مفاسد الاستبداد والدكتاتورية في كتابات الامام الشيرازي
مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
2023-04-20 09:23
اعداد: مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث
تتداخل المفاهيم في هذه السطور تداخلا شديد التمازج والالتصاق، فكل مفهوم منها يستبطن نقيضه من الداخل، ويرفض ان يتماهى معه من الخارج.. وهو اشكال كثيرا ما تعرض للتحليل والنقد من قبل الادبيات السياسية، رغم ما قدمته من جهد في محاولة تفكيك هذه التداخلات وهذا الامتزاج.
في رأي هيجل، أن الحضارات تنمو في ثلاث مراحل: 1- حُكْم الفرد. 2- حُكْم طبقة من المجتمع. 3- حُكْم كل الناس. وكان هيجل يعتقد أن هذا النسق تسفر عنه الحرية في آخر الأمر لجميع الناس.
وقد عرف التاريخ في حقبه العديدة مصطلحات (الديكتاتور العادل) او (المستبد العادل) والذي اعتبره الكثير من المؤرخين شرطا لقيام الحضارات القديمة وازدهارها.
الا ان هذا المصطلح ايضا قد تعرض للكثير من النقد، فالديكتاتورية، كنظام سياسي لا يمكن ان يديم هذا الزخم الحضاري دون نزعة عسكرية تقوم على الغزو وتوسيع الرقعة الجغرافية للبلد الذي يحكمه الديكتاتور، وبالتالي ستصطدم تلك الارادة في التوسع والامتداد الى مقاومة واضطرابات تنهش من كيان تلك القوة، وبالتالي تؤدي الى انهيارها، وهو ماحدث بالفعل للكثير من الحضارات التي سادت ثم بادت..
مايقال عن الاستبداد والديكتاتورية يمكن قوله عن التعددية والديمقراطية، والتي تستبطن كل واحدة منها العديد من التناقضات في صلب جوهرها..
فالتعددية قد تكون دينية، وهو ما يؤدي في الكثير من الاحيان الى نشوب نزاعات حادة بين مكونات هذا التعدد، وهي قد تكون ثقافية، وهو ما حصل ويحصل من صراع بين الثقافات، ومحاولة ثقافة عالمية واحدة صهر جميع الثقافات الفرعية الاخرى في بوتقتها.. وهناك ايضا التعددية الاثنية والمذهبية، يضاف الى ذلك التعددية السياسية التي يمكن ان تحتوي جميع التناقضات من خلال السماح للتعدد ان يكون فاعلا ودافعا للأمام وليس معرقلا وساحبا للوراء.
الديمقراطية ايضا قد تحمل الكثير من التناقضات، تبعا لتطورها التاريخي في بلد معين، او لتمثلاتها السياسية والاقتصادية والثقافية في الكثير من البلدان.. لكن الديمقراطية في المحصلة النهائية تجدد نفسها، وتستطيع ان تتطور من خلال الممارسة المستمرة للفعل الديمقراطي.
كيف نظّر المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي للديكتاتورية والاستبداد؟
انه يبدأ بطرح تساؤل مفاده:
كيف يأتي الدكتاتور إلى الحكم، وما هي مقومات بقائه؟ ولماذا يسقط؟ وكيف يبنى الحكم بعد سقوط الدكتاتور؟
إذا عرفنا الجواب عن هذه الأسئلة الأربعة نعرف كيف نهيّئ للمسلمين حكماً إسلامياً زاهراً خالياً عن الدكتاتورية، مطبقاً لأحكام الإسلام التقدمية، فإنه بمجرد أن تطهر أجواء بلاد الإسلام عن الدكتاتورية تسير الأمة إلى الأمام لبناء حضارة إسلامية صحيحة تنقل المسلمين من الحضيض الذي وصلوا إليه الآن إلى الأوج الذي أراده الإسلام، لا للمسلمين فحسب بل لكافة البشرية، فإن إنقاذ المستضعفين أيضاً مهمة إسلامية.
أما كيف يأتي الدكتاتور إلى الحكم، فالجواب أنه يأتي بسبب جهل الأمة، إما جهلاً سلبياً بأن يجهلوا أن مشاكلهم نابعة من الحكم، بل يتصوروا أنها نابعة من شيء آخر، أو جهلاً إيجابياً وهو أسوأ الجهلين لأنه جهل مركب وهو أن يتصوروا أن من (الدين) الإبقاء على هذا النحو من الحكم، أو يتصوروا أن قدر المسلمين البقاء في ذيل القافلة والتخلف إلى ما شاء الله، أو ما أشبه ذلك من أنحاء الجهل بكلي قسميه.
فبعض يتصور أن مشكلة البلاد الإسلامية هي التمسك بمبدأ القومية سواء منها الفارسية أو العربية أو الكردية أو الهندية أو غيرها، وأنه إذا نبذوا القومية تمكنوا من التقدم إلى الأمام.
وبعض يتصور أن المشكلة نشأت من التمسك بمبدأ الحدود الجغرافية، فهذا حد العراق، وهذا حد مصر، وهذا حد إيران، وهذا حد باكستان، وهذا حد أندونيسيا، فإذا نبذوا الحدود الجغرافية صلحت الأمور.
وبعض يتصور أن المشكلة تكمن في عدم نظام صحيح للتربية فإذا صلح نظام التربية انحلت المشكلة.
وبعض يتصور أن المشكلة في عدم إدراك الناس روح التراث الإسلامي، فإذا أدركوا روح التراث الإسلامي انحلت مشكلتهم.
وبعض يتصور أن المشكلة في الفرد المسلم نفسه، فإنه غير مربى بتربية إسلامية صحيحة فإذا تمكنا من حل هذه المشكلة في نفوس المسلمين تقدم الإسلام تلقائياً إلى الأمام.
وبعض يتصور أن المشكلة هي عبارة عن توسع جهاز الحكم فبينما جهاز الحكم إبان الحكم الإسلامي كان صغيراً جداً توسع وتوسع حتى شمل كل مرافق الحياة، فإذا تمكنا من إرجاع الحكم إلى حجمه الطبيعي انحلت المشكلة. إلى غير ذلك من التعليلات التي يجدها الإنسان في مجتمعاتنا.
وهنا يأتي سؤال وهو أن النظام الدكتاتوري إذا لم يكن مستنداً إلى الأمة، ولا إلى الواقع والمنطق والبرهان، فكيف يتمكن أن يترعرع ويشب ويعيش ويصل إلى الحكم، ثم كيف يتمكن من البقاء على الحكم لفترات طويلة، كما نشاهد ذلك بالنسبة إلى الأمويين والعباسيين والعثمانيين من العهد الماضي وبالنسبة إلى الشيوعيين والرأسماليين بالنسبة إلى العهد الحاضر؟
والجواب: إن الاستبداد إنما ينمو ويترعرع ويعيش ويقفز على الحكم ويبقى بسبب جهل الناس ولذا يصر الإستبداد دائماً على سياسة التجهيل، ويغلق نوافذ المعرفة على الناس بألف وسيلة ووسيلة، أما الحكومات الأموية والعباسية والعثمانية فلم تكن كل واحدة منها حكومة واحدة ممتدة، بل كان يذهب الاستبداد المحض بموت ملك ويأتي من هو أقل منه استبداداً فيتنفس الناس، كما يحدثنا بذلك التاريخ بالإضافة إلى أن فترات الحكم العباسي تراوحت بين انفراج كثير في أوله، ثم تبدلت العهود، وحكم الفرس والترك وغيرهما.
أما بالنسبة إلى العصر الحاضر فالرأسمالية التي هي أقل مأساة من الشيوعية أقوى وأكثر دواماً منها، فبالإضافة إلى بعض الحريات التي فيها، يتبدل الحزب الحاكم بين فترة وأخرى، وهل من الممكن أن يتصور إنسان يُحكّم عقله ورويته إن نظام لينين وماو وهتلر وموسوليني وأمثالهم كان يتمتع بشيء من البصيرة والواقعية، حتى تمكن من الاستيلاء على الحكم أو كانت الأحزاب الشيوعية في هذه البلاد أكثرها عنفاً وفتكاً، فبينما كان العقلاء لا يريدون سفك الدماء وعلاج الفاسد بالأفسد كان هؤلاء لا يتورعون من أية جريمة في سبيل الوصول إلى الحكم.
وقد قال (هارولد لاسكي) في كتابه (تأملات في ثورات العصر): (وليس هناك من أدرك ضخامة حماقتها وأخطائها، بل وجرائمها مثل لينين مهندسها الأول) (قال ذلك بالنسبة إلى الاتحاد السوفياتي) ولو مدحنا كل من وصل إلى الحكم وخطّأنا كل من لم يصل لكان هتلر وموسوليني ونيرون وستالين والحجاج ويزيد وفرعون وهارون ومأمون ونمرود على رأس قائمة الممدوحين.
إن كل ما ذكر صحيح لكن بقدر لا على نحو الإطلاق، فإن نظام التعليم المنحرف والحدود الجغرافية وكبت الحريات بتضخم جهاز الدولة وغير ذلك، كلها تساهم في تأخر المسلمين وجعلهم في ذيل القافلة لكن الظاهر أن المشكلة كامنة في دكتاتورية الحكم بتمركز القدرة في أيدي جماعة قليلة تنتهي بالآخرة إلى فرد واحد، فإن من طبيعة القدرة المتمركزة كبت القابليات وإبادة الكفاءات ومنع الناس من أن يفكروا أو يقولوا - فإن وضع الجو إذا صار جواً دكتاتورياً مات فيه الفكر أيضاً - وفي مقابل ذلك يلف الدكتاتور حول نفسه جماعة من الامّعات الذين لا يهمهم إلا البطن والشهوات.
فإذا تمكن المسلمون من توزيع القدرة لا بد وأن يظهر الإسلام الذي فيه حل كل المشاكل الاقتصادية والسياسية والتربوية والاجتماعية وغيرها.
ما هي مقومات بقاء الدكتاتور؟
إنه لا شك في أن الإسلام كمجموعة أحكام معروف لدى الفقهاء المجتهدين الذين بذلوا وسعهم لاستنباطها، أما الموضوعات فهي بحاجة إلى الخبرات الواسعة الزمنية من سياسية واقتصادية وغيرهما، ولذا اشتهر بين الفقهاء أن الموضوع يؤخذ من العرف وإنما الحكم يؤخذ من الشرع، وحيث أن الكفاءة في الأحكام وفي الموضوعات متوفرة في المجتمع على نحو القوة وإنما الذي يحول دون ظهورها على نحو الفعلية هو دكتاتورية الحكام، فإذا تمكن المسلمون من إزالة هذه الدكتاتورية - التي تظهر تارة بالمظهر الملكي، وأخرى بالمظهر الجمهوري، وثالثة بالمظهر العلماني، والرابعة بالمظهر الديني، وإلى غير ذلك - نمت القابليات في الأحكام وفي الموضوعات، وهناك يكون البدء بالتقدم.
وإذا عرفنا أن الجو الجاهل هو الذي يأتي بالدكتاتور إلى الحكم نعرف الجواب عن السؤال الثاني وهو ما هي مقومات بقاء الدكتاتور؟
إن السبب الذي يأتي بالدكتاتور إلى الحكم ثم يبقيه - ما بقي ذلك السبب - هو جهل الجماهير وتطبعها بنزعة منحرفة تجعل من عبادة الفرد والتسليم له مذهباً دينياً وتريهم أن كل ميل إلى الحاكم يكون كالميل إلى الدين.
وحيث أنهم يحاطون بغموض إلهي غيبي خارج عن قدرة البشر فهم لا يخضعون لفحص العمليات العقلية العادية، كما أنه ليس من المناسب أن يخضعوا للإجراءات الاستشارية، فإذا أراد إنسان أن يفعل الصواب كان عليه أن يطيعهم طاعة عمياء، وإذا أراد أن يفعل الخطأ فهو أن يشك في حكمة الرئيس الأوحد أو ممثله، وأحكام الممثلية تجري حتى بالنسبة إلى الشرطي العادي الذي يمشي في الشارع، فهو ممثل الزعيم الأوحد وقد قال أحدهم: (حكمي حكم الرئيس وحكم الرئيس هو حكم الله).
وحيث أن الزعيم صار كالإله فلا بد وأن تكون عقوبة المخالف له أيضاً عقوبة من مس كرامة الإله لا عقوبة عادية، فإذا أهان إنسان الزعيم في وقت ما ولو عند كونه إنساناً عادياً يكون جزاؤه الإبادة الكاملة لنفسه وعائلته ومصادرة ممتلكاته.
وإذا اتفق أن اشتغل الدكتاتور بحرب كما اشتغل عبد الكريم قاسم بحرب الشمال، وعبد الناصر بحرب اليمن، فإن القداسة ترتفع إلى الألوهية الكاملة، فكل كلام حتى ضد أصغر موظف في الدولة يعد خيانة للوطن، وجزائها الإعدام والسجن، وإذا أراد إنسان أن يتكلم بكلمة يقال له: هل تهدر دماء الذين قتلوا في المعركة؟
فكلمة الإصلاح والهداية والتوجيه والإرشاد وما أشبه تصبح كلها مرادفة لهدر دماء المقتولين والتعاون مع الاستعمار إلى غير ذلك من العبارات المشابهة التي يتلقاها المصلحون في الشرق الأوسط.
فضح الدكتاتور
ثم يتحدث الامام الشيرازي عن العمل الدؤوب على فضح الدكتاتور في كل زمان ومكان، وعلى حد تعبيره:
حتى لا يكون هناك دكتاتور يحكم حسب هواه، سواء حكم باسم القانون، أو باسم الدين، أو باسم الطبقة العامــلة، أو باسم الطبقة المتعالية، وذلك بواسطة تأليف ألوف الكتب في ملايين النسخ بمختلف المستويات وشتى اللغات.
ومهما تذرع الدكتاتور بالذرائع، يجب أن لا تقبل منه فإن من الواضح أن العقول خير من العقل الواحد أو عقول أقل، ومن الواضح أيضاً أن الحق للناس، فبأي حق يسلبهم الدكتاتور حقهم.
والدكتاتور لا يتنازل عن كرسيه، وإنما اللازم إنزاله، فإن الحق لا يعطى وإنما يؤخذ، وقد اعتاد الدكتاتوريون كالحكومات العسكرية الانقلابية أن يقولوا إنا صنعنا الانقلاب فلنا الحق: دون من سوانا.
والجواب: هل صنعتم الانقلاب لأجل أنفسكم أو لأجل الناس؟
فإن كان الأول فلا حق لكم في التكلم باسم الناس، وإن كان الثاني فلماذا لا تشركون الناس في الحكم، بانتخابات حرة... (ومثل هؤلاء، الحكومات الوراثية).
ومن طبيعة الدكتاتور أن يجمع حول نفسه (إمّعات) باسم إنهم الناس، بينما عقلاء القوم والسياسيون والمحنكون يعيشون في حالة العزلة أو في السجون أو المنافي، أو صار نصيبهم القبر، إن الإمّعات (مادحو الدكتاتوريين) ليسوا إلا كالخشب المسندة، لا قيمة لهم، وإنما كل ما يملكون الــسلاح والدعاية والمال، كما رأينا ذلك في عهد (ناصر) و (قاسم) و (الشاه) ومــن إليهم وإنما بمجرد سقوطهم ظهر هراء أقوالهم، وأنهم لا يحظون بحب الشعب لهم ولو بمقدار قيراط، وظهرت فضائحهم.
كيف يُعرف الدكتاتور؟
ثم يذهب الامام الشيرازي الى تحديد علامات فارقة ومميزة للدكتاتور، وبها يعرف، وهي:
1 - عدم وجود الأحزاب الحرة، فإذا كان البلد إسلامياً، يلزم وجود أحزاب إسلامية حرة، وإذا كان غير إسلامي، كانت علامة الدكتاتورية عدم وجود أحزاب حرة.(1)
يقول الامام الشيرازي الراحل في كتابه (ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين) وهو أحد الاعمدة الثلاثة الرئيسية في ثلاثية التغيير المنشود (2):
وعلى أي حال فلا دكتاتورية في الإسلام لا من حيث المرجعية، ولا من حيث الحزبية، بل الإسلام دين الحريات والعدالة الاجتماعية وعليه فإذا رأينا حكومة تحكم باسم الإسلام وفيها شيء من الدكتاتورية، فاللازم أن نعلم أن الإسلام لا يقرر مثل هذه الحكومة.
لا يقال: الحاكم الإسلامي الدكتاتور يقول: أنا استشاري، ولست بدكتاتور؟
لأنه يقال: إذا صدق أنه ليس بدكتاتور، فليفسح المجال للبحث الحرّ من المعارضة في مختلف وسائل الإعلام، فهل هو أفضل من رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي (عليه السلام) وحيث كان المسلمون وغير المسلمين، يفتحون معهم المناقشات الحرة بمسمع من الناس وبمنظر منهم؟
كما يدل على ذلك (كتاب احتجاج البحار، واحتجاج الطبرسي) وغيرهما، أما أن يبتعد الحاكم عن الناس، ويقتنع بحضور الناس عنده للمباركية بدون المناقشة معه، ويحرك عماله لتنفيذ أوامره ويفتح باب السجون وينصب المشانق، ويرسل الجلاوزة لمصادرة الأموال، وتكيل وسائل أعلامه وعملائه التهم لكل من يريد قولاً معارضاً فإن ذلك من لوازم الدكتاتورية.
وعلى الأمة أن تعي حتى لا تستغل باسم الديمقراطية، أو الانقلاب على الفساد، أو الاستشارية، أو الإسلام، أو ما أشبه ذلك.
وإذا تسلط الدكتاتور على الأمة بألف اسم، وتحت ألف ستار، فاللازم على المصلحين أن يتمسكوا لإزالة الكابوس، بالقوة الشعبية، فإن هناك قوتين لا ثالث لهما، قوة السلاح حيث تقع يد الحكومة، وقوة الشعب التي تتمكن أن تقاوم قوة السلاح، فإذا تمكن المصلحون أن يتمسكوا بهذه القوة بتعقل وروية أزالوا تلك القوة، فإنها القوة الفائقة التي تتمكن أن تسحب قوة السلاح عن الباطل إلى الحق.
والطريق الطبيعي لسحب القوة عن يد الحكومة الدكتاتورية، توعية الشعب بملايين الكتب، ثم تكتيل الشعب تحت ألوية النهضة والثورة، والتحرك لأجل إزعاج الدكتاتور بالإضرابات والمظاهرات، وكلما توسعت هذه القوة، تقلصت قوة السلاح، إلى أن تسقط قوة السلاح عن يد الدكتاتور.
ومن المهم جداً تحييد السلاح أولاً، حتى لا يدخل الميدان لصالح الدكتاتور، وغالباً يمكن تحييد السلاح بعدم أخذ الشعب في إضراباته، ومظاهراته السلاح، بل تكون حركته سلمية، تتجنب العنف والشدة، كما ذكرناه في بعض المباحث.
كيف يسقط الدكتاتور ولماذا؟
وهو السؤال الثالث الذي طرحه الامام الشيرازي الراحل محاولا تفكيك هذه الظاهرة، ظاهرة الديكتاتورية في حياة الامم والشعوب، حيث يقول:
إن الحكم الدكتاتوري لا يمكن أن يبقى، لأنه مبني على الإرهاب، والإرهاب لا يمكن أن يدوم، وقد قال الحكماء قديماً: (القسر لا يدوم) والإرهاب ملازم للقسر لأن الإنسان يتطلب السلم والأمان، والإرهاب خلاف السلم والأمان، ولذا تنبأ العقلاء في الخمسينات وقبلها بسقوط الشيوعية وهاهي قد سقطت في أرجاء من العالم من ناحية، وفي الصين من ناحية ثانية، وهي تترنح للسقوط في الاتحاد السوفيتي، كما أن العقلاء - حتى من نفس اليهود - تنبأوا بسقوط دولة إسرائيل المغتصبة لأنها بنيت على غير السلام وهاهي بوادر السقوط تظهر للعيان وفي المثل: (إن السياسي يتمكن أن يخدع بعض الناس في بعض الوقت لكنه لا يتمكن خداع كلهم في كل الوقت - بل حتى في بعض الوقت -).
وعن تسريع عملية اسقاط الديكتاتور، يقول الامام الشيرازي:
إذا وجدت الحركة المنحرفة - دولة كانت أو غيرها - المقاومة الملائمة السريعة - سواء من الداخل أو من الخارج - سقطت بسرعة، وإلا سقطت ببطء فالفرق هو في الزمان لا في النتيجة.
وكثيراً ما يطوِّل عمر الانحراف زعم الناس أن الانحراف لو سقط يخلفه انحراف أكثر، وقد رأينا في العراق أن الحكم القاسمي كان يستمد حياته من توهم أن الزعيم لو سقط تبدل الأمر إلى أسوأ، وكذلك بقي شعب ألمانيا وإيطاليا مع هتلر وموسيليني بزعم أنهما أفضل من الشيوعية التي ستخلفها لا محالة إذا سقطا، فإذا تمكن المصلحون من إبعاد هذا الزعم من العقول كان سقوط الدكتاتور أسرع.
ولكن ماذا بعد سقوط الدكتاتور؟
وهو التساؤل الرابع الذي يطرحه الامام الشيرازي (قدس سره) يقول:
إن من يخلف الدكتاتور هو دكتاتور آخر، إذا بقيت الجماهير في جهلها وعدم مبالاتها، أما إذا تحول جهل الجماهير إلى العلم وعرفوا من أين أتت المشكلة وكيف يمكن علاجها؟ فإنهم لا يدعون دكتاتوراً آخر يأتي مكان الدكتاتور السابق.
إن انهيار الدكتاتور لا بد أن يستند إما لهزيمة خارجية، أو أن تعم البلبلة الداخلية كل الطبقات التي تنشأ عن مؤامرة في الداخل حيث يكون الإرهاق وعدم الأمن قد أثار خيبة أمل على نطاق واسع بين الجماهير، ومن الواضح أنه لا يمكن تحدي السلطة القائمة التي بيدها المال والسلاح والإعلام تحدياً مقترناً بنجاح إلا إذا ظهر فشل زعماء الحكومة بشكل واضح لعدد كبير من الناس لأن طبيعة أسلوب الدكتاتور هو تحطيم إرادة أولئك الذين يحاولون المقاومة بإلصاق التهم بهم وقتلهم وسجنهم وتبعيدهم ومصادرة أموالهم والتشتيت بينهم وما إلى ذلك حتى لا يتمكنوا من المقاومة، وهذه المقاومة لا تستطيع الاستمرار في معارضتها للدكتاتور إلا عندما لا ترى أملاً في النجاح وإلا فستغرق في لجج من الخمول اليائس، وهذا هو ما يطلبه الخارجون على القانون الذين قفزوا إلى الحكم إما بانقلاب عسكري أو بانقلاب شعبي حرفوا مسيره وصاروا من سراق الثورة فإن الشعب اليائس يطيع الأوامر التي تصدر إليه، ومن الواضح أن المقاومة تأتي مع الغضب ولا يثور الغضب مع وجود أسطورة تحفها قدسية فوق البشر إلا بإدراك أن الأسطورة التي قبلها الناس قد ثبت بطلانها. ولذا كان الإسرائيليون يصرون على أن لهم الجيش الذي لا يقهر.
وحيث أن من أساليب الدكتاتوريين خلق اليأس في نفوس الناس عن سقوطهم وأنهم جاءوا ليبقوا وليسوا كالأفراد العاديين لهم بقاء وفناء يوعزون إلى استخباراتهم بخلق المنامات المكذوبة ونشرها بين الناس حتى ييأس الناس عن سقوطهم، كما حدث في زمان البهلوي الأول حيث اختلقوا رؤيا عمّموها على كل الأوساط وصدقها بعض المغفلين والسذج حتى من المتدينين وكان مضمون الرؤيا أن إنساناً من المقدسين رأى في المنام في مسجد السهلة الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) فسأله عن وقت ظهوره؟ فقال (عليه السلام): (إني أظهر وحكم البهلوي قائم بعد) وها نحن نكتب هذا الكتاب وقد مر على سقوط البهلوي أكثر من أربعين سنة والإمام الحجة صلوات الله عليه لم يظهر بعد.
ومما ذكرناه يظهر أن أية محاولة إصلاحية تريد إزاحة الدكتاتور عن الحكم، يجب - لكي تنجح - أن تكون أكثر قوة نفسية ويقظة ونشاطاً حتى يكون في وسعها أن تفضح أساطير الدكتاتوريين وأجهزتهم وأن تلقي عليها ظلالاً من الشك والترديد، وأن يكون في وسعها أن تثبت ضعف الدكتاتورية لكي تقنع حتى أولئك الذين يقفون منها موقف الإذعان السلبي ويسمحون لها بفرض نفسها عليهم وتقنعهم بأن سلطتها في طريقها إلى الانهيار.
ومما تقدم تبين جواب أن الدكتاتور في أي جو يتسلط على الحكم؟ ومن هو؟ وكيف يفكر؟ وكيف يعمل؟ وكيف يبقى؟ وما هي عوامل بقائه؟ وما هي الأسباب التي تقف دون وصول الدكتاتور إلى الحكم؟ وكيف يزول؟
على العقلاء أن يقفوا أمام نمو المقتضى للدكتاتورية، فإذا فرض أنهم لم يتمكنوا من ذلك فالواجب عليهم أن يوجدوا مانعاً يقف أمام الدكتاتورية، مثل ذلك مثل السيل فعلى الدولة أن تقف دون حصول السيل فإذا لم تتمكن من الوقوف لزم عليها أن توجد الحاجز أمام السيل حتى لا يجرف المدينة فإذا تمكنوا من الحيلولة أمام نمو المقتضى كان انعدام المعلول أمراً طبيعياً.
الوقاية من الدكتاتورية
وعلى أي حال فإذا أردنا عدم تكون الدكتاتورية في رحم الزمان - لكي لا تصل إلى الحكم في يوم ما - يجب تقرير المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها بين الأمة، فإن كل تمييز في الاجتماع أو الاقتصاد أو السياسة وغيرها ينتهي إلى التضارب والتحارب الذي يؤول بدوره إلى الدكتاتورية.
ومن الواضح أنه ليس معنى المساواة الاقتصادية تصحيح الاشتراكية أو الرأسمالية فإن الاشتراكية تنشأ من التخطيط الواسع من قبل الدولة والتخطيط الواسع يقضي على الحرية، والرأسمالية كذلك تنشأ من التخطيط الضيق والتخطيط الضيق ينتهي إلى القضاء على الحرية، فإن التخطيط إذا كان أزيد من الحق أو أقل منه كان على خلاف الحرية، إن التخطيط لازم لكن بقدر دون إفراط ولا تفريط.
وليس المهم وضع الدستور القائل بالتساوي في الأمور المذكورة وإلا فالدستور في كل البلاد الدكتاتورية يقول ذلك، لكن الدستور بالآخرة يكون ألعوبة بيد الدكتاتور فيقول أحدهم أنا فوق القانون، ويقول الآخر لا يقيدني القانون، ويقول الثالث أنا أمشي كما أرى لا كما يراه القانون وقد سمعت كل ذلك من حكام ثلاثة كانوا يحكمون بلاداً في الشرق الأوسط، بل المهم أمران:
الأول: تربية الناس تربية نفسية تريهم أن الحق للآخرين كما أن الحق لأنفسهم، وهذا أمر قد يطول زماناً وقد يقصر إلا أنه هو ضمان سلامة المجتمع.
الثاني: وجود المؤسسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي تحفظ التوازن، وإلا فإن الناس الذين تربوا بالتربية الأخلاقية كثيراً ما يوجد فيهم الدكتاتور الذي يضرب بكل شيء عرض الحائط.
وما دام لم يعالج الأمر بهذا النحو من المعالجة ستبقى الأمة ترتطم في المشاكل وتزيد مشاكلها يوماً على يوم.
ومن يعمى عن رؤية الواقع، أو يصم عن سماع صوت الحق، أو يبكم عن قول الحق لا يكون مثله إلا كمثل القرود الثلاثة الذين قصد افتراسهم الدب، فوضع أحدهم يده على فمه حتى لا يقول كلمة يثير بها الدب أكثر فأكثر، ووضع الآخر يده على عينه حتى لا ينخلع قلبه من رؤية الدب، ووضع الآخر يده على أذنه حتى لا يسمع صوت الدب، حتى جاء الدب فافترسهم جميعاً بينما إذا صاح الأبكم فلعله كان يجد النجدة بسبب وحوش الغاب، ولو رأى الأعمى فلعله كان يتمكن من الهروب، ولو سمع الأصم فلعله كان يتسلق شجرة فينجو بنفسه عن الافتراس.
بؤرة المفاسد
أغلب المشاكل الفردية والاجتماعية في جميع أبعاد الحياة ناشئة عن الاستبداد، فإن العصمة خاصة بأناس ذكروا في آية التطهير بالنسبة إلى الأمة الإسلامية حيث كانت العصمة في أشخاص آخرين كالأنبياء السابقين ومن إليهم. أما في هذه الأمة فالعصمة خاصة بهم، أما غيرهم فالطريق الأقوم لحل المشكلات هي أكثرية الآراء في نطاق سعة النظرة للجماعة التي تقود جانباً من الحياة حكومة كانت أو حزباً أو جمعية أو غيرها، أما أن يتصور الإنسان مقياس الاستبداد فيما لو أبدى رأياً للرئيس فلم يأخذ به كان الرئيس مستبداً فهو سذاجة في فهم الحياة وهل الاستشارية الأخذ برأي كل فرد، وأن زعم الفرد أنه ناصح، وأن رأيه ناشئ عن المصلحة مائة في المائة، بل إن أي رئيس يأخذ برأي الفرد في غير نطاق الأكثرية الناشئة آراؤهم عن سعة النظرة هو رئيس غير قابل مضافاً إلى أنه هل يمكن الأخذ برأي هذا ورأي الآخر المناقض أو المضاد له؟
تمركز القدرة
ثم إن الكيفية النفسية التي يبنى عليها المجتمعات لا تظهر للعيان وإنما تعرف بآثارها، وهذا ما يعبر عنه في بعض العلوم بتحويل الكيفية إلى الكمية، فإذا أراد الإنسان أن يعرف مدى نظافة أمة أو قدر علمها أو سخائها أو دينها يرجع إلى الكمية الظاهرة التي هي من آثار الكيفية فيفحص عن قدر صرفها للماء والصابون وأدوات التنظيف أو عدد مدارسها وكمية كتبها ومكتباتها وجرائدها وسائر وسائل إعلامها وأُمور ثقافتها، أو قدر إنفاقاتها كالضيافات في المناسبات وما أشبه ذلك، أو عدد مساجدها ومحلات عبادتها والتزامها بسلوكياتها الدينية والأخلاقية وهكذا، وبهذا الميزان إذا أردنا أن نعرف حريات أمة ننظر إلى أنه هل الأمر بينها شورى في مختلف المراحل من شورى المرجعية مثلاً في البلاد الإسلامية إلى الشورى في سائر مرافقها الحيوية؟
وعن تعدد أحزابها الحرة وغير ذلك، فإنه إذا لم تكن شورى المراجع ولا الأحزاب الحرة لا بد وأن تتجمع القدرة في مركز واحد، وكما أن من طبيعة النار والماء والهواء الفساد والإفساد إذا لم تزمّ بأزمة ملائمة من الآلات والسدود والسقوف والأبنية ونحوها كذلك من طبيعة القدرة المتمركزة في مكان واحد، إنها تفسد بنفسها وتفسد الحياة بكل جوانبها فمن كان ذا أخلاق رفيعة واستقبال للناس وقيام بخدماتهم ونحوها لما لم يكن ذا منصب وقدرة تراه إذا تمركزت القدرة في يده تتغير أحواله إلى الأنانية وحب الذات والأثرة واغتنام ما تمكن من المال وترك الآخرين في البلاء هذا بالنسبة إلى إفساد القدرة المتمركزة لصاحبها.
أما بالنسبة إلى إفسادها المجتمع فلأن طريق التقدم وصول الكفاءات إلى المراكز العالية، والكفاءات لها آراؤها، والقدرة المتمركزة لا تريد إلا رأي نفسها والتسبيح بحمد صاحبها، ومن الواضح أنهما طرفاً نقيص ولذا تجمع القدرة المتمركزة حول نفسها الإمّعات والمصفقين، وتقضي على العقلاء وأصحاب الكفاءات وبذلك يأخذ الأمر في الانحطاط والسقوط.
مراحل تكوّن الدكتاتورية
من واقع التجارب التاريخية التي قرأ عنها الامام الشيرازي الراحل (قدس سره) ومن خلال معاصرته للكثير من تجارب الحكم في البلدان المسلمة، فان الديكتاتورية وحسب قراءته لواقع نشوئها وتكونها، لاتنشأ هكذا فجأة، بل تمر بمراحل عديدة يتحدث عنها الامام الراحل (قدس سره) بتعبيره قائلا:
إن الدكتاتورية وإن كانت مجبولة في نفوس غالب الأفراد، لكن الأكثر إن الإنسان تدريجياً يصبح مستبداً.
ولذا شاهدنا أناساً كانوا استشاريين فلما وصلوا إلى الحكم صاروا دكتاتوريين، ثم تضايقت حلقات الدكتاتورية إلى أن بلغت الأوج، وهكذا حال كل الصفات الرذيلة من التنعم والتلهي والترفه والانغماس في لذائذ الجنس وجمع المال وغير ذلك فإنها تدريجياً تنمو وتتصاعد، فإن الملكات في الإنسان خيرها وشريرهــا كالزرع ينمو تدريجياً حتى يُعطي الثمار البشعة أو الحسنة، حيث أن الكلمة طيبة أو خبيثة تنمو تدريجياً حتى تعطي الثمار، فمن اليوم الأول لا يكون الإنسان عادلاً كاملاً أو زاهداً كاملاً أو شجاعاً كاملاً أو كريماً كاملاً أو عالماً كاملاً، وإنما بالتدريج حتى يصل إلى القمة ولذلك ليس علاج الدكتاتور أن تقول له لا تصبح دكتاتوراً أو أن تعظه أو ما أشبه ذلك، فإن الشجرة إذا غرست نمت، شئنا أم أبينا، ولو هذبناها وشذبناها فلا يكون مانعاً عن أصل نمو الشجرة، وإنما علاج الدكتاتورية أن يكون في مقابل الدكتاتور قوة أخرى بحيث تكون تلك القوة مراقبة للدكتاتور حتى لا ينمو ومن هنا جاءت فلسفة تعدد الأحزاب والمنظمات والمؤسسات الدستورية مما ذكرنا تفصيله في كتاب (فقه السياسة) وغيره.
فالدكتاتورية كالسرطان ينشب بخلية حية، ثم ينمو وينمو حتى يأخذ جميع الجسم ويوجب له الهلاك.
ومن الواضح أن نهاية تضييق الحلقات في الدكتاتورية الانفجار، فإن الكبت يوجب الانفجار وإنما الفرق بين سرعة الانفجار وبطئه حسب المؤهلات الاجتماعية، فإنه عندما يحس الناس بان الإطار القانوني للنظام الاجتماعي يكبت قدرة الناس على تحقيق الامكانيات الكامنة في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السفر أو الإقامة أو إبداء الرأي أو غير ذلك، لا بد وأن يكون هناك عهد ثوري على الأبواب إن قريباً أو بعيداً ولا يكشف عن طابعه الثوري شيء أكثر عمقاً من الأزمة الأخلاقية التي يعانيها النظام ولا يوجب بقاء النظام جماعة من المتزلفين والمتملقين يحوطونه ويمتدحونه فإن هؤلاء ليسوا أكثر من فقاقيع.
فإن إحساس الناس بأن القيم الأخلاقية في اضمحلال وتطلعهم إلى نظام جديد ووجود جماعات صغيرة أو كبيرة تقف بمنأى عن الحركة المركزية للقوى الإجتماعية وتدعي أن الحق في جانبها.
مقارنة بين نظريتين
ويعقد الامام الشيرازي الراحل (قدس سره) مقارنة بين نظريتين سادتا الفكر السياسي الاسلامي، الأولى تقول، ان تعدد مراكز القوى داخل الدولة والحكومة فيه مفسدة كبيرة، لما يقود اليه ذلك التعدد من تنافس وصراع على المصالح والمغانم، وهو تنافس ضار في نتائجه ولا يمكن ان يخدم اي عملية سياسية داخل الدولة، وبالتالي فان الحكومة الفردية هي الاصلح لإدارة امور الدولة، ومن هنا نشأ لدينا مصطلح (المستبد العادل او المستنير)..
النظرية الثانية تقول، ان التفرد بادارة الدولة سيقود الى نشوء الديكتاتورية والاستبداد، وسيغلق المجال السياسي امام الاخرين، وهذا الاغلاق سيقود حتما الى تنافس وصراع اشد ضراوة بين من يمتلكون السلطة وادواتها وبين من لايمتلكون شيئا ويشعرون بقرارة انفسهم ان لديهم الحق في ادارة الدولة كما هو حق الاخرين، ولا يتأتى ذلك الا عبر فتح المجال للتعددية السياسية التي ابرز مصاديقها هي تعدد الاحزاب والسماح بتشكيلها..يقول الامام الشيرازي الراحل (قدس سره):
الذيـن يرفضون الأحـزاب الحرّة ماذا يفكرون حول البديل؟ هل يريدون بديلاً ديكتاتورياً؟ بالطبع ليس هناك بديل آخر للأحزاب الحرّة سوى الحكم الفردي الذي يؤدّي إلى الاستبداد.
وكلنا يتذكـر أبيات ابن هاني الأندلسي التي قالها في الحاكم بأمر الله:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار---فأحكم فأنت الواحد القهّار
وهذه هي لغة السلطة الفردية، فالسلطة تؤدّي إلى الطغيان وقد قال مونتسكيو أنّ السلطة مفسدة وقبله قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (من استبد برأيه هلك)(3). فالفردية تؤدي إلى عبادة الذات وإلى الاستبداد وهذا هو الطريق إلى الهلاك. فهل يريد أولئك الناس الذين يرفضون الأحزاب الحرّة هل يريدون الاستبداد حاكماً في بلادهم؟
أيهما أفضل (فأحكم فأنت الواحد القهّار) أو انتخاب الشعب للرئيس عبر مجالس نيابية؟
أيهما أفضـل أن يكون الرئيس رئيساً حتّى يوضع في قبره، أم أن يحكم كل أربع سنوات ثم ينتخبه الشعب إذا أحسن خلال هذه المدّة أو يرفضونه إذا تقاعس عن أداء واجباته وبرز من هو أفضل منه.
ماذا يريد هؤلاء، هل يريدون حاكماً يفعل ما يشاء، ولا يستطيع أحـد أن يقول له كلمة واحدة أم حاكماً يستطيع أن يحاسبه أبسط إنسان وحتى يسقطه إذا عجز عن أداء وظيفته؟.
لربما تعلّل الرافضون لفكرة الأحزاب الحرّة بعدم إمكانية تحقّق ذلك في الواقع العملي، فنجيبهم أننا شاهدنا تجارب كثيرة في بلاد عديدة من العالم، طبقت هذه النظرية ونجحت في التطبيق. فلماذا لا نسعى لتطبيقها فـي بلادنا الإسلاميـة، فهل هناك فرقٌ بين الإنسان المسلم والإنسان الغربي؟
بالعكس فإنّ أرضية الإنسان المسلم لتقبل فكرة الحرية أقوى بكثير من الإنسان الغربي لأن المسلم يمتلك ديناً يدعوه إلى الحرية، ويطلب منه التحرّك بينما الإنسان الغربي لا يمتلك هـذه الأرضية للفكرة، إذ الكنيسة هي قيد يقيّد الإنسان عن التفكير.
ولربّما تعلل بعض الرافضـين للفكـرة بصعوبات الوسائل المتاحة لتحقيق هذه الغاية.
فـي الجواب نقول أنّ الوسيلة الممكنة للوصول إلى الأحزاب الحرّة هي مـن أبسط الوسائل وهي نشر الوعي والثقافة عبر اللسان والقلم والوسائل السمعية والبصرية.
إذن لا مجال لمن ينكـر الشورى والحرية إلاّ أن يقرّ بالبديل الآخر وهو الفوضى والاستبداد.
فهل الاستبداد أفضل أم مجالس الشورى؟ فإذا قيل الأول فإن ذلك خلاف العقل والشرع، وإن قيل الثاني قلنا لماذا لا نسعى لتشكيله.
وإذا قيل لا سبيل لنا إلى ذلك ! قلنا السبيل هو الضغط الاجتماعي وتوجيه الرأي العام.
فالرأي العام يفرض علـى أفراد الأمّة أحاسيس مشتركة، ومن ثم مواقف مشتركة، فإذا تمكنا من التأثير في الرأي العام فإنّنا سنستطيع مـن إصلاح كل شيء، لأن كلّ شيء يسبح في هذا البحر المتلاطم المسمى بالرأي العام.
مـن هنا تبدأ مسؤولية الكتّاب في توجيه الرأي العام نحو الحقائق الإسلامية الناصعة ومنها رفض الاستبداد والأخذ بشورى المراجع.(4)
حرمة الاستبداد
ويمضي الامام الشيرازي الراحل (قدس سره) في تبيان مخاطر الاستبداد ومفاسده على المجتمعات الاسلامية، منطلقا في مقاربته عبر مسألة فقهية غاية في الاهمية، وهي حرمة الاستبداد، يقول (قدس سره):
الاستبداد حرام شرعاً، قبيح عقلاً، منبوذ عرفاً، معاقب عليه آخرة، وقد قال عليّ (عليه الصلاة والسلام): (من استبد برأيه هلك)(5)، والسر انّه يتدخل في كل شيء فيصرفه لصالح المستبد وجلاوزته فيخرجه عن طريقه الطبيعي، ولذا فهو مفسد لكل شيء.
وربما يتساءل الشخص: كيف يفسد الاستبداد العقيدة والطهارة والصَّلاة وأمثالها مما سنذكرها؟.
والجواب: إن السياسة تجبر الناس على تغيير عقائدهم ومحاكم التفتيش في العصور السابقة ومحاكم التفتيش في العصور الإسلامية الآن وإن لم يسموها بمحاكم التفتيش أدل دليل على ذلك، والطهارة مبنية على توفر الماء الحلال مثلاً والسياسة تحول دون توفر الماء لمنع الآبار والأنهر والقنوات وما أشبه، أو تجعل الماء حراماً باغتصابه من هذا وذاك، والصَّلاة تكون في الأراضي الغصبية التي أخذتها السلطة السياسية من ملاكها وباعته للناس، وكذلك بالنسبة إلى لباس المصلّي وغيره إلى غير ذلك، وقد كتب جماعة من العلماء كتباً حول الاستبداد ونحن نذكر جملة منها، فقد قالوا: لو كان الاستبداد رجلاً وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم وأُمي الإساءة، وأخي الغدر، وأُختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وابنتي البطالة، ووطني الخراب، وعشيرتي الجهالة.
وقالوا: المال يتدخل في كل شيء، فإن القوة مال والعقل مال والعلم مال والدين مال والثبات مال والجاه مال والجمال مال والاقتصاد مال، والحاصل أن كل ما ينتفع البشر بثمرتــه هو مال، وكل هذه الأسباب وثمراتها معرضة لإفساد الاستبداد ومجلبة فيه للوبال.
قالوا: إن الإنسان قد يكفر بنعمة مولاه بسبب الاستبداد لأنه لم يملكها حق الملك ليحمد عليها حق الحمد ويجعله حاقداً على قومه لأنهم عون الاستبداد عليه، وفاقداً وطنه لأنه غير آمن على الاستقرار ويود لو انتقل منه، وضعيف الحب لعائلته، لأنه ليس مطمئناً على دوام علاقته معها، ومختل الثقة في صداقة أحبابه لأنه يعلم أنهم مثله لا يملكون التكافؤ، وقد يضطرون لأضرار صديقهم وقتله وهم باكون.
وقالوا: المستبد يتحكم في شؤون الناس بإرادته لا بإرادتهم ويحكم بهواه لا بشريعتهم، ويعلم من نفسه أنه الغاصب المعتدي فيضع كعب رجله على أفواه الملايين من الناس يسدها عن النطق بالحق والتداعي.
وقالوا: العوام هم أُولئك الذين إذا جهلوا خافوا وإذا خافوا استسلموا.
وقالوا: الرعية العاقلة تقيد وحش الاستبداد بزمام الحزم والشورى لإبقائه في يدها لتأمن بطشه، فإن شمخ هزت به الزمام وإن صال ربطته.
وقالوا: المستبد يتجاوز الحد لأنه لا يرى حاجزاً، فلو رأى الظالم على جانب المظلوم سيفاً ما أقدم على الظلم، وكما قيل: الاستعداد للحرب يمنع الحرب، وقالوا: إن البلية فقدُ أُمةٍ الحرية. ولقد عرّف الحرية من عرّفها بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله، ومنها حرية التعليم وحرية الخطابة وحرية المطبوعات وحرية المباحثات العلمية وغيرها من الحريات، حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاصب مختال.
وقالوا: أنفع ما بلغه الترقي في البشر هو إحكامهم أُصول الحكومات المنتظمة بجعلهم قوة التأطير في يد الأُمة، وبجعلهم المحاكم تحاكم السلطان والصعلوك على حد سواء، وبجعلهم الأُمة يقظة ساهرة على مراقبة سير حكومتها ولا تغفل طرفة عين.
وهناك كلمات حكمية حول الاستبداد، منها: الاستبداد نفاد، ومنها: محاربة الاستبداد جهاد، ومنها: الاستبداد لا يقبل الاجتهاد، ومنها: مضادة الاستبداد سداد، ومنها: إزالة الاستبداد بحاجة إلى استعداد، ومنها: خلاف الاستبداد رشاد، ومنها المستبد ليس قابلاً للاعتماد، ومنها: من استبد أباد واستباد، ومنها بشّر المستبد بخزي ليس له نفاد، ومنها: المستبد يفر منه حتى الأهل والأولاد.
ونحن نذكر في هذه المسألة مائة من مضرات الاستبداد، عشرون بالنسبة إلى الدين والعقيدة، وعشرون بالنسبة إلى الأخلاق والآداب، وعشرون بالنسبة إلى الاقتصاد والمال، وعشرون بالنسبة إلى السياسة والإدارة، وعشرون بالنسبة إلى الاجتماع والمدينة.
أما بالنسبة إلى الدين والعبادة، فالاستبداد يفسد العقيدة، والطهارة، والصَّلاة، والصيام، والحج، والخمس، والزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والإرشاد، وتعميم القرآن والعمل به، والدعاء والمسجد، والورع، والتقليد، والتولي، والتبري، ورجل الدين، والزيارة والمزارات.
وأما بالنسبة إلى الأخلاق والآداب، فالاستبداد يفسد الصدق والأمانة، والوفاء والحياء، والمروءة، والصفا، واحترام الكبار، والعطف على الصغار، والاطمئنان، والآداب، كما أنه يفشي بين الناس الكذب، والنميمة والنفاق والبهتان، والإسراف، والتبذير، والكبر، والغرور، والخدعة، والمكر.
وأما بالنسبة إلى الاقتصاد والمال، فالاستبداد يفسد المعاملات والزراعة، والتجارة، داخلياً وخارجياً، والصناعة، والكسب، والعمل، والبنوك، والنشاط، والغنى، والاكتفاء الذاتي، والسوق والذخــائر المعدنية، وغيرها، والمعامل ويوجب التأميم الباطل، والبطالة، والرشوة، والرأسمالية المنحرفة، والشيوعية والاشتراكية.
وأما بالنسبة إلى السياسة والإدارة، فالاستبداد يوجب إفساد الرئاسة والوزارة، والسفارة، والإدارات، والمحافظات، وما دون المحافظات، والحزب والنظام، والمنطقة، والجمعية، والجماعة، والهيئة، والانتخابات، والمؤسسات الدستورية، والسلطة التنفيذية، والسلطة التأطيرية (التشريعية) والأمن، والحرية، واتحاد الطلبة، والشورى في كل مكان من القرية إلى المدينة، ومن المعمل الصغير إلى المعامل الكبيرة، ومــن المستوصفات إلى المستشفيات، ومن إدارة القطارات إلى المطارات، وإلى غيرها.
وأما إفساد الاستبداد للاجتماع والألفة، فإنه يوجب إفساد القضاء، والشهادة، والعائلة، والعقوبات، وحسن الجوار، والثقة بين الناس، والثقافة، والمدارس، والعمارة والنظافة، والشوارع والحدائق، والصحة والإعلام، والتزاور، والإذاعة، والتلفزيون، والصحف، والنوادي والزواج.(6)
وجوب التخلص من الاستبداد
للتخلص من الحكومات المستبدة والجائرة، يجعل الامام الشيرازي (قدس سره) ذلك من الواجبات على المسلمين:
الواجب على المسلمين المخلصين مقاومة الحكومات الجائرة، سواء أكانت إسلامية، فإنّ كل حكومة لا تعمل بأحكام الله سبحانه فهي جائرة، وإنْ كانت ديمقراطية حقيقة، فإنّ كل حكم ما عدا حكم الله سبحانه فهو جور ـ كما حقق في محله ـ والمقاومة سلبية تارة وإيجابية أخرى.
أما المقاومة الإيجابية، فهي أنْ يدخل الإنسان في الحكم لأجل الإحسان إلى المسلمين والحد من نشاط الجائرين، كما دخل يوسف (عليه السلام)، وعمران والد موسى (عليه السلام)، ومؤمن آل فرعون في أحكام الجائرين.
وكما دخل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام)، والحسنان وسلمان وأبو ذر، وعمار، في أحكام الثلاثة في الجملة.
وأما المقاومة السلبية فهي أظهر من أنْ تذكر، والقرآن والسنة المطهرة والتواريخ المدونة تزخر بذلك، ومقاومة علي (عليه السلام)، وفاطمة (عليها السلام) والحسنان لغاصبي الخلافة شيء معروف، كما أنّ من الواضح مقاومة الحسين (عليه السلام) ليزيد، ومقاومة بقية الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) لملوك بني أمية وبني العباس، كما قاومهم من أولاد الأئمة (عليهم السلام) وأوليائهم، المختار والتوابين، وزيد بن علي بن الحسين، ويحيى بن زيد، وعيسى، والحسين صاحب فخ، ويحيى بن عبد الله، ومحمد بن إبراهيم وغيرهم، ممن يجدهم المتتبع في التواريخ، أمثال مقاتل الطالبيين وغيره.(7)