شهر رمضان فرصة لتثبيت العقائد
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2023-04-03 06:38
(بالفطرة توصَّل الإنسان إلى معرفة صفات الخالق) الإمام الشيرازي
كل إنسان يحتاج إلى الفكر الصحيح لكي ينظّم حياته، وعلاقاته المختلفة مع الناس، فهو لا يعيش وحيدا في هذا العالم، ولا يمكن للإنسان أن يعزل نفسه عن المجتمع، فالمصالح المتبادَلة بين الناس أجبرتهم على تبادل الخدمات المختلفة، فالطبيب يعالج الناس، لكنه يحتاج إلى أساتذة ومعلمين لتعليم أبنائه، والمعلم يحتاج إلى الطبيب لكي يتعالج عنده هو وعائلته، وهكذا بالنسبة للخدمات الأخرى التي يتبادلها الناس فيما بينهم.
فكل حركة في المجتمع لها نتائج وقبل النتائج يجب أن يكون لها تمهيد، ومجموع تحركان الإنسان في الوسط الاجتماعي تحتاج إلى تنظيم من حيث حدود المسموح به، وغير المقبول في حالة تجاوزه على حقوق وحدود الآخرين.
وقد وضع الإسلام مجموعة أفكار وأحكام وعقائد لكل المسلمين، بل لكل البشر، لكي تنظّم حياتهم ومصالحهم وتحرّكاتهم وعلاقاتهم المختلفة ضمن حدود (الحقوق والواجبات)، ليس في الدنيا فقط، وإنما تسعى العقائد إلى ضمان النتيجة المقبولة للإنسان في قضية العواقب، أو ما يسمى بـ (حسن العاقبة)، فكل إنسان يحتاج إلى هذه النتيجة لكي يضمن سعادة الدنيا والآخرة أيضا، وهذا بطبيعة الحال هو نتيجة لأعمال الإنسان وتحركاته وعلاقاته التي يجب أن تستند إلى فطرته لكي يضمن صحة عقائده وأفكاره الصحيحة.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يذكر في كتابه القيّم الموسوم بـ ( شهر رمضان شهر البناء والتقدم) بأنَّ:
(الفطرة البشرية هي منبع العقيدة الصحيحة، فالإنسان يقرّ بوجود الخالق بالفطرة. وبالفطرة عرف الإنسان انّ الله واحد لترابط أجزاء هذا الكون فـ (لو كانَ فيهما آلهةٌ إلاّ اللهُ لَفسدَتا…).
إن فطرة الإنسان تدله على ما هو صحيح، وهي التي تقوده إلى معرفة الصفات الإلهية، ومنها العدل الذي يشكل إحدى الصفات العظيمة لله تعالى، وقد حسمت فطرة الإنسان هذا الأمر لأن العدل والجهل يتناقضان، فكلما كان الإنسان أكثر جهلا، كان أكثر ظلما للآخرين، وعلى العكس إذا كان فاهما وعارفا وعالِما فإنه يكون أقرب إلى السلوك والتصرف العادل.
العقيدة الصحيحة بوصلة الصواب
وطالما أن عدم العدل ينبع من الجهل، أو الحاجة الإنسان، أو الخبث، فإن هذه الصفات بعيدة عن الذات الإلهية، كونها أقرب إلى الخير والحق والعدل، وبهذا تحسم الفطرة أمرها فيما يخص المعرفة بالله تعالى، وتكون العقيدة صحيحة عند الإنسان، وتُدعَم في أجواء هذا الشهر الكريم، وتنمو عند الناس، خصوصا أولئك الصائمون الملتزمون الذاهبون وراء الفطرة كبوصلة يستدلون بها على ما أقرب للصواب والسداد.
يقول الإمام الشيرازي:
(بالفطرة توصّل الإنسان إلى معرفة صفات الخالق، فعرف انه عادل لأن عدم العدل اما نابع من الجهل أو الحاجة أو الخبث، وكل ذلك يتنافى مع الصفات الاخرى للخالق).
ولابد للإنسان أن يعرف ويؤمن بأن الذات الإلهية منزّهة تماما من الخبث، والجهل والحاجة، كما أنه تعالى عالم بكل شيء، لذلك لا وجود للحاجة والخبث في كينونته، وهذا ما تؤكده فطرة الناس، حين يلتجئون إليه تعالى لقضاء احتياجاتهم المستعصية أو صعبة التحقيق على بني البشر، فيستنجد الناس بالله تعالى لقضائها.
ولا يمكن أن تتساوى صفات الخالق بالمخلوق، لأنه الأعلم والأغنى من كل شيء، وهذا ما ترشد به الفطرة صاحبها، وتدفعه نحو التسليم والإيمان التام، عبر تدعيم العقائد في هذا الشهر الكريم.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن الله تعالى منزّه عن الصفات التي يتّصف بها المخلوق من خبث وجهل واحتياج فهو غني عن كل شيء، وهو عالمٌ بكل شيء، وعلمه وغناه ينفيان عنه الجهل والحاجة والخبث).
كذلك من القضايا المسلّم بها فطريا، عدالة الخالق في تعامله من المخلوق، وهذا ما يدركه الإنسان بفطرته، فهناك عدالة إلهية، تتعامل مع ما ينتج عن الإنسان من مخرجات جيدة أو رديئة، وفي ضوئها يمكن أن يحصل على الثواب أو يواجَه بالعقاب، والناس مؤمنون بهذه العدالة فطريا، وعقائديا أيضا.
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(بالفطرة يعرف الإنسان ان مقتضيات عدل الخالق أن وضع حساباً لهذا الكون، فكان لابدّ من إثابة المحسن بالإحسان ومعاقبة المسيء لإساءته).
يُهمِل ولا يُمهِل
من المشاكل التي تنتج عن ضعف العقيدة، وقلة الاعتماد على الفطرة، تلك التساؤلات التي يسوقها الكثير من الناس علنا بصوت عال، أو بينه وبين نفسه، حيث يسأل هؤلاء لماذا لا يعاقب الله المجرمين الظالمين؟
وبعضهم ربما يغادرون هذه الدنيا ولا ينالون العقاب على تجاوزاتهم وظلمهم وجرائمهم، لكن هنالك يوم الحساب ويوم القيامة، حيث لا مفر من مواجهة العقاب إذا كان الإنسان من المجرمين والظالمين، وكثيرا ما نسمع المظلومين وهم يرددون (يُمهِل ولا يُهمل)، أي أن الله تعالى قد يؤجل الحساب لكنه (الحساب) قادم لا ريب.
(ينظر الإنسان فيرى المجرمين كيف يطول بهم المقام في هذا الحياة؟، وكيف يعيشون على جرائمهم؟ بل يزدادون إجراماً، وانهم يموتون دون ان ينالوا العقاب العادل) كما في قول الإمام الشيرازي.
من جهة أخرى يتساءل الناس لماذا لا ينال المحسنون ثوابهم وهم أحياء في هذه الدنيا، لكنهم بسبب صحة العقائد التي يؤمنون بها ويطورونها في هذا الشهر الكريم، يعرفون أن هناك حياة أخرى (الآخرة)، حيث يتم عرض الإنسان أمام نفسه، وتتم محاسبته على جميع أعماله صغيرها وكبيرها، وحين يكون من أهل الخير وصنّاعه، عندئذ ينال الثواب أو الذي يستحقه في مقابل أعمال الخير التي قدمها في دنياه للآخرين.
الإمام الشيرازي يقول عن هذه النقطة:
(وبالعكس يرى المحسنين كيف يرحلون عن الدنيا دون ان ينالوا جزاء احسانهم، وهنا توصلهم النظرة الثاقبة إلى ضرورة وجود حياة اخرى غير هذا الحياة التي نحياها وسيكون العقاب والثواب في انتظار اصحاب الأعمال في الدنيا في الخير أو الشر وبذلك يثبت المعاد).
هكذا يميل الإنسان إلى فطرته، ويحتمي بها، فتدفع به نحو فهم العقائد الصحيحة، واصول الدين التي تنبع أصلا من فطرة الإنسان، وبهذا التمازج ما بين الفطرة والعقائد يصبح الإنسان أقوى من حيث التقوى والإيمان وثبات العقيدة التي تتجسد في شهر رمضان بأروع صورها، حيث يكون هذا الشهر مناسبا جدا لجعل الفطرة والعقيدة أكثر رصانة وتماسكا في أعماق الإنسان.
يقول الإمام الشيرازي:
(هذه باختصار هي العقيدة الإسلامية. وهذه هي أصول الدين والتي منبعها الفطرة البشرية (فِطرتَ اللهِ الّتي فَطَرَ الناسَ عليها).
الخلاصة، ونحن نعيش أيام سهر رمضان المبارك، لابد لنا من اغتنام هذه الأوقات لكي نصحح عقائدنا، ونحمي أفكارنا الصحيحة من الاختراقات التي تتوجه إليها بألف طريقة وطريقة في عالم اليوم، لا سيما أننا نعيش في عصر (انفلات الثقافات) وتدفقها من جميع الجهات، دون حدود ولا ضوابط، فالكل مستهدَف بهذه الثقافات، والكل عليه الحذر من هذا الاستهداف، وهذا يمكن أن يتم عبر تعضيد العقائد وحمايتها، وليس هناك وقت أنسب من شهر رمضان لإنجاز هذا الهدف الكبير.