فكر المجدد الشيرازي وأدوات الدراسة الموضوعية في مشروع النهضة
موقع الامام الشيرازي
2016-02-11 02:01
د. هيثم الحلي الحسيني
يؤكد المفكر المجدد، السيد محمد الحسيني الشيرازي، أعلى الله درجاته، أن لتبيان علم التاريخ وفلسفته، وعلاقة التاريخ بالأخلاق، والتعريف بمفهوم الاستقراء المستقبلي، وبالتالي المشروع النهضوي، وأطر البناء الحضاري فيه، من وجهة نظر البحث التاريخي، يتوجب التعريف بالمناهج البحثية، التي تسلكها الدراسات التاريخية، في استخدام أدواتها، في الاستقراء والقياس المنطقي والتمثيل.
إذ ينتهي سماحته من خلالها، الى استنتاج العلاقة الوظيفية، بين الدين والعلم، التي تبين إنسداد وقصور كل منهما، في حالة عدم تكملة الآخر له، فيخلص المجدد الى احتياج كل منهما للآخر، فلا يمكن للعلم أو للدين، أن يؤثر مجتمعيا دون الآخر، فهما جناحان للحضارة الصحيحة، فغاية العلم السامية، في خدمة الأغراض النبيلة للدين، وإن العلم بدون الدين، لا يمكن أن يخدم الإنسان، أو أن يمنعه من الإفساد، فضلاً عن التأثير في الأمن المجتمعي، والوفاق والتعايش والسلم الأهلي، التي قد تقع بحجة المهنية في البحث العلمي، مما يدعو الى اعتماد أنسنة العلم، قبل مهنيته.
ولغرض المداخلة في أنسنة العلم وأخلاقيات البحث التاريخي، فهذه الجزئية في الدراسات البحثية المنهجية، التي يعبّر عنها بمفهوم أنسنة العلم، أو أنسنة البحث العلمي، هي مقاربة للمنظومة القيمية للعلم، وهو الجانب الإنساني في العلم، والذي من الناحية المنطقية، يتقدم على الجوانب البحثية المنهجية، في مهنة البحث العلمي، لجهة المسؤولية الأخلاقية، لتأثيرات البحث العلمي، في الفرد والمجتمع، التي قد تؤثر سلباً في السلم الأهلي، والوفاق المجتمعي، تحت دعاوى الانفتاح العلمي، ومنع انسداد البحث فيه.
إن الأنسنة في العلم، هي تعبير عن النزعة الإنسانية في العلم والبحث العلمي، بمعنى تقييد العلم والبحث العلمي، بالإطار الإنساني، في مناهجه وسياقاته وغاياته وأهدافه، وفي معطياته ونتائجه، لجهة التأثير في الفرد والمجتمع، فهو ليس بمفهوم الإنسانيات، لجهة إختصاصاتها المعرفية، وهو إشكال في المصطلح، لجهة أن سائر العلوم هي إنسانية افتراضاً، وكذا فإن الأنسنة تتميز عن مفهوم "الأخلاقيات" في العلم والبحث العلمي، التي تتحدد بالجوانب المهنية البحثية، في التزام الأمانة العلمية والمصداقية والموضوعية، والحرص على الإنصاف والحقوق، في عرض البحث وسياقه، لكنها تتكامل معه.
وضمن مقاربة الثنائية التكاملية بين الدين والعلم، يتبين إن نماذج البحث العلمي، التي تشكل مخرجاتها، أثارا سلبية وتداعيات مرضية، في المجتمع الإنساني، لكنها ضرورية لجهة التوثيق العلمي، يمكن أن تجري وفق محددات معروفة، تمنع النشر العشوائي، وتحدد الإطلاع العلمي، للمجتمع النخبوي الأكاديمي حصراً، وفق قوانين حاكمة، حيث تعد القيم والتقاليد والحرمات، وحتى المحرمات أو "التابوهات" المجتمعية، كأبحاث حقيقية، للتأثيرات البحثية المجتمعية، والتي يبرز الدين كعامل حاسم، في إخضاع المجتمع لها، فهذا مؤشر واضح، لحاجة العلم للدين.
وفي التعبير عن التماهي، بين البحث العلمي والتحقيق الفقهي، أو الدراسات الدينية عموما، يتبين إعتماد البحث، لأدواته المتمثلة بالإستقراء والقياس المنطقي والتمثيل، والتي تعرف بمناهج البحث، النقلية أو العقلية أو التجريبية والحدسية، وحتى "الأركيولوجية" الحفرية، وهي حال الأدوات التي يستخدمها الفقيه المجتهد الأصولي، في استنباط الأحكام الشرعية، في استقراء الجزئيات، لتكوين كليات للتحقيق الفقهي، وبالتالي استنباط الجزئيات عنها، والتي تعرف بأصول مناهج التحقيق والبحث الفقهي.
فضلاً عن مناهج البحث الأخرى، التي وفرتها المعرفة العلمية "الإبستيمولوجية"، والمنهجية "الميثودولوجية"، انتهاءً بالمنهج العرفاني، ودليل القياس الفقهي والاستحسان، أو ذائقة المجتهد، والتي تتماهى والتمثيل في المنطق، والتي يعتد بها عادة، في ما يعرف بسد الذرائع، كونها لا تنتج أحكاماً كلية، وهذا يبين دخلية العلم وموضوعاته، في البحث الفقهي، الذي يؤشر حاجة الدين الى العلم، ويفسر تأكيد سماحته الى العلاقة البينية العضوية بين البحث العلمي والتحقيق الفقهي.
وفي موضوعة "وحدة الاشتراك في الحضارات"، وهي مقاربة تطبيقية أو تجريبية، يقدم سماحته نماذج عملية، لتسند الجوانب النظرية في متبنياته الفكرية، فيجمل مادتها في مسألة "أن الحضارات وعلى اختلافها، لها روح واحدة وروح عامة، هي فلسفة التاريخ".
وفي الحقيقة إن النماذج التي يقدمها سماحته للدراسة، إنما هي إسقاطات تطبيقية، لنظرية "التحدي والاستجابة"، التي أطلقها ونظر اليها، المفكر المؤرخ "توينبي"، بما تمثله من الأساس الفكري لفلسفة التاريخ، والتي استندت مبانيها، الى نظريات "بن خلدون"، في البحث التاريخي.
ويشبّه سماحة المجدد سلوك الحضارات، بسلوك دورة الموجودات في الطبيعة والكون، منطلقا من قوانين فلسفة التاريخ، أو ما يعبر عنه، بروح التاريخ، فهذا السلوك للموجودات في الطبيعة، يتماهى وسلوك الإنسان أيضاً، في دورته الحياتية، وحتى سلوك المعدات والمنتجات الصناعية، فهي تتصرف وفق نفس القانون، وكذلك الدول أو الحضارات، التي عني بها سماحته في هذه "المسألة.
وعليه فإن وفق هذا القانون، الطبيعي، والهندسي، والكوني، والحضاري أيضاً، فإن المتغير فيها، يمر بثلاثة مراحل، على محور الزمن، تكون الأولى قلقة وتصاعدية ومحدودة زمنيا، كما هي مرحلة الطفولة للإنسان، أو تكثر تداعيات التشغيل والأعطال، ثم يصل الى المرحلة الثانية، وهي تتسم بالإستقرار والأداء الثابت، كما هي بالنسبة للمعدات أو الآلات، أو السلوك الصحي المستقر، بالنسبة للإنسان، في مرحلة الصبا والشباب، وبداية الكهولة والنضج، وهذه المرحلة، يعبر عنها هندسيا ورياضيا، بمنحن ثابت وغير متعرج، يطلق عليه، بحرف اللام، "اللامدا اللاتيني أو الإغريقي"، لكن المرحلة اللاحقة والأخيرة، تشابه في سلوكياتها، للمرحلة الأولى، حيث كثرة التداعيات الصحية في الإنسان، أو والأعطال ومشاكل الأداء في التقانات.
ومن هذه المداخلة، في تماهي السلوك بين الطبيعة والتاريخ، يمكن مقاربة ما عني به المفكر المجدد، في ستنباطه "مسألته" في هذه القضية، إذ يقارب سماحته هذا المبحث، في نظرة فلسفية لدورة الحضارات، التي تتماهى في سلوكيتها التعاقبية، لدورة الموجودات في الطبيعة، وسائر الظواهر الكونية، وكذلك فقد أثبت سماحته هذا المفهوم والمعنى، في كتابات سابقة، مثل التنبّوء بسقوط النظم الشيوعية، في كتابه "ماركس ينهزم"، أو في قراءته للتغيّرات الحاصلة في العالم الغربي، في كتابه "الغرب يتغير".
وعليه فإن المفكر المجدد، يخلص في "مسألة"، في عنوان "الدراسة الموضوعية للتاريخ"، الى ضرورة إعتماد الموضوعية التأريخية، وأن معرفة فلسفة التاريخ، تستوجب دراسة التاريخ بتجرد وموضوعية، وفي الحاجة الى الواقعية في الفلسفة، وأهلية الباحث المتخصص في الدراسات التاريخية، ليكون مؤهلاً للوصول الى الروح العامة، السارية في التاريخ، حاضراً ومستقبلاً، وماضياً.
وبذلك تكون هذه الدعوة العلمية البحثية، للاهتمام بالدراسات المستقبلية، التي تعتبر في إحدى جوانبها، دراسة تاريخية أيضاً، كما وهي دعوة واعية، الى اعتماد أدوات المنهج البحثي التاريخي، ومصادره المادية، المتمثلة بالوثائق والموروثات والمقتنيات المختلفة، فضلا عن الموجودات الأثارية "الأركيولوجية" والنقلية، وفي إتباع المنهج النقلي، في قراءة النص التاريخي، واعتماد مقدماته، للخروج باستنتاجات ومخرجات بحثية.
ويقدم الأستاذ المجدد، في قضية التحليل الدقيق للتاريخ، "مسألة" مهمة، في شرائط القراءة الدقيقة، للوثيقة التأريخية، وفي قبول التفسيرات العصرية، للنصوص القديمة، لجهة الخصوصيات التفسيرية، أو التأويلية "الهيرمينوطيقية"، المتغيرة في الزمن والمفاهيم، وبذلك يشير سماحته الى المباحث الأصولية في "التعادل والتراجح"، بين الروايات المختلفة، التي تأتي في مقام تحليل التاريخ، وفلسفة القضايا الكلية أو الجزئية الشخصية، أو الزمانية أو المكانية.
إن هذا المبحث المحوري، يشكل مقدمة مجزية، في المنهج النقلي المعمّق، في الدراسات التأريخية، لجهة الدعوة للقراءة الدقيقة للنص الموروث، والوثيقة المكتوبة، وفق اللغة المستخدمة ومفرداتها، في زمان النص والظروف المؤثرة فيه، بما فيها تطور المفردات والعبارات الدالة، للعبادات عند البعثة الإسلامية وقبلها، وفي العصور الإسلامية التي لحقتها.
ولغرض المداخلة في القراءة المنهجية الموضوعية للنصوص، المتضمنة في المخطوطات الموروثة، ينبغي التعريف بعلم "الفيلولوجيا"، الذي يتضمن الممارسة العلمية النقدية، لنصوص المخطوطات، الى جانب علم "الباليوغرافيا"، الذي يهتم بدراسة الخطوط القديمة، فضلاً عن علم "المسكوكات"، الذي يبين عصر المخطوطة، ونظام الحكم فيه، لأهميته في إستقراء النص، وبيان التأثيرات السياسية والمجتمعية فيه.
وبذلك فهذا العلم المعني بدراسة النصوص الموروثة، يتماهى وفن التحقيق في التراث العربي الاسلامي، الذي يهتم بالكشف عن النص الأصل، ليتسنى لاحقاً دراسته، وإظهار الفكر المتضمن فيه، وثم الدراسة المعمّقة "الأركيولوجية" الحفرية له، بقصد الكشف عن الفكر المسكوت في النص، دون ان يكون ذلك دعوة لإعادة كتابته، وانما إعادة لإنتاج النص، وقراءته بشكل معمق، وبأداة علمية بحثية معاصرة، إذ لا منهجية علمية، في دعوى إعادة كتابة التاريخ، وإنما المنهجية في إعادة قراءته، وإستقراء نصوصه، ومفرداته البحثية المادية، وجزئياته المشكّلة لكلياته، والتي يعنى المفكر المجدد بها، بالروح العامة للتاريخ، وهي التي تتماهى وفلسفته.
ويشترط "التحقيق" الرصين من الباحث فيه، درجة عالية من الامانة العلمية، في اظهار الكتاب المحقق، على صورته الاولى من مؤلفه، من خلال تدقيق النصوص، والتحقق من الاشتباه في نقلها، ومقابلة نماذج مختلفة منها، وهو مايؤكده المفكر المجدد، في الإهتمام بفنون التحقيق وعلومه، ومقاربتها بموضوعية وأمانة علمية ومصداقية، وهي من بين اشتراطات مشروع النهضة والبناء الحضاري.