تُربةُ كربلاء: كرامة وبركات

رؤى من أفكار الإمام الشيرازي

شبكة النبأ

2025-07-14 02:40

(لقد أكرم الله تربة كربلاء، وجعل فيها الشفاء، والسلامة من العاهات)

الإمام الشيرازي

تُرْبةُ كربلاء من الناحية الجيولوجية لا تختلف عن سواها من أمكنة الأرض والمدن الأخرى، ولكنها امتلكت خاصيّة (القداسة) بعد أن كرّمها الله تعالى لسببٍ عظيم، وحباها الرعاية الإلهية التي تستحقها، ومنحها درجة التوقير العالية، حيث حصلت عليها من الدم الطهور للإمام الحسين عليه السلام الذي استشهد فيها وتوسَّد ثراها، فأضاء بنور مصباحه هذه الأرض، وتقدَّت تُربتها، وسٌجِّلت باسمها الكثير من الكرامات الإلهية الكبيرة.

فمنذ أن استشهد فيها سيد الأحرار، الحسين بن علي عليهما السلام قبل أكثر من 1400 عام، وإلى يومنا هذا، صارت مدينة كربلاء قطعة من الجنة، بعد أن ضمّت مرقد سيد شباب أهل الجنة، وأصبحت هذه المدينة مقدسة التربة، بعد أن تطهرت بالدم الحسيني الثائر، وتحولت إلى مدرسة للعز والإباء، يأخذ فيها المسلمون ومن ثوار العالم أجمع دروسا في التضحية والإيثار وفي الشجاعة والكرم والفضائل.

لم تُصبح كربلاء أرضا مقدسة فحسب، بل اكتسبت العديد من الصفات والمكارم الإلهية، بعد تخضَّبت تربتها بالدم الطاهر الثائر الإمام الحسين، وهكذا صارت موئلا للعلم بأنواعه كافة، وضمت مدارس للحق والفضيلة واكتساب الحس الثوري الخالد من بطلها الإمام الحسين.

الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يُسهب في شرح طبيعة هذه التربة وهذه المدينة، ويوضح لنا (في رسالة عاشوراء رقم 1)، ما اكتسبته من مزايا ومكارم إلهية قلما حصلت عليها تربة أخرى، وكما هو واضح، فإن منزلة الحسين عليه السلام عند الله هي التي منحت هذه التربة كل ما تميزت به من خصوصية واختلاف.  

يقول الإمام الشيرازي في هذا الخصوص:

(لقد أكرم الله تربة كربلاء، وعظّم قدرها، وأكبر شأنها، وجعلها قطعة من ارض الجنة، ومهداً للخير والبركة، وموئلاً لأهل التقى والفضيلة، ومرقداً لسيد شباب أهل الجنة، ومدرسة للإباء والعزّة، والفضائل والمكارم).

كرامة وقدسية تُربة كربلاء

ومع مرور السنين والعقود بل والقرون المتلاحقة، بدأت تربة كربلاء تأخذ مكانتها الكبيرة بين البشر، ليس أهالي كربلاء المقدسة وحدهم، ولا سكان العراق فقط، بل على اتساع الأرض هناك من يأتي ليزور مرقد الإمام الحسين وأخيه العباس عليهما السلام، وأصحابه الأطهار البررة الذين وقفوا معه وناصروه حتى الشهادة، لإعلاء كلمة الحق وإنقاذ الدين من الضياع والانحراف بسبب ما قام به يزيد من حملات تخريب وتشويه للدين والعقائد الإسلامية.

ومن خلال هذه المكانة لتربة كربلاء، بدأت تظهر للعلن كرامات هذه التربة، أمام الملأ من الزوار الكرام الذين تصل أعدادهم إلى الملايين، لاسيما في زيارة الأربعين الحسيني، فحدث أمام مرأى الجميع درجة شفاء تامة وسريعة لحالات عجزت عن تطبيبها جميع الأجهزة الطبية قديمها وجديدها، وقد رأى الزوار الكرام مثل هذه الحالات الكثير الكثير.

ونظرا لهذه المكانة رفض العديد من العلماء الأجلاء ومن المؤمنين أن يمسّوا تربة كربلاء بالتلويث أو التشويه، أو التنجيس، وتعامل هؤلاء الأجلاء وغيرهم مع هذه التربة كما لو أنهم يتعاملون مع كل شيء مطهَّر ومنزَّه ولا يجوز المساس بطهارته ومكانته في أي حال من الأحوال، وهكذا أمست تربة كربلاء ذات خصوصية وقدسية لا يمكن المساس بها.

يقول الإمام الشيرازي:  

(لقد أكرم الله تربة كربلاء، وجعل فيها الشفاء، والسلامة من العاهات والآفات، كل ذلك احتراماً للإمام الحسين (عليه السلام) سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة، وكان علماؤنا الأقدمون يحترمون تربة كربلاء المقدسة غاية الاحترام، ولا يرضون بتلويثها وتنجيسها، واقتدى بهم الناس في كل ذلك).

ومن التقاليد المباركة التي درج عليها أهالي كربلاء المقدسة، وهي تقاليد روحانية إيمانية جميلة، تمنح الإنسان عمقا كبيرا، ونوعا من الاطمئنان والشعور بالسعادة، والأمل بحياة في غاية السكينة والأمان، حيث يقوم أهل المتزوجين حديثا (عروسًا وعريسًا)، في ليلة الزفاف بتقديم إناءين فيهما ماء ممزوج بتربة كربلاء، فيشربان الماء المبارك من هذين الإناءين، لتبدأ طقوس الإيمان والسعادة والشعور بالفرح تطغي على الجميع لاسيما العريسين.

وقد ترسّخ شعور مبارك عند جميع الأهالي، بأن الزوجين عندما يشربان هذا الماء الممتزج بتربة كربلاء، سوف يعيشان في سعادة واستقرار وأمان، وأن الله تعالى يرزقهما الخير والسلامة والرزق الوفير، كل هذا ببركة هذه التربة التي تشرفت وتعطّرت بالدم الطهور للإمام الحسين عليه السلام، حيث يصبح الزوجان على يقين تام وأهلهما أيضا بأن نسلهما سيأتي مباركا سليما صحيحا ناجحا لأنهما تناولا هذا الماء المعفر بالدم الطهور.

تقاليد النور والسعادة والإيمان

هذه التقاليد أصبحت مع مرور الأيام فعلا ملازما لجميع حالات الزيجات التي تتم في كربلاء المقدسة، وأحيانا يقوم العرسان من المدن وحتى البلدان الأخرى، بمحاولة الحصول على هذا الماء كي يشربا منه، أملا ويقينا بأنهما سوف يؤسسان أسرة مباركة ومؤيَّدة بحماية الحسين ومقامه العظيم عند الله سبحانه.

يقول الإمام الشيرازي:  

(كان من المتعارف عندنا أيام كنا في كربلاء المقدسة، سقي الزوجين وخاصة الزوجة في ليلة الزفاف ماءً مخلوطاً بتربة الإمام الحسين (عليه السلام) وممزوجاً بها، ليكون منشأ بركة في حياتهما الزوجية الجديدة، وسبب توافق وتآلف، وتعاطف وتلاؤم، وعامل هناء وسعادة، ورغد وكرامة، وضامن صحة وسلامة، وحياة زوجية كريمة، ونسل طيب ومبارك).

ومن التقاليد التي تدل على التمسك بالوفاء للحسين عليه السلام بعد أن قدم أعز وأغلى ما لديه للإسلام والمسلمين، تلك الفعالية التي ترافق العريسان في ليلة زفافهما، وقد يبدو في الظاهر نوعا من التناقض بين الحالتين وكالتالي، فالزواج مناسبة سعيدة، وإذا تم في هذه المناسبة تقديم الرثاء الحسيني والبكاء بسبب ما جرى للحسين وذويه في يوم الزفاف، قد يبدو الأمر متناقضا، ولكن في الحقيقة سيكون تأثير هذا الفعل مضاعفا وكبيرا.

لأن أحباب الحسين عليه السلام لن ينسوه حتى في قمة أفراحهم، وهناك فائدة مهمة لمثل هذه الفعالية المتميزة، وهي الحصول على بركة الإمام الحسين وشفاعته عند الله تعالى، بأن كون هذا الزواج مباركا وناجحا ومستقرا، وتكون الذرية صالحة، تتخلق بأخلاق ومبادئ أئمة أهل البيت عليهم السلام، والفوز برزق كبير ووفير.

كذلك يطمح الزوجان ان يجري حب الحسين عليه السلام في دم أطفالهما، حتى يكونوا من الأطفال السائرين في منهج أئمة أهل البيت، والمحاطين بعنايتهم، وشفاعتهم، والمستمرين في منهجهم المفعم بقيم المحبة والتسامح والتكافل والسلام.

وقد ركز الإمام الشيرازي على هذه النقطة عندما قال:  

(كان المتعارف أيضاً في ليلة الزفاف، ذكر المراثي وقراءة مصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) للزوجين الجديدين، وذلك قبل دخولهما غرفة الزفاف، بغية التذكير بشهادة الإمام الحسين (عليه السلام) وشهادة أهل بيته (عليهم السلام)، والتخلّق بأخلاقهم، والتطبيق لأهدافهم السامية).

بهذه التقاليد والشعائر الهادئة المؤثرة يتمسك أهالي كربلاء، وجميع محبي الإمام الحسين وأخيه العباس وأئمة أهل البيت عليهم السلام جميعا، ولهذا أحبها الناس الحسينيون وتمسكوا بها، وآمنوا بطهارة تربة كربلاء، واتخذوا منها نورا وموطئا لسجودهم في الصلاة لله، لدرجة أنني سمعت أحدهم وهو يقول: كلما سجدتُ لله ووضعت جبيني على تُربة كربلاء أشمُّ فيها الدم الزاكي لأبي الأحرار وسيد الشهداء عليه السلام.  

ذات صلة

استطلاع: ما مدى أهمية غرس القيم السوية المستوحاة من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، في المناهج التربوية والتعليمية للأجيال القادمة؟الإمام الحسين (ع) في الزيارات المأثورةالألفية الثالثة.. عصر الجاسوسية الرقمية والهجمات السيبرانيةالمال السياسي وأثره في تقويض الديمقراطية الانتخابية في العراقالخوف يقوّض الديمقراطية