تخليق الحواضن الجيدة ومهمة قادة النخب
رؤى من فكر الامام الشيرازي
شبكة النبأ
2015-09-28 05:16
الحاضنة مفردة يمكن اشتقاقها من الحضن والاحتضان، والاخيرة تحيل الى الرعاية والاهتمام، لتحقيق التطور والنمو في بيئة او حاضنة سليمة، وصناعة الحواضن الجيدة، تعني صناعة دولة ناجحة ومجتمع مثقف، حيث يرغب الانسان الفرد والجماعة، بصورة متواصلة لتحسين حياته وطرائق عيشه، عبر تحسين الافكار التي تؤثر مباشرة في نوعية سلوكه وأفعاله.
وهذا يعني أن الانسان لكي يكون متميزا، يحتاج الى حاضنة أو بيئة مناسبة، نقية ونظيفة وواعية، حتى يتمكن بالفعل أن يغادر من مستوى ادنى الى أعلى، لذلك ليس أمام الانسان سوى أن يسعى لتخليق بيئة جيدة ومتميزة، يمكن أن نطلق عليها بيئة او حاضنة منتجة للتقدم والاستقرار في الوقت نفسه، وبإمكانها أن تتيح للجماعة او المجتمع حياة أفضل.
في هذه الحالة علينا معالجة الحاضنة أولا، ومن الافضل تخليقها بطريقة صحيحة، واذا كان هذه الحاضنة سابقة لوجودنا، ومتجذرة في عاداتنا وتقاليدنا، علينا (وأعني النخب وقادتهم) أن نعمل بجد وتخطيط وعلمية على مكافحة الحواضن غير السليمة، من خلال سعي النخب الى تنظيف الحواضن من الرديء، ومضاعفة وجود الجيد وفاعليته، هذا يعني أن ندخل مع التخلف الذي يشوّه حواضن المجتمع، في صراع دائم، وليس امامنا سوى التفوق في عملية التصحيح.
يقول الامام الراحل، آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (الاصلاح)، حول حاضنة التخلف: (للتخلف بيئة خاصة به، هي الجهل والنزاع والكسل والضجر، وشيوع الزنا والانحرافات الجنسية، والمرض والكآبة، وعدم الأمن والبطالة).
إن هذه الامراض العملية والاجتماعية يعاني منها المسلمون فعلا في واقعهم الراهن، فهناك نزاعات بينهم، وكسل وفشل، وزنا وانحراف جنسي، وهناك بطالة تفتك بشبابهم وتدفعهم للهجرة او الدخول في مساحات اوسع للانحراف، وفي آخر المطاف يتسلمهم مرض الكآبة فيطيح بهم ويشل قدراتهم المادية والفكرية والمعنوية، فيصبحون عبء على المجتمع بدلا من أن يكونوا عونا لهم.
المصلحة الشخصية ومصلحة المجتمع
ان النخبة مسؤولة عن تقويم سلوك الفرد وتطويره، وفي حالة النجاح بصناعة فرد واعي رافض للحاضنة الرديئة، ومساهم في تخليق البيئة الأفضل، فإن مهمة النخبة هنا تكون قد حققت النجاح المطلوب، لذلك مطلوب من المجتمع اذا أراد الانتقال الى بيئة الاصلاح، أن يسعى لمحاربة عناصر التخلف التي ذكرها الامام الشيرازي في العديد من مؤلفاته وخاصة كتاب سماحته حول الاصلاح.
لذلك يقول الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه: (من مقومات الإصلاح، القضاء على بيئة التخلف)، وهذا الفعل يستدعي تخليق حاضنة افضل، وهي مهمة ينبغي أن تتصدى لها قادة النخب بعلمية وتخطيط مسبق ومدروس، لذلك كلما كان الفرد واعيا وساعيا الى الاصلاح قولا وعملا، كلما اصبح تخليق الحاضنة الأفضل أمرا مفروغا منه، ويبقى الدور الاساس من مسؤولية النخب الثقافية والدينية والسياسية وسواها، علما أن الفرد الواعي هو الأساس الأول للمجتمع الواعي، او تحصيل حاصل له:
لذلك يتطرق الامام الشيرازي الى هذا الأمر قائلا حول هذا الجانب: (مثل المجتمع مثل الفرد، في الصلاح والفساد، والصحة والسقم، والتقدم والتأخر. ثم إن الفرد قد يقدّم مصلحة المجتمع على مصالحه الشخصية، وقد يجعل مصالحه الشخصية كمصالح المجتمع وبنفس المستوى).
ولذلك ينبغي أن تعي النخب مهمتها بصورة جيدة وصحيحة، وهي أن تساعد في صنع فرد واعي، ومن ثم مجتمع ذكي، وهذا يؤدي بدوره الى تخليق بيئة جيدة، وحاضنة متطورة، وهذا يؤكد أن طبيعة تطور الفرد ووعيه ودرجة إيثاره، لها مساس مباشر في تخليق بيئة الاصلاح التي تقضي على بيئة التخلف، هذا الامر يوضّح قضية الاعتناء بوعي الفرد، كونه سينعكس مباشرة على وعي المجتمع، الذي سوف يساعد النخب على القيام بدورها الصحيح في تخليق الحواضن المطلوبة للقضاء على التخلف بكل أنواعه ومسمياته.
وحتما تعي النخب تلك الفجوة العلمية والثقافية التي تفصل بين المجتمع المتأخر والمجتمعات المتقدمة، لذلك تسعى الى محو هذه الفجوة، وهذا يمكن أن يتحقق من خلال المحاولات الجادة والمتواصلة لتخليق الحواضن الجيدة، والمنتجة للفرد الواعي ومن ثم المجتمع المتطور.
من هنا يؤكد الامام الشيرازي على هذه النقط في كتابه قائلا: (بما أن المجتمعات البشرية الأخرى في تقدم وتطور دائم، فإن المجتمع الذي لا يكون متقدماً بنفس المستوى أو بفاصل كبير، فإنه يعتبر متأخراً ومتخلفاً فإنه إذا توقف عن التقدم صار مجتمعاً متخلفاً).
لا لإهمال الوعي المجتمعي
وهكذا من الواضح ان وعي الفرد له علاقة مباشرة بوعي المجتمع، والاخير له الكلمة الفصل في تخليق البيئة التي ترفض التخلف، وتسعى نحو وأد المسافة الكبيرة والبون الشاسع بينها وبين وبين الدول المتقدمة، لذلك لا يصح اهمال الوعي الفردي والمجتمعي معا، لأن إهمال الوعي الفردي، سيقود حتما الى حاضنة للتخلف، ويشيع نوعا من العادات الرديئة بين أفراد ومكونات المجتمع، مثل تنمية نوازع الاستحواذ والمصلحة الذاتية واللهاث وراء الماديات وسوى ذلك.
ان صناعة او تخليق الحاضنة الجيدة، لا يمكن أن يجيدها سوى النخب المتطورة في بنية المجتمع، وهي التي يعوَّل عليها في البناء والتخليق معا، وهذا النخب وقادتها يعون جيدا أن عملية اصلاح المجتمع تتطلب التعاون، والتسامح، والتشارك، والتكافل بين جميع مكونات وافراد المجتمع، ولا فرق في ذلك بين غني او فقير، وبين قوي أو ضعيف، فالكل عليهم المشاركة في تحقيق هذا الهدف.
كما يرى ذلك الامام الشيرازي عندما يقول في كتابه الاصلاح: (إن الغني إذا اهتم بالفقير، والفقير إذا عاون الغني بدوره، وهكذا السليم والمريض، والعالم والجاهل، وغيرهم من الطوائف الاجتماعية المتضادة الصفة، فسوف ترفع مشاكل المجتمع بنسبة كبيرة)، وهذا يعني ان هناك مشاركة جماعية شعبية لتحقيق الحواضن الأفضل.
ولعل العامل المناقض الاول لتخليق البيئة المناسبة في عصرنا الراهن، هو طغيان الجانب المادي على الروحي، لاسيما في مجتمعاتنا المتعطشة للجديد، لذلك على قيادات النخب أن تتنبه الى هذه النقطة بصورة دقيقة، فالعنصر المادي لا ينبغي له أن يتسيّد حياتنا، وعلينا الاهمام كثيرا بالجانب الروحاني، فهو عامل مساعد جدا على تخليق الحاضنة المناسبة للتطور.
لذلك لا يصح لقادة النخب التغاضي عن العوامل التي تشكل عوائق امام بناء الفرد والمجتمع الواعي، لأن القضية في جوهرها قضية صراع بين التخلف والتقدم، وبين الفساد والاصلاح، وبين الصحيح والخاطئ، وهذا يشكل مؤشرا سلبيا على الفرد والمجتمع لأن هذا المسعى الخطير الذي تدفع إليه النفوس المختلة الباحثة عن اللذائذ المادية المباشرة، سيقود العالم الى حتفه، بسبب مخاطر القضاء على بيئة الاصلاح لصالح بيئة التخلف.
كذلك ينبغي على النخب التركيز على المادي والمعنوي بصورة متكافئة، فلا يستحسن الاهتمام بأحدهما على حساب الآخر، لسبب بسيط أن المادي بلا روح او ثقافة يبقى عاجزا عن تطوير المجتمع، وعاجزا عن تخليق البيئة المناسبة للتقدم، كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله: (إذا رأينا مجتمعاً متقدماً في مجال الصناعة والتكنولوجيا من دون المعنويات، فلا يعد من المجتمعات المتحضرة وإن وسم بذلك، حيث إن لكل من الروح والجسد مكانة في المجتمع المتحضر فإذا روعي حق كل واحد منهما بالمقدار المطلوب كان المجتمع متحضراً)، وقادرا على تخليق حواضن متقدمة، ترفع من مكانة المجتمع، وتضعه في مكانه الصحيح بين المجتمعات المتطورة.