الإدارة الأخلاقية للدولة في مشروع الامام الشيرازي

باسم حسين الزيدي

2025-11-23 04:38

تعد عملية الإدارة الأخلاقية للدولة حجر الأساس لاستقرار الدول وبالتالي استقرار المجتمعات وازدهارها، فهي ادارة تتجاوز حدود القوانين واللوائح والانظمة لتصبح منظومة قيم ومبادئ تحدد سلوك الحكام واعوانهم ومسؤولياتهم تجاه الشعب، فالسلطة ليست امتيازاً فردياً أو أداة للسيطرة على رقاب الناس والطغيان فيها، بل أمانة عظيمة يتحمل الحاكم من خلالها مسؤوليات كبيرة أمام الله (عز وجل) اولاً، والمجتمع ثانياً. 

وقد أكدت جميع الاديان السماوية (التي جاءت لهداية البشر وصلاحهم) والكتب المنزلة من الله تعالى، بما فيها القرآن الكريم، على هذا المفهوم بوضوح، حين قال تعالى: (إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (النساء: 58)، مبينا أن المسؤولية والعدل هما حجر الزاوية والركن الاساس لأي إدارة صالحة واخلاقية.

إن الحكم الرشيد والصالح لا يكتفي بالسلطة السياسية فقط في ادارة الدولة، بل يرتبط بشكل وثيق بالقيم الأخلاقية ارتباطاً وثيقاً حتى تصبح جزء من ادواته الاساسية في الحكم. 

فالعدل والرحمة والشورى واللاعنف والحرية والعفو والتسامح...الخ، هي عناصر أساسية تجعل الدولة صالحة لخدمة شعبها، وتجنبها الانحراف نحو الاستبداد أو الظلم، كما أن حماية حقوق المواطنين، ومراقبة المسؤولين، والشفافية في اتخاذ القرارات ومكافحة الفساد والنزاهة والكفاءة، جميعها مبادئ جاءت لتؤكد أن الحكم مسؤولية أخلاقية قبل أن يكون سياسية أو قانونية.

كما لا ننسى انها في المقام الاخير -المسؤولية الاخلاقية- هي نتاج شعور بالمسؤولية المتبادلة بين الحاكم والمحكوم، وهي ايضاً نتاج جهد مستمر وعمل طويل ومثابر حتى يتم التحول التدريجي الى الحكم الرشيد، والا فلا يمكن تطبيقها في مجتمع بعيد عن هذه القيم (لا رأي لمن لا يطاع)، مثلما لا يمكن اقناع الحاكم الفاسد والمستبد بالتحول الى حاكم صالح بمجرد الرغبة في ذلك، وقد قال الله تعالى: (فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ) (الزخرف: 54)، في اشارة واضحة الى سيطرة المصالح الآنية والانانية المطلقة والطمع الذي قاد الى عملية التخادم بين الحاكم والمحكوم، وادى الى انتاج الاستبداد والطغيان الذي وصل الى مرحلة الالوهية (فرعون) والعبودية (الشعب).

بينما نلاحظ ان المبادئ الاخلاقية قد تجسدت بصورة عملية في فترة حكم النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه واله)، والتي من خلالها أدار شؤون الدولة والمجتمع الإسلامي بأسلوب يجمع بين الرحمة والعدل والعفو والتسامح، ويركز فيه على خدمة الناس وتوفير احتياجاتهم، لا السيطرة عليهم والتحكم فيهم، وقد جاء في الحديث الشريف: "سيد القوم خادمهم".

كما جسد كذلك امير المؤمنين الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) هذا المفهوم ايضا في فترة حكمه التي استمر لأربع سنوات وأشهر، وطبقها بصورة عملية، خاصة في رسالته الشهيرة إلى مالك الأشتر (رحمه الله)، التي تعتبر نموذجا حيا لتطبيق الإدارة الأخلاقية في الحكم الصالح.

وقد قدم المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) مشروعاً للحكم الصالح، قائما على ذات القيم الرسالية، مع تطويرها وفق متطلبات العصر الحديث ومتبنياته، بما في ذلك مكافحة الفساد، تعزيز الشورى، اختيار الأكفأ، وضمان حقوق المواطنين.

الإدارة الأخلاقية في القرآن والسنة

كما سبق الحديث فإن القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة وأقوال أهل البيت (عليهم السلام) قدمت خارطة شاملة للحكم الصالح، تغطي جميع جوانب الإدارة، بما في ذلك العدالة، الرحمة، الشورى، الأمانة، الرقابة، وحماية الحقوق...الخ ومن أبرز هذه المبادئ على سبيل المثال لا الحصر:

1. العدل كأساس للحكم: يقول تعالى: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ)، العدل ليس فقط حكما قضائيا، بل معيار لكل قرار إداري، ويشمل توزيع الموارد، الحقوق، والمسؤوليات بطريقة متساوية دون تحيز أو استبداد، وهو يستند في حكمه على روح الرحمة وقوة العدل ومسؤولية خلق الموازنة بينهما.

2. الرحمة في الحكم: يقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ)، فالرحمة شرط أساسي لتقوية العلاقة بين الحاكم والرعية، وحماية المجتمع من الاستبداد أو القسوة، وهي تؤكد أن القوة يجب أن تمارس في خدمة الناس، لا لإيذائهم او تسليط السيف على رقابهم.

3. الشورى والمشاركة: يقول تعالى: (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ)، علماً ان الشورى تضمن مشاركة المجتمع وافراده في صنع القرار وعدم تفرد السلطة به، وبالتالي فهي تمثل ركيزة اساسية لمراقبة السلطة والمشاركة والتأكد من أن القرارات تتماشى مع مصالح المجتمع.

4. الأمانة والمسؤولية: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا)، اذن فان جزء اساسي من اجزاء المسؤولية الأخلاقية للحاكم يتطلب إدارة الموارد العامة بشفافية، والحرص على مصالح المواطنين، وعدم استغلال السلطة لأهداف شخصية.

5. الرقابة على المسؤولين ومحاسبتهم: قال امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام): "ثم تفقد أعمالهم، وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم"، هذا واحد من اهم المبادئ التي توضح أن الحكم الرشيد يحتاج إلى آليات مراقبة لضمان نزاهة المسؤولين وتحقيق العدالة.

6. حماية حقوق المواطنين: الأحاديث النبوية تؤكد ضرورة حماية حقوق الناس وكرامتهم، من خلال تكوين سلطة ومجتمع واعي يتعاون على البر والتقوى واحترام الحقوق والواجبات، ومن ذلك قول النبي محمد (صلى الله عليه واله): "ليس منا من لا يحترم صغيرنا ولا يعرف حق كبيرنا"، مما يدل على أن احترام جميع أفراد المجتمع واجب على الحاكم مثلما هو واجب بين افراد المجتمع الواحد.

الشيرازي والحكم الصالح

قدم السيد الشيرازي (رحمه الله) رؤية متكاملة لإدارة الدولة وفق قيم أخلاقية رصينة، مؤكدا على أن الدولة يجب أن تكون رحيمة، والحاكم خادم للشعب لا متسلطًا عليه، وأن اللاعنف شرط أساسي من شروط الحكم وقيادة الدولة، كما اشار الى ان "الاستبداد وقلة الوعي" هما السبب الرئيسي في تدهور المجتمعات وتخلفها، بل وسبب انهيار الحضارات وتراجع الامم وانحرافها، لذلك فان الشيرازي يرى ان:

1. الدولة الخادمة للشعب فالسلطة وسيلة لخدمة المواطنين، وهي بالتأكيد ليس أداة للهيمنة والتسلط وسلب الحقوق واستعباد الناس.

2. الشورى والمشاركة اذ ان اتخاذ القرار عبر آليات خاصة بالشورى تشمل مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والإعلام والنخب الأكاديمية والافراد.

3. العدالة الاجتماعية والإنصاف حيث تعني توزيع الموارد بعدالة وحماية حقوق الفئات الضعيفة والهشة من خلال توفير احتياجاتهم بالكامل.

4. اختيار الأكفأ والكفاءة في تولي المناصب وفق الكفاءة والخبرة، وليس على اساس الولاء الحزبي أو القبلي او القومي او الطائفي...الخ.

5. محاربة الفساد والرقابة الصارمة من خلال اعتماد آليات رقابية صارمة لضمان النزاهة والشفافية، وعدم المجاملة في سلب الحقوق او المجاملة امام التقصير.

6. الرحمة كأساس للسياسة بتحويل الرحمة إلى سياسات فاعلة في المجتمع تقلل الاحتقان الاجتماعي وتحمي المجتمع من التعسف والظلم.

7. اللاعنف كمنهج سياسي سليم يحمي المجتمع من تقلبات العنف وتبعاته العنيفة، فالسلطة التي تعتمد القمع تفقد شرعيتها وتزيد من هشاشة المجتمع وانحداره نحو الهاوية.

تطبيق الحكم الصالح

يمكن لنا من خلال ادراج نقاط رئيسية توضيح الواقع العراقي وكيفية الاستفادة من أفكار السيد الشيرازي في التدرج في ترسيخ الحكم الصالح والرشيد بعد معرفة التحديات وسبل معالجتها:

1. التحديات الواقعية: المحاصصة السياسية تعرقل بناء مؤسسات قوية، وتضعف الأمانة في الحكم، ويزيد الفساد الإداري من هشاشة الدولة ويقلل الثقة بين المواطنين والسلطة، وبالتالي يصعب من مهمة التعاون بين الحاكم والمحكوم في بناء دولة قوية تنعم بالأمن والرفاه الاقتصادي.

2. الفجوة بين النظرية والممارسة: ضعف العدالة الاجتماعية وزيادة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وانعدام الشفافية تجعل القرارات تتخذ وفق مصالح ضيقة.

3. استلهام أفكار الامام الشيرازي: إعادة بناء الدولة على قيم الرحمة، الشورى، العدالة، الكفاءة، والمساءلة، مستفيدة من آليات الرقابة والمحاسبة، ومفاهيم اختيار الشخصيات النزيهة والكفؤة.

4. آليات التطبيق: وضع ميثاق إداري ملزم مستند إلى القيم الاسلامية العليا المستندة الى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وسيرة اهل البيت الاطهار (عليهم السلام)، واهم الافكار التي طرحها اهم قادة الاصلاح والفكر والتي تعتمد على تحديد المحاور التالية:

- تحديد معايير النزاهة والكفاءة.

- آليات رقابة ومحاسبة صارمة.

- منع تضارب المصالح والمحاصصة.

- توسيع المشاركة الشورية لتشمل مؤسسات الدولة والمنظمات المجتمعية والإعلام والنخب الأكاديمية.

الخلاصة

يمكن في الخاتمة ان نذكر مجموعة من التوصيات او الخلاصة التي قد تسهل الوصول الى حقيقة الحكم الصالح واهميته من خلال التأسيس لعملية ادارة الدولة ادارة اخلاقية وليست ادارة مادية سياسية تعتمد المصالح الذاتية والانانية المطلقة في اعتماد القرارات وتوزيع المسؤولية: 

1. الإدارة الأخلاقية ليست خيارا بل ينبغي ان تكون شرط أساسي لبقاء الدولة واستقرارها وتطويرها.

2. القرآن الكريم وضع أسس الحكم الصالح، خاصة في اساسيات هذا الحكم عندما تناول العدل والرحمة والأمانة والشورى والتعاون على البر...الخ.

3. نهج أهل البيت الاطهار (عليهم السلام) العملي لا يختلف عن نهجهم النظري، وخصوصاً رسالة الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) إلى واليه على مصر مالك الأشتر (رحمه الله)، اذ يمثل نموذجا عمليا للإدارة الأخلاقية لا يختلف عن اقوالهم وحكمهم التي نصحوا من خلالها الحاكم والمحكوم، وفي هذا اشارة قوية على ضرورة ان تترجم الاقوال الى افعال من خلال التطبيق.

4. مشروع الإمام الشيرازي يقدم رؤية معاصرة لإدارة الدولة القائمة على الرحمة والشورى واللاعنف، اضافة الى حفظ الحقوق وتقسيم الواجبات وضمان العدالة الاجتماعية وتوحيد النسيج الاجتماعي ورعاية المصالح العليا للبلد وللمواطنين ايضاً، وفيها الكثير من التفاصيل التي ذكرها في اكثر من كتاب.

5. مكافحة الفساد الإداري والمالي ضرورة لاستعادة ثقة الشعب بالدولة من خلال وضع اليه شفافة ودقيقة للمحاسبة ومنع استغلال موارد الدولة او سرقة المال العام ومحاسبة المقصرين.

6. الدولة الرحيمة القائمة على الحكم الرشيد والادارة الاخلاقية للدولة تعطي المواطنين حقوقهم وتضمن كرامتهم وحرياتهم، والدولة القائمة على العنف والاستبداد والفساد تسلب حقوق المواطنين وتهدر كرامتهم وتصادر حرياتهم.

7. تبني نموذج أخلاقي للحكم الصالح هو الطريق الأمثل لإنهاض العراق وإرساء العدالة والاستقرار.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2025

http://shrsc.com

ذات صلة

ضفاف الرافدين المهملة: جريمة بحق إرث العراقمعيار القبول برئيس الحكومة: بين الشرط الأعلى والشرط الأدنىالموت وسرّ الرحيلالشرق الأوسط يتكيّف مع أمريكا ترامبأسواق النفط.. وفرة المعروض وارتفاع الإنتاج وتباطؤ الطلب تفرض ضغوطاً على الأسعار