النميمة: كلمة تحرق صاحبها
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2022-01-26 06:43
ومن هو النمّام؟.
انه رجل منفرد، خبيث، يرتعد المجتمع من ظلّه.. انه الذي يحكي كلام هذا لذاك، ليلقي الفتنة بينهم.. فإذا رآك، قال: تكلم فلان فيك بالسوء.. واذا رأى صديقك، قال: تكلمت أنت فيه بالسوء، وهلمّ جرّا.
إنّه كالحنظل، يفسد صداقة حلوة، ويلقي الفتن بين الأحبة من حيث يشعر أو لا يشعر.. وربما كان النمام لاشعوريّاً، بل ربما يكون ناصحاً ـ بنظر نفسه ـ لكنه يفسد بالنتيجة.
ثم.. لنأتي نحاسب النمام على مقالته: لم ينم؟
إلاّ أنّه يريد تحطيم المنقول عنه؟ فما أجدر بك أن لا تسمع إلى كلامه.
أم لأنه يريد الفرقة بينك وبين صديقك؟ فالمفرق يجتنب، لا أنّه يقترب.
أم لأنّه ناصح لك في أن تتجافى عن المنقول عنه؟ وهل الناصح يفرق، أم يجمع؟.
إنّه أضر من الدابة التي تحمل النفايات، ثم تلقيها عليك، فإن الماء يغسل مواضع اللطخ من الجسم أما القلوب إذا تنافرت، فلا يغسلها ألف ماء وماء.
ولذا ترى الإسلام يحذّر من النّمام، ويحرّم النميمة بكل شدّة فانظر إلى الشدة التي انطوت عليها هذه الآية الكريمة: (همّاز مشّاء بنميم مناع للخير معتد أثيم عتلّ بعد ذلك زنيم)(1).
وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يدخل الجنة قتّات)(2)، وهو النمام.
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (لا يدخل الجنّة نمّام)(3).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (من أشار عــلـــى مسلـــم كلمة ليشينـــه بها في الدنيا بغير حق، شانه الله في النار يوم القيامة)(4).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أحبّكم إلى الله: أحسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وأنّ أبغضكم إلى الله: المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة، الملتمسون للبراء العثرات)(5).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (ألا أخبركم بشراركم؟
قالوا: بلى، يا رسول الله..
قال (صلى الله عليه وآله وسلم): المشاؤون بالنميمة، المفرقون بين الأحبة الباغون للبراء العيب)(6).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (أيما رجل أشاع على رجل كلمة، وهو منها بريء ليشينه بها في الدنيا، كان حقّاً على الله: أن يدينه بها يوم القيامة في النار)(7).
وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّ الله لما خلق الجنة، قال لها: تكلّمي، قالت: سعد من دخلني... قال الجبار جل جلاله: وعزتي وجلالي لا يسكن فيك ثمانية نفر من الناس:
لا يسكنك مدمن خمر، ولا مصرّ على الزنا، ولاقتّات (وهو النمّام) ولا ديوث، ولا شرطي، ولا مخنّث، ولا قاطع رحم، ولا الذي يقول: عليّ عهد الله أن أفعل كذا وكذا... ثم لم يف به)(8).
وقال الإمام الباقر (عليه السلام): (الجنة محرمة على المغتابين، والمشّائين بالنميمة)(9).
وانظر إلى هذا الحديث، وكم ترى حظه من المجتمعات اليوم.
قال (عليه السلام): (ويحشر العبد يوم القيامة، وما ندا دماً (أي ما سفك دماً) فيدفع إليه شبه المحجمة، أو فوق ذلك، فيقال له: هذا سهمك من دم فلان.. فيقول: يا رب، إنّك لتعلم أنّك قبضتني وما سفكت دماً، فيقول: بلى، سمعت من فلان رواية كذا وكذا، فرويتها عليه، فنقلت حتى صارت إلى فلان الجبار، فقتله عليها، وهذا سهمك من دمه)(10).
إنّ المسلمين مذ حين وقعوا في مخالب الغرب، وضاعت قيم الإسلام عندهم وصاروا من مصاديق هذه الآية الكريمة: (قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذاباً من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض...)(11).
تراهم.. شيعاً وأحزاباً، وأعداءً ومناوئين، يهجم بعضهم على بعض، ويسعى بعضهم على بعض، فشاعت فيهم الجواسيس من أنفسهم، وكثرت فيهم السعاية والنميمة.. وكثير من السجون يرتادها أُناس سعي بهم، كما أنّ بعض المقتولين بأيادي السلطات، إنّما وشي بهم.
وقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): (الساعي بالناس إلى الناس لغير رشده)(12) أي ليس بولد حلال.
ثم بعد ذلك.. هل صلحت دنياهم؟.
كلا! بل بالعكس: امتلأت السجون، وظهرت الفرقة والعداء وطاردت السلطات الشعوب، وقلت الشعوب السلطات، وبالنتيجة قامت ثورات وانتفاضات أطاحت بالحكومات، وأراقت دماء وتربصت بما بقي منها الدوائر...
ان الدنيا بغير الإسلام لا تصلح، والشعوب في غير ظل الإسلام لا تستريح والسلطات بغير مناهج الإسلام لا تتمكن من ترفيه العيش لنفسها ولسائر أُممها، حتى ترى وترى... حتى يأذن الله بقيام الإسلام على ساق ـ من جديد ـ
(اللهم إنا نرغب إليك، في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام وأهله، وتذلّ بها النفاق وأهله، وتجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك، وترزقنا بها كرامة الدنيا والآخرة): (من دعاء الافتتاح).
وقال الإمام الصادق (عليه السلام): (من روى رواية على مؤمن، يريد بها شينه وهدم مروءته، ليسقط من أعين الناس، أخرجه الله من ولايته إلى ولاية الشيطان، ولا يقبله الشيطان!!)(13).
وروى ابن الفضل، عن الإمام الكاظم (عليه السلام)، أنّه قال له: (جعلت فداك، الرجل من إخواني يبلغني عنه الشيء الذي أكرهه! فأسأله عنه؟ فينكر ذلك؟ وقد أخبرني عنه قوم ثقات، فقال (عليه السلام): يا محمد، كذب سمعك وبصرك عن أخيك، فإن شهد عندك خمسون قسّامة. فقال لك قولاً، فصدقه وكذبهم! ولا تذيعن عليه شيئاً تشينه به، وتهدم مروءته، فتكون من الذين قال الله: (إنّ الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم...)(14) (15).
المراد بخمسين قسّامة: خمسون رجلاً يشهدون على شيء، ثم يحلف كل واحد منهم على طبق شهادته، هذا إن كانت القسامة ـ في لفظ الحديث ـ بدلاً عن الخمسين.. أما إن كان بالإضافة فهي ألفان وخمسمائة رجل يشهدون ويحلفون!! ان القسامة خمسون، فخمسون قسامة: ألفان وخمسمائة.
فيكون من سفه الكلام، حتى أنّ هذا العدد الضخم، لا يعتني بقوله، قبال قول المشهود عليه.
وكيف يمكن ذلك؟!
ألم يعتبر الإسلام شاهدين لإثبات الحقوق ـ غالباً ـ؟
والجواب:
إنّ هناك مقامين:
ا ـ مقام الشهادة، وفيها يعتبر شاهدان، كما ذكر.
ب ـ مقام ترتيب الآثار على أقوال الناس، في غير مقام الشهادة والحقوق فمثلاً: لو قيل لك: فلان كاذب.. أو يغش.. أو أكل أموال الناس بالباطل، فلا يعتني بأقوال هؤلاء إلا في مقام الشهادة والحقوق، فالصفاء الإسلامي لا يكدره أقوال عابرة، وإن تراكمت إلى حدّ القسّامة.
نعم.. المؤمن كيس يقدر اُموره حتى لا يقع في مهوى أو يسقط في مغرٍ.. فعليه أن يتحرّى في اُموره، فلا يعتمد على من تلوكه الألسنة، بالسوء، ولا يسلّطه على مال أو عرض أو أمر.
وهذا أمر ثالث غير المقالين السابقين.
فإذا سمعت إنّ فلاناً شارب الخمر.. لا تقطع صلتك عنه لأقوال الناس... أما إنّه إذا خطب كريمتك، فلا تعطه حتى تتحقق.
كما قال الإمام الصادق (عليه السلام) لولده إسماعيل، في القصة المشهورة...
وعلاج النمام ما صنعه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) بمن نمّ إليه: فقد روي: (أنّ رجلاً أتى أمير المؤمنين (عليه السلام) يسعى إليه برجل، فقال (عليه السلام): يا هذا، نحن نسأل عمّن قلت، فإن كنت صادقاً مقتناك، وإن كنت كاذباً عاقبناك، وإن شئت أن نقيلك أقلناك.
قال: أقلني يا أمير المؤمنين)(16).
والنميمة من الفساد الذي نهى الله عنه، فقال: (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)(17).