الوظائف المعرفية التأسيسية لمباحث فلسفة التاريخ
موقع الامام الشيرازي
2016-07-28 08:56
د. هيثم الحلي الحسيني
الأهمية المعرفية لمباحث فلسفة التاريخ
يمكن اعتبار الوظيفة المعرفية لمباحث فلسفة التاريخ، هي تعزيز الفكر التأمّلي لدى قادة الفكر، من خلال تكوين مداخل تفسيرية متعددة، لنشوء الدول والحضارات، وعوامل اضمحلالها وسقوطها، مما يتيح أدوات بحثية رصينة، تساعد في المناقشات والحوارات، يضع عليها صنّاع القرار، ومراكز التأثير المجتمعي، وبناة نهضة الأمة، أساسا في التفكير المنهجي، فيما يعترضهم من مشاكل وأسئلة، تدور حول كيفية التحرك، والنهوض بالمجتمعات.
ولا يستغني أيّ قائد للفكر والمعرفة، عن فهم القوانين الحاكمة، لبناء الأمم وسقوطها، فان دور بناة النهضات والعاملين لها، هو استنهاض الأمة، ومعرفة هذه القوانين وتوظيفها، واستخدامها في عملية النهضة، لكونه أمر في غاية الضرورة.
فغرض العلم في كليّاته، هو تقديم هذه القوانين، ليستفيد منها بناة النهضة، سواء كانت في طور النشوء أو النهوض أو القمة، كما يستفيد منها قادة الدول وأعلامها، سواء قبل أن يمتلكوا زمام المسؤولية، أو أثناء استلامها، أو فيما بعد ذلك.
الحاجة المعرفية لمباحث كتاب فلسفة التاريخ
يبين سماحة المؤلف، هذه الحاجة المعرفية، لجهة أنّ العلم بالجامع، ينتج معرفة الإنسان، بأسباب قيام وسقوط الدول والحضارات، لأن أحداث التاريخ، بما يتعلق بالدول والحضارات والبداوات، لها جامع مشترك، أسوة بجميع الموجودات، في الكون والطبيعة، التي لها جنس واحد، وفصول مختلفة، ولها أعراض مختلفة، خاصة أو عامة، وفق تعبير المناطقة، وقد بحث سماحته، تفصيل هذا الموضوع، في كتابه المخطوط "التفسير الموضوعي".
وتعد مباحث الكتاب موضوع الدراسة، الموسوم "فلسفة التاريخ، دراسة تحليلية في المناهج والسلوك"، مختلفة عن كثير من المعالجات، في هذا الموضوع الفكري الحيوي، فكثير ما تطرح المدارس المتنوعة، في فلسفة التاريخ، باعتبارها مدارس منفصلة، لكنها في مباحث هذا الكتاب، قد جعلت في إطار متكامل.
إنّ التكاملية في الفكر الإنساني، والنظريات المختلفة لزوايا متعددة في نفس الموضوع، تعزز المعالجات في مخرجاتها، حيث إن كل زاوية من زوايا النظر، تخدم وضعاً ونظاماً، وظرفاً ونقاشاً معيناً، كما تجسّد شكلاً من أشكال التعامل مع الحالات، بما يعرف بمنهج دراسة الحالة، case study، وبالتالي فهي مفاتيح متعددة، لأبوب مختلفة في نفس البيت، فالبيت واحد وهي الظاهرة التاريخية، ولكنّ أبوب دخوله متعددة.
وقد جرى في مباحث الكتاب، موضوع الدراسة، بيان فائدة كل من هذه الأبواب، وكيف له أن يخدم صنّاع النهضة، في عملية الفهم الاستيعابي، والتبصّر فيما يدور حولهم، ليخدمهم في عملية صنع واتخاذ القرار، وإدارة الأزمات، حتى يتمكنوا من إسقاط قوانين النهضة على الواقع، لمعرفة الفائدة العملية، في المعالجات الآنية والاستراتيجية، فهذه القوانين، تحكم سير التاريخ، وهي المشتركات التي تدرس وتستقرأ على هديها وضوئها، الجوامع في أحداث التاريخ ووقائعه، والتي يعبّر عنها سماحته، بالروح العامة للتاريخ.
كما أن الرائد النهضوي المجتمعي، سواء المنتسب الى المؤسسة الدينية، أو الى الهيئات المجتمعية القيادية والفكرية الأخرى، سيجد متعة كبيرة، في رؤية هذه العقول المستنيرة، من المفكرين والباحثين والدارسين، وهي تعمل في البحث في السنن، لتستنتج للمجتمع العلمي والفكري والمعرفي، الخلاصات والنتائج والمخرجات البحثية المنهجية، وعندها تتولد الرغبة، لمزيد من الدراسة والنظر، في هذا العلم الرائد، الذي أثّر في تاريخ العالم تأثيراً هاماً، وخاصة في العالم الإسلامي، الى يومنا هذا.
الأهمية الفكرية لدراسة فلسفة التاريخ
يتبين من استقراء موضوعات الكتاب وجزئياته، أن الهدف من مباحث الكتاب، هو ليس الدراسة الاستقصائية النظرية الأكاديمية الباردة، وإنما هدفها، أن تتحول هذه العلوم، إلى أدوات في الفعل والممارسة، ولكي تتحول هذه المعارف، الى مخرجات في المهارات والاتجاهات، لابد من استخدامها، ومحاولة تسيير الواقع من خلالها، ومن خلال تكرار هذه المحاولة، تتكون الملَكَة التي يحتاجها صنّاع النهضة، سواء أكانت في فهم الماضي واستشراف المستقبل، أم في إقناع من حوله، وهي أهم وظائف الرائد القيادي، في أي مشروع نهضوي يخوضه.
ولغرض فهم الأهداف الفكرية، في كتاب "فلسفة التاريخ"، يتطلب دراسة مدخلية في علوم التاريخ، وكيف لها أن تستخدم، لرفع أو كسر الروح المعنوية للأمم، لتكون عاملاً مكمّلاً لمباحث الكتاب، انسجاماً مع تطلع المجدد المؤلف، في استنهاض المعنيين في موضوعة الكتاب، ثم العرض للنظريات التأسيسية للمفكرين فيه، بدءا بتصورات مؤسس هذا العلم، وعرّابه في الفكر العربي الإسلامي، والإنساني عموماً، وهو "ابن خلدون"، في "مقدمته" التحليلية المبكرة، حول دور العصبية في قيام الدول، والتي يعنى بها الانتماء الجمعي، العقدي والفكري والمجتمعي.
ثم استقراء دور المفكر الرائد "توينبي"، الذي انتقل في الأداة الفلسفية التاريخية، من وحدة العصبية الدينية والقبلية، الى مكوّن الحضارة، كوحدة بناء جامعة، مما يتطلب دراسة أثر التحديات التي عبّر عنها "توينبي"، واستجابة النهضات والحضارات لها، في نظريته الفلسفية التاريخية، التي أطلق عليها، "التحدي والاستجابة"، وأثر الأفكار في حدوث التقدم، وأثر الصراع على الموارد المادية، في قيام الدول والحضارات، ومما يدعم هذه الرؤى النظرية، ما ذكر في القرآن الكريم، من قوانين تتعلق بالنهضة المستمدة من دراسة فلسفة التاريخ.
وعليه فإن الفهم العلمي لهذه الموضوعة، يتطلب الإطلاع على الأعمال التأسيسية للمفكرين المؤرخين، والمنظرين لقوانينها، دون الخوض في النقد المباشر، الموجه للنظريات ذات الصلة، لأن الهدف من هذه الدراسات بشكل عام، هو الاستفادة من أفكار المفكرين، واستخدام الصالح منها، وليس إخضاعها للمحاكمة، والنقد والدراسة المقارنة.
وتجدر الإشارة في هذه الجزئية، أن الاقتباس من بعض مفكري الغرب، مثل "هيغل" و"ماركس"، لا يعني أن الدراسة تقبل كل أفكارهم، ولا كونها تطابق الثوابت العقدية والفكرية الإسلامية، ولكنها تتطلع الى استقراء الفكر، في هذه النظريات، الذي قد سعى إليه الباحث المجدد، فإنهم وإن زاغوا في أمور بعينها، لكنهم قد أضافوا في أمور أخرى.
مداخلة في الدراسة المعرفية التاريخية
يمكن تعريف علم التاريخ، بأنه دراسة للتطور البشري، في جميع جوانبه، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، سواء كانت معالم هذا التطور وظواهره، واتجاهات التغيير فيه، والتحولات الاجتماعية والسياسية التي نتجت عنها، نحو الأفضل أو نحو غيره[1].
فمفردة "التاريخ"، تعني مجموعة الحوادث والوقائع، التي ظهرت في حياة البشرية، أما علم التاريخ، فهو ذلك الفرع من المعرفة الإنسانية، الذي يستهدف جمع المعلومات عن الماضي، وتحقيقها وتسجيلها وتفسيرها، فهو يسجل أحداث الماضي، في تسلسلها وتعاقبها، لكنه لا يقف عند تسجيل هذه الأحداث، وهذه الدالّة المعرفية العلمية، وإنما يحاول عن طريق إبراز الترابط بينها، وتوضيح العلاقة السببية لها، أن يفسّر التطور الذي حدث على حياة الأمم والمجتمعات، والحضارات المختلفة، وأن يبين كيفية حدوث هذا التطور ويبين أسبابه، في تقنين الجوامع والكليات فيه، ثم استكشاف الواقع واستشراف المستقبل، من خلال إسقاطات هذه القوانين عليها، وهذا يفسر إضافة عنصر الفلسفة، إلى هذه المباحث والدراسات.
وعليه فإن المهمة العلمية المعرفية الأولى، في دالة التسجيل والتقرير، لآحاد الحوادث، ومفردات الوقائع، تضطلع بها الدراسات التاريخية، أمّا الدالة الثانية، وهي المتعلقة بالتفسير والتحليل، ثم التقنين إلى الجوامع والكليات، فهي ما تضطلع به، دراسات فلسفة التاريخ.
إن هذه الجزئية المنهجية المعرفية، تبين حاجة علم التاريخ إلى الفلسفة، التي تهبه الفكر والعقل، وأدوات التفسير والتدبّر، كما أن الفلسفة أيضاً، بحاجة لعلم التاريخ، لتلمس الدقة والمخرجات البحثية الصائبة، في الانتقال بها، من عالم المجردات، إلى عالم الحقائق، فالقضية الأولى، هي موضع اهتمام هذه الدراسة، فالحاجة تكمن في قصور طبيعة التاريخ، والنقص في تركيبته.
وليس بمستغرب أن عارض المؤرخون، هذه الجدلية العلمية، في نشوء فلسفة التاريخ، وبالنتيجة فأساس النقص في طبيعة التاريخ، يكمّله الفكر الفلسفي، ونقطة البدء في فهم القصور في تركيب التاريخ، تعويضه بفكر فلسفي، يكمل المنهج التجريبي النقلي والتحليلي، الذي تتبعه الدراسات التاريخية، بمنهج تأملي تدبري تفكري وعقلي، يقارب الاستقراء التام، أو الاستقراء المعلل، لكليات المفردات، وجوامع الوقائع وآحادها.
ولهذه الجزئية الفكرية، يخلص الباحث المجدد، في مقدمة كتابه، بأن فائدة دراسة فلسفة التاريخ، والتعمّق بها، هي "المعرفة"، فإن العلم والمعرفة، مطلوبان لذاتهما، والفرق بينهما، أن المعرفة يقال لما سبق العلم به، لجهة أن العلم، هو الذي ينتج المعرفة، والتي يعبر عنها في فلسفة العلم "الإبستيمولوجية"، بالمعرفة العلمية، فضلاً عن أن مفهوم سماحته لفلسفة التاريخ، أنها القاسم المشترك، الذي يجمع الأحداث التاريخية، ويضعها أمام بصيرة الإنسان.