الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2024-11-17 06:33
قانون الاكتفاء والبساطة
من أهم أسباب التقدم في الأمم وكذلك الأفراد: الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، وهذا يوجب سعادة الدارين، ولاتختص السعادة المترتبة عليه بالأمور الدنيوية فحسب.
قال الباري تبارك وتعالى: (وَمَنۡ أَرَادَ ٱلۡأٓخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعۡيَهَا وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ كَانَ سَعۡيُهُم مَّشۡكُورٗا * كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا)(1).
وهذه الآية المباركة تدل على أنه لا فرق في عطاء قانون الاكتفاء وقانون البساطة، بين المسلم والكافر، والمؤمن والمنافق، فمن أخذ بهذين القانونين تقدم في الحياة، ومن تركهما تأخر.
العمل طريق الاكتفاء
إن الاكتفاء الذاتي بحاجة إلى العمل المستمر، والقضاء على البطالة، وترك الكسل والضجر واليأس.
قال الإمام الرضا (عليه السلام): «أن رجلاً أتى النبي (صلى الله عليه وآله) ليسأله، فسمعه وهو (صلى الله عليه وآله) يقول: من سألنا أعطيناه، ومن استغنى أغناه اللّه. فانصرف ولم يسأله، ثم عاد إليه فسمع مثل مقالته فلم يسأله، حتى فعل ذلك ثلاثاً. فلما كان في اليوم الثالث مضى واستعار فأساً وصعد الجبل، فاحتطب وحمله إلى السوق فباعه بنصف صاع من شعير فأكله هو وعياله، ثم أدام على ذلك حتى جمع ما اشترى به فأساً، ثم اشترى بكرين وغلاماً وأيسر. فصار إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فأخبره، فقال (صلى الله عليه وآله): أليس قد قلنا: من سأل أعطيناه ومن استغنى أغناه اللّه»(2).
وجاء في فقه الرضا (عليه السلام): «وأروي عن العالم (عليه السلام) (3) أنه قال: وقوا دينكم بالاستغناء باللّه عن طلب الحوائج، واعلموا أنه من خضع لصاحب سلطان جائر أو لمخالف، طلباً لما في يديه من دنياه، أهمله اللّه ومقت عليه ووكله إليه، فإن هو غلب على شيء من دنياه نزع اللّه منه البركة، ولم ينفعه بشيء في حجته، ولغيره من أفعال البر»(4).
البساطة في العيش
البساطة في العيش توجب أن يركز الإنسان في حياته على الضروريات بعيداً عن الكماليات، وهي من أهم أسباب التقدم. أما إذا اشتغل الإنسان بالكماليات والمسائل الرفاهية وما أشبه، فإنه سيبتعد شيئاً فشيئاً عن الضروريات والأمور المهمة، وكثيراً ما يقع في الحرام ويرتكب الموبقات.
روي عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) أنه قال: «إن وَلِيَّ علي (عليه السلام) لايأكل إلّا الحلال؛ لأن صاحبه (عليه السلام) كان كذلك، وإن وليَّ عثمان لا يبالي أحلالاً أكل أو حراماً؛ لأن صاحبه كذلك». قال: ثم عاد إلى ذكر علي (عليه السلام) فقال: «أما والذي ذهب بنفسه، ما أكل (عليه السلام) من الدنيا حراماً قليلاً ولا كثيراً حتى فارقها، ولا عرض له أمران كلاهما لله طاعة إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه، ولا نزلت برسول اللّه (صلى الله عليه وآله) شديدة قط إلّا وجّهه (عليه السلام) فيها ثقةً به، ولا أطاق أحد من هذه الأمة عمل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) بعده غيره (عليه السلام)، ولقد كان (عليه السلام) يعمل عمل رجل كأنه ينظر إلى الجنة والنار، ولقد أعتق ألف مملوك من صلب ماله، كل ذلك تحفّى(5) فيه يداه وتعرق جبينه التماس وجه اللّه عزّ وجلّ والخلاص من النار، وما كان قوته (عليه السلام) إلّا الخل والزيت، وحلواه التمر إذا وجده، وملبوسه الكرابيس(6)، فإذا فضل عن ثيابه شيء دعا بالجَلَم(7) فجزه»(8).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «كان علي (عليه السلام) أشبه الناس طعمة وسيرة برسول اللّه (صلى الله عليه وآله)، وكان يأكل الخبز والزيت ويطعم الناس الخبز واللحم ـ قال: ـ وكان علي (عليه السلام) يستقي ويحتطب، وكانت فاطمة (عليها السلام) تطحن وتعجن وتخبز وترقع، وكانت من أحسن الناس وجهاً كأن وجنتيها وردتان، صلى اللّه عليها وعلى أبيها وبعلها ووُلدها الطاهرين»(9).
وهذه الروايات كلها تدل على البساطة في العيش وهي من مقومات الاكتفاء الذاتي.
من سمات النجاح
إذن هناك سمات للإنسان الناجح، والمجتمع المتقدم في الحياة، وهي أمور عدة، من أهمها أمران:
الأول: الاكتفاء الذاتي، وذلك بأن يسد احتياجاته الصغيرة والكبيرة ـ مهما أمكن ـ بنفسه، ولا يتوقع أو ينتظر من الغير إسداء العون إليه.
الثاني: أن تكون حياته قائمة على البساطة والزهد، بلا تكلف ولا اهتمام بالكماليات والمسائل الرفاهية المختلفة والشكليات المعقدة، التي تهدر أوقاته وأمواله وعمره بالأمور التافهة مما يؤثر سلباً على الأصول المهمة في العيش، وذلك إقتداءً وأسوة بالأنبياء والأئمة والصالحين (عليهم السلام) حيث اتخذوا الزهد في الدنيا وما فيها.
مقومات الاكتفاء
ويرد هنا سؤال هو: كيف يمكن أن نقوي فينا واقع الاكتفاء الذاتي؟
وماذا يجب أن نعمل كي نكتفي ذاتياً؟
وفي الجواب نقول:
هناك مقدمتان أساسيتان تشكلان مبدأ الاكتفاء الذاتي في كل إنسان وكل مجتمع وكل أمة:
الأولى: ثقافة الاكتفاء، أي الفكر والتوعية التي تبين لنا أهمية الاكتفاء وضرورته في سبيل تقدم الفرد والأمة.
والثانية: التخطيط العملي للاكتفاء ومن ثم تطبيق تلك البرامج والأفكار في الحياة اليومية والواقع المعاش، وهذه المقدمة الثانية أصعب من الأولى.
خير أسوة
إن أفضل أسوة وأحسن مصداق عملي للبساطة والزهد في العيش نجده في حياة الإمام أمير المؤمنين علي وفاطمة الزهراء (عليهما السلام)؛ حيث جعلا فراشهما جلد شاة بدلاً من الفراش والرياش، واستعملا الأواني الخزفية التي كان يستخدمها أبسط الناس حينذاك، بدلاً من القوارير الفضية، وكانا يستعملان التراب في الغسل والتنظيف، حتى في غسل الأطفال وتنظيفهم.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن علياً (عليه السلام) تزوج فاطمة (عليها السلام) على جرد بردٍ(10)، ودرع، وفراش كان من إهاب(11) كبش»(12).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «لما تزوج علي فاطمة (عليهما السلام) بسط البيت كثيباً(13)، وكان فراشهما إهاب كبش، ومرفقهما محشوة ليفاً، ونصبوا عوداً يوضع عليه السقاء فستره بكساء»(14).
وعن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: «أدخل رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فاطمة على علي (عليه السلام) وسترها عباءٌ، وفرشها إهاب كبش، ووسادتها أدم محشوة بمسد»(15)(16).
وعنه (عليه السلام) قال: «إن فراش علي وفاطمة (عليهما السلام) كان سلخ كبش يقلبه فينام على صوفه»(17).
وعن جهاز أمير المؤمنين والصديقة الزهراء (عليهما السلام) يقول الإمام الصادق (عليه السلام): «وسكب الدراهم في حجره، فأعطى منها قبضة كانت ثلاثة وستين أو ستة وستين إلى أم أيمن لمتاع البيت، وقبضة إلى أسماء بنت عميس للطيب، وقبضة إلى أم سلمة للطعام، وأنفذ عماراً وأبا بكر وبلالاً لابتياع ما يصلحها، وكان مما اشتروه قميص بسبعة دراهم، وخمار بأربعة دراهم، وقطيفة سوداء خيبرية، وسرير مزمل بشريط(18)، وفراشان من خيش(19) مصر حشو أحدهما ليف، وحشو الآخر من جز الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حشوها إذخر(20)، وستراً من صوف، وحصير هجري، ورحاء اليد، وسقاء من أدم، ومِخْضَبٌ(21) من نحاس، وقعب للَّبن، وشن للماء، ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء، وكيزان(22) خزف ـ وفي رواية ـ ونطع من أدم، وعباء قطواني، وقربة ماء»(23).
من كتاب زهد أمير المؤمنين (عليه السلام) عن عقيل بن عبد الرحمن الخولاني قال: كانت عمتي تحت عقيل بن أبي طالب (عليه السلام) فدخلت على علي (عليه السلام) بالكوفة وهو جالس على بَرذَعة(24) حمار مبتلة! قالت: فدخلت على علي (عليه السلام) امرأة له من بني تميم فقلت لها: ويحك إن بيتك ممتلئ متاعاً وأمير المؤمنين (عليه السلام) جالس على برذعة حمار مبتلة؟ فقالت: لا تلوميني فو اللّه ما يرى شيئاً ينكره إلّا أخذه فطرحه في بيت المال(25).
وقد كان كثير من الأصحاب المؤمنين يتبعون نفس هذا الأسلوب في الحياة الزوجية والاجتماعية، إقتداءً بهما (عليهما السلام)، وعملاً بما جاء به رسول اللّه (صلى الله عليه وآله).
ولذا نرى الأمة الأسلامية في عهد رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وعهد أمير المؤمنين (عليه السلام) كانت من الأمم المتطورة والتي لا تحتاج إلى أي أمة أخرى في زراعتها وصناعتها وسلاحها وسائر ما يرتبط بحياتها.
وفي البيت العائلي
روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لرجل من بني سعد:
«ألا أحدثك عني وعن فاطمة الزهراء (عليها السلام)، أنها كانت عندي فاستقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وطحنت بالرحى حتى مجلت(26) يدها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت النار تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فأصابها من ذلك ضر شديد.
فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل؟
فأتت النبي (صلى الله عليه وآله) فوجدت عنده حُدّاثاً(27)، فاستحيت فانصرفت.
فعلم النبي (صلى الله عليه وآله) أنها قد جاءت لحاجة، فغدا علينا ونحن في لحافنا، فقال: السلام عليكم، فسكتنا واستحيينا لمكاننا.
ثم قال: السلام عليكم، فسكتنا.
ثم قال: السلام عليكم، فخشينا إن لم نرد عليه أن ينصرف، وقد كان يفعل ذلك فيسلّم ثلاثاً فإن أذن له وإلّا انصرف، فقلنا: وعليك السلام يا رسول اللّه، أدخل.
فدخل وجلس عند رؤوسنا، ثم فقال: يا فاطمة، ما كانت حاجتكِ أمس عند محمد.
قال: فخشيت إن لم نجبه أن يقوم، فأخرجتُ رأسي فقلت: أنا والله أخبرك يا رسول اللّه، إنها استقت بالقربة حتى أثر في صدرها، وجرت بالرحى حتى مجلت يداها، وكسحت البيت حتى اغبرت ثيابها، وأوقدت تحت القدر حتى دكنت ثيابها، فقلت لها: لو أتيتِ أباكِ فسألته خادماً يكفيك حرّ ما أنت فيه من هذا العمل.
قال: أفلا أعلمكما ما هو خير لكما من الخادم، إذا أخذتما منامكما فكبّرا أربعاً وثلاثين تكبيرة، وسبّحا ثلاثاً وثلاثين تسبيحة، واحمدا ثلاثاً وثلاثين تحميدة.
فأخرجت فاطمة (عليها السلام) رأسها، فقالت: رضيتُ عن اللّه وعن رسوله، رضيتُ عن اللّه وعن رسوله»(28).
وفي الخبر أنه رأى النبي (صلى الله عليه وآله) فاطمة (عليها السلام) وعليها كساء من أجلة الإبل، وهي تطحن بيديها وترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) فقال: «يا بنتاه، تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة». فقالت: «يا رسول اللّه، الحمد لله على نعمائه، والشكر لله على آلائه. فأنزل اللّه سبحانه: (وَلَسَوۡفَ يُعۡطِيكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰٓ)»(29)(30).
سيرة الأنبياء والأئمة (عليهم السلام)
وهكذا كان أنبياء اللّه (عليهم السلام) كما أخبر الصادق الأمين، حيث ورد عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله):«وإن شئت نبأتك بأمر داود خليفة اللّه في الأرض كان لباسه الشعر وطعامه الشعير» ـ إلى أن قال: ـ «وإن شئت نبأتك بأمر إبراهيم خليل الرحمن، كان لباسه الصوف وطعامه الشعير،... وإن شئت نبأتك بأمر عيسى ابن مريم فهو العجب كان يقول: إدامي الجوع، وشعاري الخوف، ولباسي الصوف»(31).
وفي الحديث: دخل الإمام الصادق (عليه السلام) الحمام، فقال له صاحب الحمام: نخليه لك؟
فقال: «لا، إن المؤمن خفيف المئونة»(32).
وهذه الخفة والبساطة كانت السمة الغالبة لحياة المسلمين في الصدر الأول للإسلام، وهي التي جعلتهم يتقدمون ذلك التقدم الباهر والسريع على سائر الأمم التي كانت معاصرة لبدء الإسلام، فاستطاعوا بذلك أن يفتحوا قسماً كبيراً من إمبراطورية الروم شمالاً، وبلاد فارس شرقاً، فضلاً عن بلاد النجاشي، والهند، وجزءً من الصين؛ لأن التقدم لا يحصل إلّا بالهمة والنشاط والعمل، وهذه كلها لا تنسجم مع الحياة الناعمة والعيش المرفه الوثير، ولا تنسجم أيضا مع الكسل والضجر واليأس وما أشبه.
العمل الدءوب
أتذكر ذات مرة، ذهبنا مع جماعة من الأصدقاء لزيارة مرقد أولاد مسلم (عليهما السلام) (33) في المسيب، وبعد أن وصلنا إلى هناك وأتممنا زيارتنا ذهبنا إلى جسر المسيب وكان الجو حاراً جداً. فرأينا العمال منهمكين في تصليح وترميم الجسر على الرغم من حرارة الجو اللاهبة، وعند الظهر حانت ساعة الاستراحة فتوقف جميع العمال عن العمل والتجئوا إلى الظل ليتناولوا غذاءهم ويحصلوا على قسط من الراحة. ولكن الأمر الذي لفت انتباهنا هو حالة المهندس الذي كان مسئولاً عن ترميم الجسر فإنه الوحيد الذي لم يرفع يده عن العمل، بل استمر تحت وهج الشمس المحرقة، يباشر فحص مواد التعمير ودراستها والتأكد من إتمام العمل فيها وعدم نقصه، ومع أن العرق كان يتصبب منه بغزارة لكنه لم يلتفت لذلك أبداً، ولم يسترح طوال الوقت حتى أنهى مهمته.
نعم، الذين يتقدمون في الحياة هم الذين لا يعرفون التعب، ويعملون ليل نهار بدون توقف، بالرغم من كل المشاكل والصعاب التي تعترض سبيلهم. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «من بذل جهد طاقته بلغ كنه إرادته»(34).
وقال (عليه السلام): «ما أدرك المجد من فاته الجد»(35).
وقال (عليه السلام): «ما أقرب النجاح ممن عجل السراح»(36).
العمل في فترة الاستجمام
نقل أحد الأدباء(37) قصة ذكر فيها ما لمسه من اهتمام الغربيين بالوقت حتى في أوقات استجمامهم، فقال:
سافرت مرة إلى تونس للاستجمام والترفيه عن النفس، وفي نفس الفندق الذي حجزت فيه غرفة، كان يقيم أيضاً شخص غربي، وبعد أن تعرفت عليه وحادثته، قال لي: بأنه جاء إلى تونس بحثاً عن معالم التراث والآثار القديمة، وكان هذا الشخص جاداً في عمله، فيومياً كان يخرج ويحمل معه مقداراً من الماء والخبز ومسحاة وفأساً، ويصطحب معه عاملاً، ويذهب إلى الصحارى المحيطة بتلك المنطقة، ويقوم بالحفر هنا وهناك، ويستخرج بعض الأحجار والآثار القديمة، ويأتي بها إلى الفندق ويجمعها.
وفي أحد الأيام، عندما كان خادم الفندق ينظف الغرف، ألقى بهذه الأحجار في سلة المهملات لجهله بها، فأخذتها سيارة القمامة والنفايات التابعة للبلدية، وألقتها خارج المدينة مع سائر النفايات التي جمعتها. وعندما أتى هذا الرجل السائح واطلع على حقيقة الأمر تأثر تأثراً كبيراً، وقال بحزن وأسف شديدين: قد ضاعت جهود شهرين كاملين، فإن هذه الأحجار كانت من أهم ما عثرت عليه من الآثار المهمة في هذه المنطقة وبسبب جهل الخادم ضاعت مني.
نعم، هؤلاء حتى في السياحة والاصطياف لا يضيعون الوقت بل يستغلونه بالبحث والتنقيب والتدقيق.
وكم رأينا من السياح والأجانب يأتون إلى كربلاء المقدسة من الأماكن البعيدة، فيقطعون المسافات الطويلة بواسطة الدراجات النارية مع بساطة الإمكانات، نراهم يقضون الأيام والليالي في الصحارى والمناطق القاحلة، بلا ماء أو غذاء، ويصل الأمر بهم في بعض الأحيان إلى أكل الحشائش والأعشاب الصحراوية، ويستريحون في المزارع والحدائق العامة، أو على قارعة الطريق، ثم يستأنفون رحلتهم وجولتهم من أجل رؤية بلاد العالم عن كثب، ودراسة أوضاعها من قرب، ومعرفة أساليب معيشة الشعوب وعاداتهم وتقاليدهم، وربما لأهداف أخرى كالتجسس وما أشبه، حيث إن بعض هؤلاء كان هدفهم التجسس وتمهيد السبيل للاستعمار، ولكن البعض الآخر منهم كان من السياح الحقيقيين الذين تهمهم قضايا المعرفة والاستطلاع.
ومهما كانت الأهداف فالكلام في الجد والعمل وعدم الضجر والكسل والملل.
المسلمون بين الأمس واليوم
قال تبارك وتعالى: (كُلّٗا نُّمِدُّ هَٰٓؤُلَآءِ وَهَٰٓؤُلَآءِ مِنۡ عَطَآءِ رَبِّكَۚ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحۡظُورًا)(38).
إن حياة الدنيا ونعيمها ينالها ـ عادة ـ الذين يعملون ويجتهدون بلا ملل أو كلل، فيتعبون أنفسهم بكل عزيمة، جاعلين البساطة وعدم التعقيد شعارهم، كما أنهم يهتمون بالأمور الحقيقية المهمة ويتركون الجزئيات غير المهمة.
بينما في الوقت الحاضر، نجد أن كثيراً من المسلمين يقضون أوقاتهم في طلب الراحة والدعة، والجاه والمنصب الفارغ من محتواه الحقيقي، فلا يفكرون في استقلالهم وحريتهم، بل وحتى لايهتمون بحياتهم الخاصة وتقدمهم الاجتماعي والعلمي.
ولو ألقينا نظرة فاحصة على تاريخ صدر الإسلام وذلك التقدم الكبير الذي حصل للمسلمين، لرأينا أن من أسبابه بساطة الحياة وعدم التعقيد.
ومن الشواهد التي يمكن أن نستشهد بها على ذلك، ما ذكر من أحداث ووقائع إبان فتح المسلمين لإيران التي كانت تسمى بالإمبراطورية الساسانية، فكتب اللّه للمسلمين النصر لما اتصفوا به من همة عالية وإخلاص في النية وزهد في الدنيا، وتصميمهم القوي على إنقاذ الناس من نير حكام الجور والأنظمة الفاسدة. حيث ذكر أنه في ذلك اليوم عندما تحرك المسلمون من أجل تخليص بلاد فارس من القهر والظلم الكسروي، وبعد مناوشات عديدة مع جيش الفرس عسكروا في مقابل عسكرهم، فأرسل (رستم) قائد جيش الفرس رسولاً يسألهم: لماذا أتيتم إلى قتالنا؟
فأرسل المسلمون رجلاً منهم إلى رستم، يرتدي ملابس خلقة، ويحمل معه سيفاً بلا غمد، قد علقه بكتفه بحبل من خوص النخيل، فعندما شاهد رستم هيئة ولباس ذلك الرجل المسلم، قال له: أنتم الأعراب لم تكونوا تحاربون من أجل هدف، وإنما من أجل تحصيل حمل بعير من التمر أو الحنطة، وأنا الآن أعطيكم هذه الأشياء، فارفعوا أيديكم عن الحرب وعودوا إلى أوطانكم!
فقال له المسلم: كلامك صحيح سابقاً؛ إذ كنا أذلاء وضعفاء، وكنا نحارب لغرض السلب والنهب، ونبذل في ذلك دماءنا وأعراضنا، أما الآن فقد أعزنا اللّه وشرفنا بالإسلام، وجعلنا نفكر في إنقاذ المستضعفين من نير المستكبرين والطغاة، ولأجل ذلك جئنا إلى هذه الديار، فنحن نحارب لا لأجل الدنيا بل لأجل إنقاذ الناس ونشر الإسلام.
فأخرج رستم سيفاً مرصعاً بالجواهر والأحجار النفيسة وقال له: هذا هدية لك بشرط أن تعود!
فقال المسلم: كلا، فإن هذا السيف لا ينفعنا، نحن نريد هداية الناس، ثم أخرج سيفه وضرب به سيف رستم فتطايرت بعض المجوهرات منه، فتحير رستم من هذه الجرأة والشجاعة وتعجب كثيراً لموقفه الحازم(39).
نعم، هكذا كان يطمح المسلمون في نصرة الإسلام، وإعلاء كلمة اللّه، وهداية الناس إلى الحق بهمم عالية، وبأرواح متفانية في سبيل اللّه عزّ وجلّ، ولذلك وصلوا إلى أهدافهم وأوصلوا الإسلام إلى مختلف آفاق المعمورة.
وفي بعض التواريخ:
أنه ركب رستم غداة تلك الليلة وصعد مع النهر وصوب حتى وقف على القنطرة، وأرسل إلى زهرة فواقفه وعرض له بالصلح، وقال: كنتم جيراننا وكنا نحسن إليكم ونحفظكم، ويقرر صنيعهم مع العرب، ويقول زهرة: ليس أمرنا بذلك وإنما طلبنا الآخرة، وقد كنا كما ذكرت إلى أن بعث اللّه فينا رسولاً دعانا إلى دين الحق فأجبناه وقال: قد سلطتكم على من لم يدن به وأنا منتقم بكم منهم وأجعل لكم الغلبة.
فقال رستم: وما هو دين الحق؟
فقال: الشهادتان، وإخراج الناس من عبادة الخلق إلى عبادة اللّه، وأنتم أخوان في ذلك.
فقال رستم: فإن أجبنا إلى هذا ترجعون؟
فقال: إي والله.
فانصرف عنه رستم ودعا رجال فارس وذكر ذلك لهم، فأنفوا وأرسل إلى سعد قائد الجيش: أن ابعث لنا رجلاً نكلمه ويكلمنا.
فبعث إليهم ربعي بن عامر، وحبسوه على القنطرة حتى أعلموا رستم، فجلس على سرير من ذهب، وبسط النمارق والوسائد منسوجة بالذهب. وأقبل ربعي على فرسه وسيفه في خرقة ورمحه مشدودة بعصب، وقدم حتى انتهى إلى البساط ووطئه بفرسه، ثم نزل وربطها بوسادتين شقهما وجعل الحبل فيهما، فلم يقبلوا ذلك وأظهروا التهاون، ثم أخذ عباءة بعيره فاشتملها، وأشاروا إليه بوضع سلاحه، فقال: لو أتيتكم فعلت كذا بأمركم وإنما دعوتموني.
ثم أقبل يتوكأ على رمحه ويقارب خطوه حتى أفسد ما مر عليه من البسط، ثم دنا من رستم وجلس على الأرض، وركز رمحه على البساط، وقال: إنا لا نقعد على زينتكم.
فقال له الترجمان: ما جاء بكم؟
فقال: اللّه بعثنا لنخرج عباده من ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأرسلنا بدينه إلى خلقه فمن قبله قبلنا منه وتركناه وأرضه، ومن أبى قاتلناه حتى نفيء إلى الجنة أو الظفر.
فقال رستم: هل لكم أن تؤخروا هذا الأمر حتى ننظر فيه؟
قال: نعم، كم أحب إليك يوماً أو يومين؟
قال: لا، بل حتى نكاتب أهل رأينا ورؤساء قومنا؟
فقال: إن مما سن لنا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) أن لا نمكن الأعداء أكثر من ثلاث، فانظر في أمرك وأمرهم واختر: إما الإسلام وندعك وأرضك، أو الجزية فنقبل ونكف عنك وان احتجت إلينا نصرناك، أو المنابذة في الرابع إن تنبذ، وأنا كفيل بهذا عن أصحابي.
قال: أسيدهم أنت؟
قال: لا، ولكن المسلمين كالجسد الواحد يجيز بعضهم عن بعض، يجيز أدناهم على أعلاهم.
فخلا رستم برؤساء قومه، وقال: رأيتم كلاماً قط مثل كلام هذا الرجل؟
فأروه الاستخفاف بشأنه وثيابه، فقال: ويحكم، إنما أنظر إلى الرأي والكلام والسيرة، والعرب تستخف اللباس وتصون الاحساب.
ثم أرسل إلى سعد: أن ابعث إلينا ذلك الرجل. فبعث إليهم حذيفة بن محصن، ففعل كما فعل الأول ولم ينزل عن فرسه، وتكلم وأجاب مثل الأول.
فقال له: ما قعد بالأول عنا؟
فقال: أميرنا يعدل بيننا في الشدة والرخاء وهذه نوبتي.
فقال رستم: والمواعدة إلى متى؟
فقال: إلى ثلاث من أمس.
وانصرف وحاص رستم بأصحابه يعجبهم من شأن القوم، وبعث في الغد عن آخر فجاءه المغيرة، فلما وصل إليهم وهم على زيهم وبسطهم على غلوة من مجلس رستم، فجاء المغيرة حتى جلس معه على سريره فأنزلوه.
فقال: لا أرى قوماً أسفه منا معشر العرب لا نستعبد بعضنا بعضاً فظننتكم كذلك، وكان أحسن بكم أن تخبروني أن بعضكم أرباب بعض، مع أني لم آتكم وإنما دعوتموني، فقد علمت أنكم مغلوبون ولم يقم ملك على هذه السيرة.
فقالت السفلة: صدق والله العربي.
وقالت الأساطين: لقد رمانا بكلام لا تزال عبيدنا ينزعون إليه، قاتل اللّه من يصغر أمر هذه الأمة.
ثم تكلم رستم فعظم من أمر فارس، بل من شأن فارس وسلطانهم، وصغر أمر العرب، وقال: كانت عيشتكم سيئة وكنتم تقصدونا في الجدب فنردكم بشيء من التمر والشعير، ولم يحملكم على ما صنعتم إلّا ما بكم من الجهد، ونحن نعطي أميركم كسوة وبغلاً وألف درهم، وكل رجل منكم حمل تمر وتنصرفون، فلست اشتهي قتلكم.
فتكلم المغيرة وخطب فقال: أما الذي وصفتنا به من سوء الحال والضيق والاختلاف فنعرفه ولا ننكره، والدنيا دول والشدة بعدها الرخاء، ولو شكرتم ما آتاكم اللّه لكان شكركم قليلاً عمّا أوتيتم، وقد أسلمكم ضعف الشكر إلى تغير الحال، وإن اللّه بعث فينا رسولاً.
ثم ذكر مثل ما تقدم إلى التخيير بين الإسلام أو الجزية أو القتال وقال: يدخل من قُتل منا الجنة، ويظفر من بقى منا بكم.
فاستشاط رستم غضباً وحلف أن لا يقع الصلح أبداً حتى أقتلكم أجمعين، وانصرف المغيرة.
وخلا رستم بأهل فارس وعرض عليهم مصالحة القوم، وحذرهم عاقبة حربهم فلجوا، وبعث إليه سعد يعرض عليه الإسلام ويرغب، فأجابه بمثل ما كان يقول لأولئك من الامتنان على العرب والتعريض بالمطامع، فلم يتفق شيء من رأيهم(40).
ابن سينا
يمر حوالي ألف سنة على وفاة ابن سينا وهو من كبار علماء المسلمين وكان فريداً في زمانه، وقد كتب كتباً قيمة وكثيرة في الطب وباقي العلوم، فإن كتبه الغنية ـ حتى في هذا الزمان ـ موضع إقبال أهل العلم والمعرفة في شتى الفنون، مع أنه لم يكن من ورائه مال أو دولة تدعمه، وما ذلك إلّا لأنه كان راسخ العزم في العمل المتواصل، وكان صاحب همة عالية من أجل التحقيق والتدقيق، وبذلك استطاع أن يحتل موقعاً رائعاً في التأريخ الإسلامي والإنساني.
يذكر ابن سينا في قصة حياته: إنه كان يقرأ ويراجع بعض المطالب أربعين مرة حتى يفهمها ويدرك مغزاها، وهذا الاستمرار عمل صعب جداً ولا يستطيع كل أحد أن يفعله، ولذلك نراه قد تقدم وترقى وقدّم للناس، بينما كثير من العلماء والمحققين في العصر الحاضر لايتوصلون إلى ما توصل إليه ابن سينا.
ينقل القفطي في كتاب تاريخ الحكماء عن ابن سينا قوله:
ثم عدت إلى العلم الإلهي وقرأت كتاب: ما بعد الطبيعة، فما كنت أفهم ما فيه، والتبس عليَّ غرض واضعه، حتى أعدت قراءته أربعين مرة، وصار لي محفوظاً وأنا مع ذلك لا أفهمه ولا المقصود به، وأيست من نفسي، وقلت: هذا كتاب لا سبيل إلى فهمه. فإذا أنا في يوم من الأيام حضرت وقت العصر في الوراقين وبيد دلال مجلد ينادي عليه، فعرضه عليَّ فرددته رد متبرم معتقد أن لا فائدة في هذا العلم. فقال لي: اشتر مني هذا، فإنه رخيص أبيعكه بثلاثة دراهم، وصاحبه محتاج إلى ثمنه. فاشتريته فإذا هو كتاب لأبي نصر الفارابي في أغراض ما بعد الطبيعة. فرجعت إلى بيتي وأسرعت قراءته، فانفتح عليَّ في الوقت أغراض ذلك الكتاب بسبب أنه قد صار لي على ظهر القلب، وفرحت بذلك وتصدقت ثاني يومه بشيء كثير على الفقراء شكراً لله تعالى(41).
وينقل عن ابن سينا أنه قال: إن مما كلفني أُستادي في الأدب حفظ ديوان ابن الرومي، فحفظته في ستة أيام ونصف يوم(42).
وقيل: إن أحداً من فحول علماء أصفهان المسمى بأبي منصور كان حاضراً في مجلس السلطان علاء الدولة، فبلغ الكلام إلى علم اللغة، فتصرف الشيخ ـ أي ابن سينا ـ فيه، فقال له أبو منصور: أنت حكيم وليس لك خبر وإطلاع باللغة، وهي محتاجة إلى السماع ولم تتبع في متن اللغة.
فاستنكف الشيخ من هذا الكلام، فواظب اللغة والمطالعة فيها ودرسها فضبطها في قليل من الزمان، فأنشد قصائد ثلاثة ورسائل كذلك، وأدرج فيها الألفاظ الغريبة واللغات العجيبة وسودها في قراطيس عتيقة وطلب من علاء الدولة مجمعاً بين أبي منصور وبينه، وقال له: إني أريد الإطلاع على مضامين هذه الأوراق وترجمتها.
فعمل بمقتضى سؤاله، فسئل من أبي منصور معاني تلك الألفاظ في الأوراق، فمهما اختفى عليه معنى لغة منها بينها الشيخ، وكان يقول: إنها في الكتاب مسطور ومعناها كذا وكذا.
فالتفت أبو منصور من مزيد الكياسة والفطانة أن هذه القصائد والرسائل من مؤلفات الشيخ، فلا جرم قد قدم بالاعتذار وأقر بفضيلة الشيخ وتقدمه في كل العلوم.
وقد نقل أنه قد كتب رسالة في المنطق، فاتفق وقوعها في شيراز بيد علمائها، وقد اشتبه عليهم كثير من مواضعها لم ينكشف، فثبتوا موارد الاشتباه في جزء وأعطوه بيد من يحمله إلى الشيخ، وينحل عقدها ويرتفع الحجاب والستور عن وجوهها، فوصل إلى أصفهان عند غروب الشمس في فصل الحرارة، فلاقاه وأخذ الجزء.
فلما فرغ من صلاة العشاء الآخرة اشتغل بمطالعته وتدوين جوابه، وقد كتب في خمسة أجزاء كل جزء عشرة أوراق، ثم نام وصلى صلاة الصبح أداءً على قانونه وطريقته، وأعطى الأجزاء بيد أبي القاسم وقال: استعجلت في الجواب، فتعجب أبو القاسم(43).
قال ابن سينا: ورغبت في الطب وبرزت فيه وقرؤوا عليَّ، وأنا مع ذلك أختلف إلى الفقه، وأناظر ولي ست عشرة سنة. ثم قرأت جميع الفلسفة، وكنت كلّما أتحير في مسألة، أو لم أظفر بالحد الأوسط في قياس، ترددت إلى الجامع وصليت وابتهلت إلى مبدع الكل حتى فتح لي المنغلق منه. وكنت أسهر... ـ إلى أن قال ـ حتى استحكم معي جميع العلوم، وقرأت الكتاب (ما بعد الطبيعة)، فأشكل عليَّ حتى أعدت قراءته أربعين مرة، فحفظته ولا أفهمه، فأيست. ثم وقع لي مجلد لأبي نصر الفارابي في أغراض كتاب (ما بعد الحكمة الطبيعية)، ففتح عليَّ أغراض الكتب ففرحت وتصدقت بشيء كثير.
واتفق لسلطان بخارى نوح مرض صعب، فأُحضرت مع الأطباء وشاركتهم في مداواته، فسألت إذناً في نظر خزانة كتبه، فدخلت فإذا كتب لا تحصى في كل فن فظفرت بفوائد ـ إلى أن قال ـ فلما بلغت ثمانية عشر عاماً فرغت من هذه العلوم كلها، وكنت إذ ذاك للعلم أحفظ، ولكنه معي اليوم أنضج، وإلّا فالعلم واحد لم يتجدد لي شيء، وصنفت (المجموع) فأتيت فيه على علوم، وسألني جارنا وكان مائلاً إلى الفقه والتفسير والزهد، فصنفت له (الحاصل والمحصول) في عشرين مجلدة، ثم تقلدت شيئاً من أعمال السلطان، وكنت بزي الفقهاء إذ ذاك بطيلسان محنك، ثم انتقلت إلى نسا ثم أبا ورد وطوس وجاجرم ثم إلى جرجان(44).
قال ابن سينا: لما بلغت التميز سلمني أبي إلى معلم القرآن ثم إلى معلم الأدب، فكان كل شيء قرأ الصبيان على الأديب احفظها، والذي كلفني أُستاذي كتاب (الصفات) و(غريب المصنف) ثم (أدب الكاتب) ثم (إصلاح المنطق) ثم (كتاب العين) ثم (شعر الحماسة) ثم (ديوان ابن الرومي) ثم (تصريف المازني) ثم (نحو سيبويه) فحفظت تلك الكتب في سنة ونصف سنة، ولولا تعويق الأستاذ لحفظتها بدون ذلك، وهذا مع حفظي وظائف الصبيان في المكتب، فلما بلغت عشر سنين كان في بخارى يتعجبون مني، ثم شرعت في الفقه فلما بلغت اثنتي عشرة سنة كنت أفتي في بخارى على مذهب أبي حنيفة، ثم شرعت في علم الطب، وصنفت (القانون) وأنا ابن ست عشرة سنة، فمرض نوح بن منصور الساماني، فجمعوا الأطباء لمعالجته فجمعوني معهم، فرأوا معالجتي خيراً من معالجات كلهم فصلح على يدي. فسألته أن يوصي خازن كتبه أن يعيرني كل كتاب طلبت ففعل، فرأيت في خزانته كتب الحكمة من تصانيف أبي نصر طرخان الفارابي، فاشتغلت بتحصيل الحكمة ليلاً ونهاراً حتى حصلتها، فلما انتهى عمري إلى أربع وعشرين كنت أفكر في نفسي ما كان شيء من العلوم أني لا اعرفه(45).
وهذه نماذج من حياة الذين عملوا وأتعبوا أنفسهم وسهروا الليالي طلباً لما أرادوه فوصلوا إليه.
طعم الحياة
إن البساطة في العيش هي مسؤولية الحكام أولاً، فإن من تولى أمور الناس عليه أن يعيش بحال أضعفهم، وهكذا كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وأمير المؤمنين (عليه السلام) في حكومتيهما العادلة.
جاء في نهج البلاغة: من كتاب لأمير المؤمنين (عليه السلام) إلى عثمان بن حنيف الأنصاري وكان عامله على البصرة، وقد بلغه: أنه دُعي إلى وليمة قوم من أهلها، فمضى إليها، فقال له:
«أمّا بعد يا ابن حنيفٍ، فقد بلغني أنّ رجلاً من فتية أهل البصرة دعاك إلى مأدبةٍ، فأسرعت إليها تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك الجفان(46)، وما ظننت أنّك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفوٌّ، وغنيّهم مدعوٌّ.
فانظر إلى ما تقضمه(47) من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه، ألا وإنّ لكلّ مأمومٍ إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه(48)، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنّكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورعٍ واجتهادٍ، وعفّة وسدادٍ، فو اللّه ما كنزت من دنياكم تبراً(49)، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلّا كقوت أتانٍ دبرةٍ، ولهي في عيني أوهى وأوهن من عفصةٍ مقرةٍ(50). بلى كانت في أيدينا فدكٌ(51) من كلّ ما أظلّته السّماء، فشحّت عليها نفوس قومٍ، وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، ونعم الحكم اللّه، وما أصنع بفدكٍ وغير فدكٍ، والنّفس مظانّها في غدٍ جدثٌ، تنقطع في ظلمته آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرةٌ لو زيد في فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لاضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التّراب المتراكم، وإنّما هي نفسي أروضها(52) بالتّقوى، لتأتي آمنةً يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب المزلق.
ولو شئت لاهتديت الطّريق إلى مصفّى هذا العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ(53)، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطونٌ غرثى(54)، وأكبادٌ حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وَحَسْبُكَ دَاءً أَنْ تَبِيتَ بِبِطْنَةٍ --- وَحَوْلَكَ أَكْبَادٌ تَحِنُّ إِلَى الْقِدِّ
أأقنع من نفسي بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدّهر، أو أكون أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني أكل الطّيّبات، كالبهيمة المربوطة همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها(55)، تكترش من أعلافها، وتلهو عمّا يراد بها، أو أترك سدًى، أو أهمل عابثاً، أو أجرّ حبل الضّلالة، أو أعتسف(56) طريق المتاهة.
وكأنّي بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالبٍ فقد قعد به الضّعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشّجعان، ألا وإنّ الشّجرة البرّيّة أصلب عوداً، والرّواتع الخضرة أرقّ جلوداً، والنّابتات العذية(57) أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالضّوء من الضّوء، والذّراع من العضد، واللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشّخص المعكوس، والجسم المركوس(58)، حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.
إلى أن قال (عليه السلام): إليك عنّي يا دنيا، فحبلك على غاربك(59)، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب في مداحضك(60).
أين القرون الّذين غررتهم بمداعبك؟
أين الأمم الّذين فتنتهم بزخارفك؟
فها هم رهائن القبور ومضامين اللّحود.
واللّه لو كنت شخصاً مرئيّاً، وقالباً حسّيّاً، لاقمت عليك حدود اللّه في عبادٍ غررتهم بالأمانيّ، وأممٍ ألقيتهم في المهاوي، وملوكٍ أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر(61). هيهات من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ(62) عن حبائلك وفّق، والسّالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه(63)، والدّنيا عنده كيومٍ حان انسلاخه. اعزبي عنّي فو اللّه لا أذلّ لك فتستذلّيني، ولا أسلس(64) لك فتقوديني.
وايم اللّه، يميناً أستثني فيها بمشيئة اللّه، لاروضنّ نفسي رياضةً تهشّ(65) معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً، ولادعنّ مقلتي كعين ماءٍ نضب(66) معينها، مستفرغةً دموعها، أ تمتلئ السّائمة(67) من رعيها فتبرك! وتشبع الرّبيضة(68) من عشبها فتربض! ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع، قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السّنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسّائمة المرعيّة.
طوبى لنفسٍ أدّت إلى ربّها فرضها، وعركت(69) بجنبها بؤسها، وهجرت في اللّيل غمضها، حتّى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسّدت كفّها، في معشرٍ أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم، وهمهمت بذكر ربّهم شفاههم، وتقشّعت بطول استغفارهم ذنوبهم، (أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ)(70).
فاتّق اللّه يا ابن حنيفٍ، ولتكفف أقراصك ليكون من النّار خلاصك»(71).
نعم، إن طعم الحياة ولذتها والمعاني الحقيقية فيها تكمن في خوض الصعوبات في سبيل اللّه، وفي تحمل المشاكل لوجه اللّه.
وجني الثمار المفيدة تتم عبر الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، وليس عبر الرفل بالنعيم والراحة.
نعم، على الإنسان أن يجعل اللذة في سبيل الوصول إلى الهدف الأسمى، لا لأجل صرف الوقت في الملذات والهوى وملء البطن والتمتع والأمور التافهة.
وهناك بعض القصص من حياتنا المعاصرة تدل على الفرق بين من يعمل ومن لا يعمل.
الفرق بين الشخصيتين
سافر اثنان من طلبة العلوم الدينية لأجل التبليغ خارج بلدتهم، وكان أحدهما يمتاز بروحية عالية، وقد ربى نفسه على البساطة في العيش والاكتفاء الذاتي في أموره مهما أمكن؛ لذلك فقد أحرز نجاحاً واسعاً في مهمة التبليغ، وكان يشعر براحة نفسية كبيرة؛ لأنه قد قام بواجبه وأوصل رسالته ونال هدفه، فكان يتحدث عن تجربته الناجحة وما أنجزه بروحية عالية وسعادة بالغة، وكان على أمل حصول الثواب الإلهي الذي وفق لأسبابه في مجال التبليغ وهداية الناس ونشر المذهب الحق، رغم الصعاب التي كان لاقاها والمشاق التي تحملها.
أما الثاني، حيث لم يكن قد ربى نفسه على روح البساطة والاكتفاء، وكان يتصور بأنه متى ما يباشر في التبليغ فإن الناس سوف يهرعون إليه، ويستقبلونه بحرارة فائقة ويلبون جميع حوائجه ويقضونها له؛ لذلك عندما صدمه الواقع وخالف توقعاته عاد من التبليغ وهو ساخط على الناس غير راض عنهم. فكان أينما يجلس يبدأ ببث آلامه وهمومه، ويقول: نحن في آخر الزمان، فالناس لاينفعهم التبليغ والإرشاد، إلى غير ذلك من الأعذار والعلل الضعيفة.
إن الفرق بين هذين الشخصين، إنما هو في الشخصية: فإن أحدهما كان قد ربى نفسه وبناها على الاكتفاء الذاتي والبساطة في العيش، ووطنها على العمل الجاد والمثابرة والمبادرة في كل شيء مما يرضي الرب عزّ وجلّ، بينما الثاني ترك نفسه ولم يربها على الاكتفاء الذاتي والبساطة، بل رباها على الاتكال على الغير، والانتظار من الجميع ليهبوا في خدمته وإنجاز أعماله ووظائفه.
الحسينية العامرة
وفي قصة أخرى، سُلمت إدارة حسينية من الحسينيات إلى أحد الأشخاص، وذلك للإشراف عليها وإقامة البرامج والأنشطة الدينية فيها.
فعندما حل شهر محرم الحرام وباشر بإقامة المجالس فيها، لوحظ الجمود والرتابة فيها وعدم الإقبال والتفاعل من قبل الناس على هذه الحسينية على عكس سائر الحسينيات، وفي النهاية آلت إدارة هذا الفرد إلى الفشل، ولم يستطع أن يقدم شيئاً في هذا المجال، ولا أن يجمع الناس حوله لإنجاح الحسينية.
عند ذلك أوكلت مهام هذه الحسينية إلى فرد آخر لإدارتها، فأجاد في إدارتها وأقام فيها مأتماً ضخماً، بالرغم من أنه لم يكن من أهل العلم، فسألته عن سبب هذا التجمع الغفير والبرنامج الضخم في جميع المجالات من إقامة العزاء والطبخ وما أشبه، فقال: إنني استقبل كل من يدخل الحسينية بحرارة وأودعه بحفاوة وتقدير، وأقول له: أنت جئت إلى هذا المكان من أجل الإمام الحسين (عليه السلام) فماذا تهدي وتقدم للإمام (عليه السلام)؟ فأحدهم يهدي شاة والآخر أرزاً، والثالث سمناً، وهكذا، وكان هذا الأسلوب باعثاً شديداً على قوة المجالس واستمرارها في هذه الحسينية.
ونفس هذا الفرد عند ما كان في كربلاء المقدسة أوكلت إليه إدارة مسجد خلف صحن مولانا أبي الفضل العباس (عليه السلام)، وكان خرباً ومفروشاً بالحصير. فعندما تسلمه هذا الفرد، عمد أولاً إلى تعميره تعميراً حسناً، ثم فرشه بفراش جيد، وأقام فيه صلاة الجماعة، وأعاد للمسجد رونقه المادي والمعنوي.
وكان السبب في هذا النشاط هو الروح الكبيرة والهمة العالية التي امتاز بها، مضافاً إلى الاعتماد على المواهب الذاتية الكامنة في نفسه وفي نفوس إخوانه المؤمنين من جهة أخرى.
الشكوى دائماً
وهناك أفراد خاملون وقاعدون، تراهم يشكون دائماً وفي كل الأحوال، ويبثون شكواهم لهذا وذاك باستمرار، ومن دون سبب أو داعٍ مقبول، حتى أن أحدهم عندما كنت أسأله عن أحواله وصحته كان يشتكي ويتألم دائماً، حتى صار بث الهم والشكوى من سماته. فكان كثير الشكوى، وعندما لم تكن لديه أية مشكلة كان يشتكي حتى من الخدشة!، ففي مرة سألته عن حاله؟ فقال: في الليلة الماضية آذتني ذبابة!!
ولذلك كان أصدقاؤه يتحاشون السؤال عن أحواله... لأن جوابه كان الشكوى والتذمر من كل شيء للحالة النفسية التي يحملها.
استثمار الوقت
ذكروا في أحوال المحدث القمي (رحمه الله) صاحب كتاب (مفاتيح الجنان) والكتب الأخرى المفيدة:
إن أحد المؤمنين كان قادماً ذات يوم من مدينة أراك إلى مدينة قم المقدسة، وفي الطريق بين المدينتين يرى الشيخ عباس القمي (رحمه الله) وحيداً في الصحراء، جالساً على جانب الطريق، وهو منهمك في الكتابة والتأليف، فتعجب من ذلك، وأوقف سيارته عنده وسأله عن سبب وجوده في الصحراء؟!
فقال: إن السيارة التي كانت تقلني قد تعطلت في منتصف الطريق، وقال سائق السيارة: بأن حصول هذه النكبة وعطب السيارة إنما لحقنا بسببك!، ثم أنزلني من السيارة وتركني كما ترى، وذهبوا بعدما أصلحوا السيارة، والآن مضى على تواجدي هنا ساعتان تقريباً، ومن أجل الاستفادة من الوقت وعدم هدره أخذت بالكتابة والتأليف!
يقول هذا الشخص: فطلبت من الشيخ أن أوصله إلى قم المقدسة بسيارتي، فلم يمانع (رحمه الله).
نعم، هكذا يجب أن يُستثمر الوقت ويُستفاد من فرص العمر في العمل حتى يتحقق الاكتفاء الذاتي والبناء والتقدم، كما يلزم التحلي بالبساطة في العيش والزهد في الدنيا، وبذلك يمكن التقدم في الحياة الشخصية والاجتماعية.
«اللّهمّ صلّ على محمّدٍ وآله، وصن وجهي باليسار(72)، ولا تبتذل جاهي بالإقتار، فأسترزق أهل رزقك، وأستعطي شرار خلقك، فأفتتن بحمد من أعطاني، وأبتلى بذمّ من منعني، وأنت من دونهم وليّ الإعطاء والمنع»(73).
من هدي القرآن الحكيم
حقيقة الزهد
قال تعالى: (لِّكَيۡلَا تَحۡزَنُواْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا مَآ أَصَٰبَكُمۡۗ)(74).
وقال سبحانه: (لِّكَيۡلَا تَأۡسَوۡاْ عَلَىٰ مَا فَاتَكُمۡ وَلَا تَفۡرَحُواْ بِمَآ ءَاتَىٰكُمۡۗ)(75).
الحث على العمل
قال عزّ وجلّ: (وَجَعَلۡنَٰهُمۡ أَئِمَّةٗ يَهۡدُونَ بِأَمۡرِنَا وَأَوۡحَيۡنَآ إِلَيۡهِمۡ فِعۡلَ ٱلۡخَيۡرَٰتِ وَإِقَامَ ٱلصَّلَوٰةِ وَإِيتَآءَ ٱلزَّكَوٰةِۖ وَكَانُواْ لَنَا عَٰبِدِينَ)(76).
وقال سبحانه: (قُلۡ يَٰقَوۡمِ ٱعۡمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمۡ إِنِّي عَامِلٞۖ فَسَوۡفَ تَعۡلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُۥ عَٰقِبَةُ ٱلدَّارِۚ إِنَّهُۥ لَا يُفۡلِحُ ٱلظَّٰلِمُونَ)(77).
وقال تعالى: (وَقُلِ ٱعۡمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمۡ وَرَسُولُهُۥ وَٱلۡمُؤۡمِنُونَۖ)(78).
وقال سبحانه: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيِّبَٰتِ وَٱعۡمَلُواْ صَٰلِحًاۖ إِنِّي بِمَا تَعۡمَلُونَ عَلِيمٞ)(79).
وقال تعالى: (ٱعۡمَلُوٓاْ ءَالَ دَاوُۥدَ شُكۡرٗاۚ وَقَلِيلٞ مِّنۡ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ)(80).
وقال سبحانه: (وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَأُوْلَٰٓئِكَ يَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا يُظۡلَمُونَ نَقِيرٗا)(81).
وقال تعالى: (وَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا يَخَافُ ظُلۡمٗا وَلَا هَضۡمٗا)(82).
وقال سبحانه: (فَمَن يَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَهُوَ مُؤۡمِنٞ فَلَا كُفۡرَانَ لِسَعۡيِهِۦ وَإِنَّا لَهُۥ كَٰتِبُونَ)(83).
من هدي السنّة المطهّرة
البساطة في العيش
روي: أنه لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله): (وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوۡعِدُهُمۡ أَجۡمَعِينَ * لَهَا سَبۡعَةُ أَبۡوَٰبٖ لِّكُلِّ بَابٖ مِّنۡهُمۡ جُزۡءٞ مَّقۡسُومٌ)(84)، بكى النبي (صلى الله عليه وآله) بكاءً شديداً وبكت صحابته لبكائه، ولم يدروا ما نزل به جبرائيل (عليه السلام) على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) من الوحي، ولم يستطع أحدٌ من صحابته أن يكلمه، وكان النبي (صلى الله عليه وآله) إذا رأى فاطمة (عليها السلام) فرح بها. فانطلق بعض أصحابه إلى باب بيتها فوجد بين يديها شعيراً وهي تطحن فيه، وتقول: (وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَيۡرٞ وَأَبۡقَىٰٓۚ)(85)، فسلم عليها وأخبرها بخبر النبي (صلى الله عليه وآله) وبكائه.
فنهضت والتفَّت بشملة لها خلقة، قد خيطت في اثني عشر مكاناً بسعف النخل، فلما خرجت نظر سلمان الفارسي إلى الشملة وبكى، وقال: واحزناه، إن بنات قيصر وكسرى لفي السندس والحرير، وابنة محمد (صلى الله عليه وآله) عليها شملة صوف خلقة قد خيطت في اثني عشر مكاناً!! فلما دخلت فاطمة (عليها السلام) على النبي (صلى الله عليه وآله) قالت: «يا رسول اللّه، إن سلمان تعجب من لباسي، فو الذي بعثك بالحق، مالي ولعلي منذ خمس سنين إلّا مسك(86) كبشٍ تعلف عليها بالنهار بعيرنا، فإذا كان الليل افترشناه، وإن مرفقتنا لمن أدمٍ(87) حشوها ليفٌ». فقال النبي (صلى الله عليه وآله): «يا سلمان، إن ابنتي لفي الخيل السوابق،...»(88).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «لأروضن نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح مأدوماً»(89).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «قال عيسى بن مريم (عليه السلام) في خطبة قام بها في بني إسرائيل: أصبحت فيكم وإدامي الجوع، وطعامي ما تنبت الأرض للوحوش والأنعام، وسراجي القمر، وفراشي التراب، ووسادتي الحجر، ليس لي بيت يخرب، ولا مالٌ يتلف، ولا ولد يموت، ولا امرأة تحزن. أصبحت وليس لي شيء، وأمسيت وليس لي شيء، وأنا أغنى ولد آدم»(90).
وقال إسماعيل بن جابر: أتيت أبا عبد اللّه (عليه السلام) وإذا هو في حائط له، بيده مسحاة وهو يفتح بها الماء، وعليه قميص شبه الكرابيس، كأنه مخيط عليه من ضيقه»(91).
الزهد
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «ما اتخذ اللّه نبياً إلّا زاهداً»(92).
وقال (صلى الله عليه وآله): «ما يعبد اللّه بشيء مثل الزهد في الدنيا»(93).
وقال الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام): «العجز آفة، والصبر شجاعة، والزهد ثروة،والورع جُنة(94)، ونعم القرين الرضا»(95).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): «جعل الخير كله في بيت وجعل مفتاحه الزهد في الدنيا»(96).
ذم الطمع
قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): «إياكم واستشعار الطمع! فإنه يشوب القلب شدة الحرص، ويختم القلب بطابع حب الدنيا، وهو مفتاح كل سيئة، ورأس كل خطيئة، وسبب إحباط كل حسنة»(97).
وقال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ما هدم الدين مثل البدع، ولا أفسد الرجال مثل الطمع. إياك والأماني! فإنها بضائع النوكى»(98]-[99).
وقال الإمام الرضا (عليه السلام): «الطمع سجية سيئة»(100).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): «بئس العبد عبد له طمع يقوده، وبئس العبد عبد له رغبة تذله»(101).
العمل
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «الإخلاص خير العمل»(102).
وقال (عليه السلام): «قدموا خيراً تغنموا، وأخلصوا أعمالكم تسعدوا»(103).
وقال (عليه السلام): «أفضل العمل ما أريد به وجه اللّه»(104).
وقال (عليه السلام): «من نصح(105) في العمل نصحته المجازاة»(106).
وقال (عليه السلام): «لا يدرك أحد رفعة الآخرة إلّا بإخلاص العمل، وتقصير الأمل، ولزوم التقوى»(107).
وقال (عليه السلام): «تصفية العمل أشد من العمل»(108).