتقل إلى كوكب افتراضي آخر مخصّص للهو، حيث قوانين الفيزياء غير موجودة. فعلى سبيل المثال يمكنه أن يطير، أو أن يكون على هيئة روبوت حديدي يطلق أشعة الليزر من يده. وسيدفع مقابل دخوله ذلك الكوكب بضعة عملات رقمية. بعدها سيجول على أرض يمتلكها في كوكب آخر، اشتراها عبر الـNFT عندما كان سعرها بخساً، وهو يفكر الآن في بيعها لشخصٍ يريد تحويلها إلى ميدان لسباق السيارات. وبمبلغ كبير من العملات الرقمية. وبعد كل ما قام به، شعر بالنعاس وأزال النظارة عن عينيه وخلد إلى النوم.

الديستوبيا

هو تعريف للدلالة على ما يعرف بـ «المدينة الفاسدة» الذي يشير إلى مجتمع خيالي هو نقيض «المدينة الفاضلة» وترجمتها «يوتوبيا».

«الميتافيرس» هو عبارة عن عالم افتراضي يتم الدخول إليه عبر نظارات الواقع الافتراضي، ويمكن دمجه أيضاً مع نظارات الواقع المعزّز (AR). هذا العالم الافتراضي لن يملكه أحد «نظرياً»، إذ يشارك في بنائه عدد كبير من الشركات البرمجية والأفراد من حول العالم. هو أشبه بـ«أحجية» (Puzzle) يتم إضافة أجزاء لها كل يوم، إلا أنها لوحة لن تكتمل أبداً، وهي ستكون في حالة توسّعٍ دائم وأبدي. وعلى سبيل المثال، وبناءً على السيناريو السابق، سيجد المستخدم عوالم ومحطات ومساحات جديدة تبنى يومياً داخل العالم الافتراضي.

لصنع كعكة «الميتافيرس»، يجب تحضير بعض المكوّنات الرئيسية. البداية في صناعة أجهزة الواقع الافتراضي، مع كل الأدوات الإضافية التي تؤمّن للمستخدم قدرة كبيرة على التحكّم في التنقل والإحساس بما يقوم به داخل العالم الافتراضي. ثم البدء في إعمار هذه المساحة الرقمية. وبعدها هناك إلزامية وجود تقنية الجيل الخامس للاتصالات اللاسلكية 5G من أجل نظارات الواقع المعزّز، وإنترنت عبر الألياف الضوئية مع WIFI 6 من أجل نظارات الواقع الافتراضي. فمن دون السرعة في الاتصال لا يمكن حتى التفكير في قيام «الميتافيرس»، خصوصاً أن الحياة هناك ستكون عبارة عن بثّ مباشر طيلة الوقت، وبوضوح 4K. فعلى سبيل المثال، في لعبة «فورتنايت» أو «بابجي»، يحتاج اللاعب من أجل الدخول إلى ساحة اللعب، أن ينتظر دخول كل اللاعبين الآخرين حول العالم، بينما داخل «الميتافيرس»، لن يكون هناك وقت انتظار قبل الدخول، هو بثّ مباشر طيلة الوقت مثل الحياة الحقيقية. ولذا، هناك حاجة إلى إنترنت سريع يؤمّن اتصال وخدمة سريعة في نقل البيانات، وخفض وقت الاستجابة في الاتصال «Delay». ورابعاً، يجب أن تكون هناك عملة رقمية وشكل معين من أشكال تثبيت ملكية أمر ما للمستخدم داخل «الميتافيرس»، وهنا دور الـNFT.

الـ«NFT»

هي اختصار لـ«Non Fungible Token»، أي رمز غير قابل للاستبدال. وهي موجودة على «بلوكتشاين» الخاصة بعملة «إيثيريوم» (بدأت بعض العملات الرقمية إنتاج NFT على شبكات مختلفة). وبعكس العملات الرقمية الأخرى التي تتساوى لجهة قيمة وحداتها (مثلاً 1 بتكوين لدى شخص تساوي قيمتها 1 بتكوين لدى شخص آخر)، فإن الأمور مختلفة قليلاً مع الـ«NFT» التي يكمن جوهرها في تثبيت الأصول الرقمية لجهة المُلكية، فضلاً عن أن ما تحتويه هو النسخة الأصلية التي لا وجود لمثلها.

على سبيل المثال، يمكن أن نتخيّل عملة الـ«NFT» على أنها خزنة تمكّن المستخدم من الاحتفاظ بأصوله الرقمية داخلها. يمكن أن يحتفظ بموسيقى، أو مقطع فيديو، أو «أفاتار» (شكل يرتديه المستخدم عند دخول الميتافيرس)، أو قطعة أرض على كوكب ما داخل «الميتافيرس»... وعند شراء أي من هذه الأصول، يُحفظ في سجلات الـ«بلوكتشاين» أنها ملكه هو وحده، ولا يمكن صنع بديل ونسخة منها. هو وحده من يحدّد قيمتها في حال أراد بيعها مستقبلاً. هكذا، لا يمكن خلق عملتَي «NFT» متساويتَين (لهذا قيمتها غير متساوية). هي مثل مقتنيات يتم جمعها بغرض بيعها أو استخدامها.

اقتصاد «الميتافيرس»

منذ إعلان زوكربيرغ تركيز شركته على «الميتافيرس»، جنّ جنون الكوكب. ارتفعت أسعار العملات الرقمية الخاصة بـ«الميتافيرس» عشرات الأضعاف. وبدأت شركات ومؤسّسات كبرى تحجز مكاناً لها داخل الحياة الرقمية. ومن بين هؤلاء شركة «نايكي» المنتجة للألبسة الرياضية التي سجّلت علامتها التجارية داخل «الميتافيرس»، مصرّحة بأنها أنشأت قسماً لتطوير منتجات تحمل علامتها داخل الحياة الافتراضية، وأن المستخدم سيكون قادراً على شراء حذاء رياضي وأمور أخرى من صنع «نايكي» بشكل «NFT» ليتنقل به داخل «الميتافيرس». كذلك، قامت منصّة «كيوكوين» الشهيرة للتداول بالعملات الرقمية، بإنشاء موقع للشركة داخل «الميتافيرس». وأعلنت منصة «كوين تيليغراف» المشهورة بتقديم المحتوى الخاص بالعملات الرقمية، بإنشاء مقرّ رئيسي لها داخل «الميتافيرس».

إن ما يحصل اليوم هو مجرد البداية. بحسب موقع «ستاستا»، تم بيع 7.1 مليون قطعة من أجهزة الواقع الافتراضي والمعزز عام 2020. في حين أن الرقم متوقع أن يصل إلى 76 مليوناً عام 2024.

«الميتافيرس» الآن هو أشبه بقارة جديدة تجري اكتشافها، فيما يلهث خلف التوسّع بداخلها وامتلاك أكبر نسبةٍ فيها شركات عدة أبرزهم: شركة «ميتا» التي جندت 20 في المئة من موظفيها خدمةً لهذا المشروع، وهي الآن تقوم بتوظيف 10 آلاف شخص من الاتحاد الأوروبي وعلى فترة 5 سنوات من أجل تطوير «الميتافيرس». تسعى «ميتا» للحصول على أكبر جزء من كعكة «الميتافيرس» قبل الآخرين، خصوصاً أن منصّة «فايسبوك» شاخت. وبحسب الوثائق المسرّبة التي نشرتها صحيفة «وول ستريت جورنال»، فإن «فايسبوك» ترى أن مستخدميها باتوا مجرد مجموعة من القبائل التي تنشر مقالات وآراء سياسية قبل أن تتحارب في ما بينها على المنصة. أما المحتوى الإبداعي، والفئات المراهقة والشابة من المستخدمين، فقد هجرت «فايسبوك» نحو منصّة «تيك توك» ذات المليار مستخدم شهرياً. بالإضافة إلى ذلك، أراد زوكربيرغ من تغيير اسم الشركة إلى «ميتا»، مسح قذارة ما فعلت شركته بحقوق المستخدمين وفي بياناتهم. غير أن الأخطر من ذلك كله، هو ربط اسم شركته بحيث عندما يُشار لها، تلقائياً يُشار إلى «الميتافيرس»، والذي يفترض أن يكون عالماً افتراضياً غير مملوك من أحد. وهو ما أشار إليه جاك دورسي، مؤسّس «تويتر»، في تغريدة بُعيد إعلان زوكربيرغ.

رعب «الديستوبيا»

«الديستوبيا» الرقمية المقبلة مرعبة، وحتى إشارة زوكربيرغ إلى أن «الميتافيرس» سيحسن وضع المناخ، مرعبٌ أكثر. إذ يُعتقد أن ارتباط المستخدمين بالآلة من منازلهم، سيخفّف من الملوّثات! كما أن طريقة جمع بيانات المستخدمين ستختلف. فعلى سبيل المثال، البيانات تُجمع اليوم عبر كل ما ينشره المستخدم من نصوص وفيديوات والإعجابات التي يقوم بنقرها، في حين أنه داخل «الميتافيرس»، سيتم جمع كيفية تحرّك جسده داخل هذا العالم، والتعابير التي تظهر على وجهه، ونوع الأماكن التي يزورها في الحياة الرقمية. عملياً، الآلة تريد كامل وعي المستخدمين. أن تتملّك إدراكهم، وأن تجعل الحياة الافتراضية أكثر إغراءً من الحياة الحقيقية التي سيرفضها البعض، كما حصل مع شخصية سايفر من فيلم «ماتريكس». وهذا إن حصل، سيكون مارك زوكربيرغ قد ثبت نفسه إلهاً رقمياً داخل حياة الديجيتال إلى عقودٍ مقبلة.

أجهزة الانتقال إلى «الحياة الموازية»: 296 مليار دولار في 2024

الوسيلة التقنية للدخول إلى «الحياة الموازية» هي أجهزة الواقع الافتراضي وهي على نوعين: أجهزة الواقع الافتراضي «VR»، وأجهزة الواقع المعزز «AR». بحسب موقع «ستاتيستا» يصل حجم هذه السوق في السنة الجارية إلى 30.7 مليار دولار، ويتوقع أن يزداد إلى 58 مليار دولار في السنة المقبلة، و124 ملياراً في عام 2023، و296 مليار دولار في عام 2024.

الفرق بين التقنيتين، أن أجهزة الـ«VR» هي نظارات بداخلها شاشة تؤمّن للمستخدم خدمة الولوج إلى العالم الافتراضي ورؤية العالم الرقمي من حوله. كما هناك أجهزة إضافية يتم وضعها على جسد المستخدم، تقدّم له القدرة على الإحساس بما يحصل معه داخل «الميتافيرس». على سبيل المثال، إن بذلة «Somnium X TESLASUIT DK1» تؤمّن للمستخدم الذي يرتديها، أن يشعر بملمس الأشياء عند احتكاكها بجسده داخل «الميتافيرس»، علماً بأن التطورات التقنية وصلت إلى أحاسيس أخرى أيضاً، فهناك أجهزة تتيح للمستخدم أن يقوم بممارسة الجنس داخل العالم الرقمي، مع أجهزة خاصة يرتديها تعكس إحساس ما يحصل هناك.

بالنسبة لتقنية «AR»، هي نظارات تتيح للمستخدم أن يرى كل شيء أمامه في العالم الحقيقي، لكن تدمج معه أشكال رقمية. وعلى سبيل المثال، يمكن يجلس مستخدم يرتدي تلك النظارة ويلعب الشطرنج افتراضية أمامه، لا يراها من حوله، ومع شخص آخر في المكان متواجد رقمياً. ويمكن لهذه التقنية أن تغير شكل اتصال الفيديو، بحيث يمكن للمستخدم أن يظهر رقمياً أمام من يتصل به، وتجدر الإشارة إلى أن التقنيتين، يمكن أن تتواجدا في الجهاز نفسه.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي