الإمام زين العابدين (ع) قدوة الصالحين
مقتبس من كتاب
المرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي
2021-03-18 05:06
عاش الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في كنف ثلاثة من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) يعني أمير المؤمنين علي (عليه السلام) والإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) والإمام الحسين (عليه السلام) وتربى في حجرهم تربية صالحة تليق بشأن الإمامة.
فقد روي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: «ولد علي بن الحسين في سنة ثمان وثلاثين من الهجرة قبل وفاة علي بن أبي طالب بسنتين وأقام مع أمير المؤمنين سنتين ومع أبي محمد الحسن عشر سنين وأقام مع أبي عبد الله الحسين عشر سنين وكان عمره سبعا وخمسين سنة»(1).
خير قدوة للصالحين
كان الإمام (عليه السلام) مثالاً للتقوى والزهد والعبودية لله عزوجل، وكان من كثرة سجوده وعبادته أن لقب بالسجاد وزين العابدين(2).
كما كان (عليه السلام) ملاذاً للضعفاء والمساكين.. ونموذجاً في خدمة العباد.. ومدرسة في الدعاء والمناجاة.. ودليلاً في العفو والكرم.. والجهاد في سبيل الله.. والزهد والعبادة.. والترحم على الأيتام.. وحب الناس.. وقضاء حوائج المحتاجين.
وكان (عليه السلام) قمة في مكارم الأخلاق مما اعترف بذلك الخاص والعام والعدو والصديق.
وقد كانت آثار الجلال والعظمة واضحة في وجهه النوراني من صغر سنه وقد قال في حقه رسول الله (صلى الله عليه وآله) قبل ولادته، على ما رواه ابن عباس:
«إذا كان يوم القيامة ينادي منادٍ أين زين العابدين؟ فكأني أنظر إلى ولدي علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب يخطر بين الصفوف»(3).
وقد أوصى بإمامته والده الإمام الحسين (عليه السلام) على ما عينه نبي الإسلام من قبل الله تعالى(4)، ليكون الإمام الرابع على المسلمين وحجة الله على الخلق أجمعين.
قطرة من البحر
يقول أحد الشعراء(5) ما مضمونه:
إذا لم يمكن شرب ماء البحر، فعليه تذوق بعض القطرات منه لرفع العطش.
فإذا أردنا التحدث عن شخصية الإمام السجاد (عليه السلام) وبيان مقامه الرفيع أو أي واحد من الأئمة المعصومين (عليهم السلام) بشكل كامل فإنه لا يمكننا ذلك، لأنهم البحر الواسع والعميق الذي لا ينال أحد أطرافه، بل منتهى ما يمكن هو إلقاء نظرة عابرة على بعض سواحله فقط.. وأخذ بعض القطرات من جوده فحسب.
وقد قال أحد الشعراء في وصفه لأحد الأئمة (عليهم السلام):
هو البحر من أي النواحي أتيته-----فلّجته المعروف والجود ساحله
في ظروف القهر والاستبداد
الإمام علي بن الحسين زين العابدين(عليه السلام)، عهد إليه إمامة الأمة وهداية وإرشاد المجتمع الإسلامي بعد شهادة أبيه الإمام الحسين بن علي(عليه السلام) وكافة إخوته وأقربائه في واقعة كربلاء الأليمة.
فكان هو الابن الوحيد الذي بقى لأبيه الإمام الحسين (عليه السلام)، وقد تقلد منصب الإمامة في زمن كان أكثر الشيعة في أقبية السجون أو قد استشهدوا، وكان الناس لا يملكون الجرأة على الاعتراض والانتقاد ضد ما يرونه من الظلم والاستبداد ومخالفة الشرع المبين من قبل بني أمية مصاصي الدماء الذين استولوا على الحكم بالقهر والإرهاب.
وإذا ما تكلم شخص بكلمة معترضاً على الظلمة والمعتدين، فيعد مخالفاً لله وخليفة رسوله (صلى الله عليه وآله)! فيوضع تحت الملاحقة والسجن والتعذيب ويتم تصفيته بكل سهولة.
لقد أراد بنو أمية القضاء على الإسلام وعلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) وذريته النجباء، فقتلوا جميع أولاد النبي (صلى الله عليه وآله) في واقعة عاشوراء الدامية، ولم يبق منهم سوى أحد أبناء الإمام الحسن(6) وأحد أبناء الإمام الحسين (عليه السلام) وهو الإمام السجاد (عليه السلام) وذلك بمعجزة من الله عزوجل.
وكان هذا بأمر من معاوية وسياسته والذي سعى جاداً في دفن اسم نبي الإسلام (صلى الله عليه وآله) إلى الأبد ومحوه من الأذهان، كما ورد في التاريخ انه لما سمع صوت المؤذن وهو يقول: «أشهد أن محمداً رسول الله» قال: دفناً دفناً (7).
ومن هنا يعلم مدى أهمية قيادة الإمام السجاد (عليه السلام) للأمة والمجتمع الإسلامي في تلك الفترة المظلمة والحساسة من حكومة بني أمية.
والذي يمكن القول وبجرأة إنه لولا إرشادات الإمام السجاد (عليه السلام) الدقيقة في مختلف ميادين الحياة والتي جاءت في قالب الدعاء والمناجاة وكانت في محلها تماماً، لم يبق من الإسلام إلا اسمه ورسمه، ولحُرِفَ مثلما حُرِفَ دين اليهود والنصارى، ولرأت الأجيال القادمة الإسلام من خلال أقوال وأفعال الذين سيطروا على الخلافة الإسلامية من دون استحقاق، ومن خلال المسلمين الذين لايفكرون إلا في مصالحهم الشخصية، ومن خلال علماء السوء ووعاظ السلاطين.
نعم مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) بما فيهم الإمام السجاد (عليه السلام) حفظت القرآن والإسلام وذكر النبي (صلى الله عليه وآله) وشريعته إلى يومنا هذا غضاً طرياً كما أراده الله عزوجل لسعادة البشرية جمعاء في الدنيا والآخرة.
النهضة الثقافية والعاطفية
اتخذ الإمام زين العابدين (عليه السلام) بعد شهادة أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) في فاجعة كربلاء أسلوب (الجهاد الهادئ) ضد الظلم والطغيان، والجهل والكبت.
وقد كان لهذا الأسلوب الحكيم في تلك الظروف الحرجة آثاراً مباركة كثيرة، منها النهضة الثقافية والعاطفية في سبيل توعية الأمة.
فزين العابدين (عليه السلام) سعى جاهداً، سواء كان في ساحة كربلاء، أو الكوفة، أو في طريقه إلى الشام، وفي الشام نفسها أيضاً إلى جذب عواطف الناس وإحياء ضمائرهم لمعرفة ما جرى من ظلامة على أهل بيت الرسالة (عليه السلام) الذين يمثلون الإسلام من قبل طغاة بني أمية الذين يدعون الإسلام كذباً وزوراً، وذلك عن طريق:
أولا: النهضة الفكرية والثقافية: حيث وجه الإمام (عليه السلام) أنظار الناس إلى الهدف السامي الذي قام من أجله أبوه الإمام الحسين (عليه السلام) وضحى بنفسه وأولاده وأهل بيته وأصحابه الكرام في سبيله، وهو إحياء الإسلام، والوقوف أمام المؤامرات التي أرادت القضاء على الإسلام، وأن يعيش الإنسان حراً كما خلقه الله، من دون أن يستسلم للظلم والاستبداد ولا يخنع للجور والطغيان، وأن لا تكون أزمة الأمور ومصير الشعوب بيد حاكم ظالم مستبد.
وفي الواقع إن الإمام الحسين سيد الشهداء (عليه السلام) لم يكن مخالفاً ليزيد بن معاوية فقط بل كان مخالفاً لجميع الظلمة الفاسدون والمفسدون في كل زمان ومكان، كما أراد للإنسان بما هو إنسان أن يعيش سعيداً حراً، في أي زمان ومكان، سواء كان مؤمناً أم كافراً.
قال الإمام الحسين (عليه السلام): «ويحكم.. إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في دنياكم»(8).
وقال (عليه السلام): «إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي (صلى الله عليه وآله) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب(عليه السلام)»(9).
وقال: «إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برما»(10).
نعم إن من يريد الخلاص من الذل والعبودية، ومن أراد العزة والسعادة، فعليه أن يتعلم من مدرسة أبي الأحرار الحسين بن علي (عليه السلام) درس الشهامة والشجاعة، وسمو النفس وعزة الروح، والاستقلال الفكري وعدم العبودية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإصلاح المجتمع وإنقاذ الإنسان، وأخيراً الجهاد في سبيل الله وفي سبيل الإنسانية ضد الظلم والطغيان.
إن المتتبع في صفحات التاريخ يرى بوضوح آثار نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) المباركة، فكم من الحركات الإصلاحية والمنادية بالحرية التي نبعت من هذه النهضة المقدسة وتعلمت منها درس المقاومة والفداء، وذلك منذ يوم عاشوراء عام 60 هجرية وإلى يومنا هذا وستسمر المسيرة إلى أي يوم يوجد هناك سطوة ظالم وصرخة مظلوم في الأرض.
وقد حكي عن غاندي أنه قال: تعلمت من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر.
ثانياً: النهضة العاطفية: فبالقدر الذي كان قيام سيد الشهداء (عليه السلام) مؤثراً في إحياء الإسلام والقرآن الكريم.. كذلك فإن استمرار وبقاء تلك النهضة له نفس التأثير في استمرارية المفاهيم الإسلامية وشريعتها، وربما كانت أهمية العلة المبقية أكثر من العلة المحدثة على اصطلاح الحكماء ، فإذا لم تكن عملية استمرار النهضة المقدسة للإمام الحسين(عليه السلام)، فان تلك النهضة سوف تحجم وتحد بزمانها وتنسى وربما تحرف وتغير عن واقعها الموجود عبر الإعلام المزيف والكاذب، حالها حال الكثير من النهضات والحركات الأخرى، ولكن عملية استمرار النهضة جعلتها حية وخالدة في كل عصر وزمان بكل تفاصيلها وأحداثها.
والنهضة العاطفية التي تحيي فطرة الناس هي من أهم أسباب حفظ واقعة عاشوراء على مر التاريخ، ومن هنا يعرف فلسفة البكاء والعزاء على الإمام الحسين (عليه السلام).
فإن إقامة المجالس وموكب العزاء على سيد الشهداء (عليه السلام) وإحياء الشعائر الحسينية بكل أقسامها وأنواعها المتعارفة، تجعل من هذه النهضة غضة طرية كأنها وقعت اليوم، وتبين أهدافها الإنسانية للبشرية بأجمعها وتدعو المجتمعات الإنسانية للاستجابة إلى نداء الفطرة في كافة الأزمنة باتباع أفكار ونهج سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) والسير على خطاه ضد الظلم والطغيان.
من أسرار بقاء نهضة عاشوراء
وقد كان للإمام زين العابدين(عليه السلام) دور أساسي في حفظ نهضة عاشوراء واستمرارية مدرسة كربلاء المقدسة إلى يومنا هذا.
حيث أدى الإمام السجاد (عليه السلام) كل ما بوسعه لإحياء ظلامة أبيه الحسين (عليه السلام) حتى استمرت قضية عاشوراء والنهضة الحسينية المباركة إلى يومنا هذا، بل وستستمر إلى يوم القيامة بإذن الله تعالى.
فقد سعى الإمام زين العابدين (عليه السلام) دائماً إلى تشكيل مجالس الحزن والعزاء على شهداء كربلاء وبيان ما جرى فيها من الظلم والجور..
فكان ببصيرته الثاقبة كلما نظر إلى عماته وأخواته شرع بالبكاء عالياً.
وإذا ما سقط نظره (عليه السلام) على طفل رضيع جرت دموعه على خديه.
وإذا ما شاهدت عينيه رأسا مقطوعاً حتى إذا كان لحيوان، أو عند ما كان يريد الجزار ذبح شاة، فإنه (عليه السلام) كان يتأثر بشدة، فقد مر(عليه السلام) ذات يوم في سوق المدينة على جزار بيده شاه يجرها إلى الذبح، فناداه الإمام: يا هذا هل سقيتها الماء؟ فقال الجزار: نعم نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء، فبكى الإمام(عليه السلام) وصاح:
وا لهفاه عليك أبا عبد الله، الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله تذبح عطشاناً.
لم يذبح الكبش حتى يورى من ظمأ------ويذبح ابن رسول الله ظمآناً
وإذا ما قدموا له طعاماً أو ماءً، تحسر وتأوه حتى يمزج ذلك بدموع عينيه.
يقول أحد مواليه: «كان الإمام السجاد (عليه السلام) صائماً، وعند الإفطار قدمت له مقداراً من الخبز والماء، ولكنه ما أن نظر إلى الماء، بكى عالياً، قلت: يا بن رسول الله، اشرب الماء.
قال (عليه السلام): كيف أشرب الماء وقد قُتل ابن رسول الله عطشاناً.
قلت: يا بن رسول الله كل طعامك!
قال (عليه السلام): كيف آكل طعامي وقد قتل ابن رسول الله جوعاناً»(11).
نعم إن البكاء مدرسة حضارية، استخدمها الإمام زين العابدين (عليه السلام) لفضح الظلم والطغيان مضافاً إلى الأساليب الأخرى كأسلوب الدعاء وإلقاء الخطب وبيان الأحاديث وتنظيم الكوادر الواعية وما أشبه مما هو مذكور في تاريخ الإمام (عليه السلام).
إن الله عزوجل فطر الناس على حب المظلوم ونصرته، وسلاح الظلامة أقوى وأمضى سلاح على الظالم المعتدي، ومن هنا فإن الإمام زين العابدين(عليه السلام) بعد فاجعة كربلاء جعل من ظلامة أهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام) شعاراً لفضح وطعن أعداء الحق وأنصار الباطل.
فكان (عليه السلام) وفي كل المناسبات يذكر مصيبة أبيه وأخوته وأصحابهم (عليهم السلام)، وكذلك مسألة الأسر وهتك حرمة بنات رسول الله(صلى الله عليه وآله)، فكان يندب ويذرف الدموع ويقرأ عزاءهم.
وقد روي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: «بكى علي بن الحسين عشرين سنة وما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال مولى له: جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف أن تكون من الهالكين!
قال: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله
ما لا تعلمون)(12)، إني لم أذكر مصرع بني فاطمة إلا خنقتني العبرة.
وفي رواية قال الراوي: أما آن لحزنك أن ينقضي؟
فقال له: ويحك أن يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر ابناً فغيب الله واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه واحدودب ظهره من الغم وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني»(13).
وهكذا استطاع الإمام زين العابدين (عليه السلام) من إيجاد حركة عاطفية دائمة في أوساط الناس وواقعهم الخارجي، حتى تبقى على إثرها نهضة الإمام الحسين (عليه السلام) وأهدافه المقدسة حية وخالدة دائماً.
التربية والتعليم
كان أحد أهداف بني أمية هو محو وطمس حقيقة الإسلام وآثار النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقد صرف معاوية بن أبي سفيان أموالاً طائلة للسيطرة على الحكم الإسلامي والأمة الإسلامية ومحاربة الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وشيعته، كان معاوية يريد أن لا يبقى من الإسلام إلا الاسم الظاهري، وذلك ضمن الإطار الذي يخدم سلطته وملكه واستمرارية ذلك في عائلته.
وقد أقسم مراراً بأن يطمس ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ويدفن اسمه الشريف(14)، ويقتل ذريته ويجعلهم نسياً منسياً.
وقد سار يزيد بن معاوية على تحقيق هذا الهدف أيضاً وتمكن لحد كبير أن يقلب بعض المعادلات ويعكس الوجه الحقيقي للإسلام، وينشر الفساد والإفساد في المجتمع الإسلامي، فقد كان يمارس الفحشاء والمنكر والأعمال التي تخالف الإسلام علناً، وأراد القضاء على شيعة أمير المؤمنين علي (عليه السلام)، فكان يضع العيون عليهم أينما كانوا، وربما اعتقلهم وزج بهم في قعر السجون ويأخذ بتعذيبهم ومن ثم إعدامهم، كما فعل أبوه من قبل، وأخيراً سعى للقضاء على ذرية الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) فلايبقى لهم اسم يذكر.
(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)(15).
فإنهم وإن قتلوا ذرية الرسول بأجمعهم فلم يبق منهم من أبناء الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام) سوى الحسن المثنى ومن أبناء الإمام الحسين (عليه السلام) سوى الإمام زين العابدين (عليه السلام)، إلا أن الله عزوجل بارك في نسلهم إلى يومنا هذا.
لقد أدى الإمام السجاد (عليه السلام) دوراً مهماً جداً للإبقاء على الإسلام ومعارفه، في تلك الظروف القاسية، فأخذ بتربية أجيال من الفتيان والفتيات تربية صالحة..
فكان يشتري الكثير من العبيد والإماء وفي خلال فترة قصيرة كان (عليه السلام) يشرع بتربيتهم وتثقيفهم بالثقافة الإسلامية حيث يعلّمهم القرآن وأحكامه، ويبين لهم سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) وأهل بيته الطاهرين (عليهم السلام) ومن ثم يقوم بتحريرهم وذلك بإعتاقهم في سبيل الله، ورويداً رويداً كان هؤلاء يدخلون المجتمع الإسلامي ويقومون بنشر أفكار الإمام (عليه السلام) في أوساط الناس، حتى أن مجموعة من تلك الإماء المتعلمات وصلن إلى داخل القصر الأموي وضمن حريم بني أمية وشرعن بإيصال ظلامة أهل بيت النبوة (عليهم السلام) وكذلك تعليم المطالب الحقة إلى نساء وأبناء السلاطين وحُجّاب بني أمية.
مدرسة الدعاء
مما لا شك فيه أن الدعاء والضراعة إلى الله عزوجل يوجب تقوية روح الإنسان، فإن طلب المعونة من القوة الإلهية تعين في قضاء الحوائج وتسهيل أمور الدين والدنيا، وغفران الذنوب بعد الموت في الآخرة.
وربما يخطر في ذهن البعض هذا السؤال:
إذا شاءت إرادة الله شفاء المريض مثلاً، فعندئذ لا حاجة إلى الدعاء، وإذا لم تشأ الإرادة الإلهية ذلك فلا أثر للدعاء حينئذ، فما هي فلسفة الدعاء؟
والجواب على ذلك نقول: بأن المسألة لا تنحصر في الحالتين المذكورتين، بل قد تتعلق إرادة الله تعالى بواحدة من الحالات أدناه.. فمثلاً بالنسبة إلى المريض:
1ـ أحياناً تشاء إرادة الله تعالى شفاء المريض من دون دعاء.
2ـ وأحياناً تشاء إرادة الله تعالى بحيث إذا دعا المريض تحسنت حالته وشوفي، وإذا لم يدع لا يشفى.
3ـ أحياناً تشاء إرادة الله تعالى عدم شفاء المريض حتى بالدعاء وذلك لمصلحة يراها الباري عزوجل.
قال الإمام الصادق (عليه السلام): «إن الدعاء يرد القضاء وقد نزل من السماء وأبرم إبراما»(16).
وقال الراوي: سمعت أبا الحسن (عليه السلام) يقول: «إن الدعاء يرد ما قد قدّر وما لم يقدّر» قلت: وما قد قدر عرفته، فما لم يقدر؟ قال: «حتى لا يكون»(17).
وقال علي بن الحسين (عليه السلام): «الدعاء يدفع البلاء النازل وما لم ينزل»(18).
وقال الإمام الكاظم (عليه السلام): «عليكم بالدعاء، فإن الدعاء والطلب إلى الله عزوجل، يردّ البلاء وقد قدّر وقضي ولم يبق إلا إمضاؤه، فإذا دعي الله وسُئل صرف البلاء صرفاً»(19).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «إن الله عزوجل ليدفع بالدعاء الأمر الذي علمه أن يدعى له فيستجيب، ولولا ما وفق العبد من ذلك الدعاء لأصابه منه ما يجثه من جديد الأرض»(20).
وعن علاء بن كامل قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): «عليك بالدعاء فإنه شفاء من كل داء»(21).
فبناءً على هذا تعرف أهمية الدعاء وطلب المعونة من الباري عزوجل، حيث قال تعالى: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(22). وقال سبحانه: (قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ)(23).
الصحيفة السجادية
وأفضل شاهد على هذا الأمر الصحيفة السجادية، التي تناولت مختلف الجوانب العلمية والعملية في حياة الإنسان وتبين كيفية سلوكه مع ربه ومع نفسه ومع الآخرين، فهي تشتمل على أصول الدين، والأخلاق، وعلم الاجتماع، والسياسة، والاقتصاد، وعلم النفس، وأهم المسائل الفكرية والثقافية، كل ذلك في إطار الدعاء والمناجاة مع الباري عزوجل.
إن للصحيفة السجادية دوراً مهماً جداً في بيان المسائل العقائدية ومعرفة الأصول الإسلامية، وما يوجب سعادة الإنسان في كافة أبعاد الحياة.
وبالطبع فإن أدعية الإمام زين العابدين (عليه السلام) هي أكثر بكثير مما في الصحيفة المذكورة، فإنها لا تشمل جميع الأدعية.
إن هذه الصحيفة السجادية المعروفة قام بنقلها وروايتها أحد أحفاد (24) الإمام السجاد (عليه السلام). وقد حاز شرف شرحها (25) علماء الإسلام عدة مرات وقاموا بطبعها كراراً ومراراً. وقد جمع بعض العلماء أدعية أخرى للإمام السجاد (عليه السلام) (26) وهذه المجموعة أيضاً لا تعني جميع الأدعية كما لا يخفى.
مكارم الأخلاق
إن حياة الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) وسيرته الطاهرة مليئة بمكارم الأخلاق وهي تشكل قسماً مهماً من بحر فضائله ومكارمه، فكان الإمام(عليه السلام) خير دليل وأسوة للإنسان الصالح، وأفضل نموذج لكل البشرية في طريق الخير والسعادة في الدنيا والآخرة.
يقول أحد الشعراء(27):
من ذا يكافئ زهرة فواحة؟-----أو من يثيب البلبل المترنما
ينبغي للإنسان بصورة عامة وللمسلم بصورة خاصة أن يكون كباقة الورد العطرة، وأن يخدم الإنسانية من دون أن يتوقع مكافأة الناس له، وأن يعمل خالصاً لله عزوجل، كما ورد في القرآن الكريم حكاية عن أهل البيت (عليهم السلام) حيث قالوا: (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لاَ نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلاَ شُكُوراً)(28).
وأن يحب الناس، وإذا ما أساء إليه شخص ما، فعليه بالعفو والإحسان، فإن النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة الأطهار (عليهم السلام) كانوا كذلك، يغضون الطرف عن الذنب ويحسنون إلى المذنب.
وخلاصة القول على الإنسان أن يقابل الإساءة بالإحسان والشر بالخير، مما يعبر عنه في علم الأخلاق بـ(الملكات الإنسانية العالية).
وهذه من مزايا مدرسة أهل البيت (عليهم السلام).
إن المجرم في عالم اليوم إذا لم يلتزم بمنطق القوانين والمقررات، فإنهم سوف يجبرونه بالقوة من أجل المحافظة على حقوق الآخرين حتى لا يتجاوز حدوده ويتعدى على حقوق الآخرين.
أما في سيرة أهل البيت (عليهم السلام) الأخلاقية، فإن المجرم لا يُطرد ولاينفى، بل يجعل منه مؤمن صالح، حيث يسعون في هدايته بالحكمة والموعظة الحسنة ويستقبلونه بالوجه الطلق، مما يوجب هدايته إلى الطريق المستقيم والفطرة التي فطر الله الناس عليها.
فسياستهم (عليهم السلام) هي سياسة اللين واللاعنف والأخلاق الطيبة، أما سياسة العصا والسيف فإنها ليست من شيمهم، فلم يقوموا بالسيف إلا للدفاع عن النفس، فإن نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله) وخليفته الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يبتدئوا بحرب مطلقاً، بل كانوا دائماً وفي كل حروبهم في حالة الدفاع عن النفس وصد هجوم الكفار والمشركين، وحتى في تلك الحروب الدفاعية كانوا يجتنبون حد الإمكان عن القتل وإراقة الدماء(29).
نعم إنهم حملوا رسالة المحبة إلى العالم، وبينوا أن معالم دينهم قائمة على المحبة وكانوا يقابلون حتى أعدائهم بالمحبة والوئام.
وكان الإمام زين العابدين غصناً من أغصان هذه الشجرة النبوية العظيمة والمورقة دائماً والملقية بظلالها على رؤوس الخلق إلى أبد الآبدين. وقد كانت أخلاقه الطيبة مدرسة للآجيال، وإليكم بعض النماذج من سلوكه الطاهر.
مع الأقرباء
ذكروا أنه وقف على علي بن الحسين (عليه السلام) رجل كان له بعض القرابة من الإمام (عليه السلام) وشتمه، فلم يكلمه الإمام (عليه السلام) بسوء، فلما انصرف قال(عليه السلام) لجلسائه: «لقد سمعتم ما قال هذا الرجل وأنا أحب أن تبلغوا معي إليه حتى تسمعوا مني ردي عليه».
قال: فقالوا له نفعل، ولقد كنا نحب أن يقول له ويقول.
فأخذ (عليه السلام) نعليه ومشى وهو يقول: (والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)(30).
قالوا: فعلمنا أنه لا يقول له شيئاً.
قال: فخرج (عليه السلام) حتى أتى منزل الرجل فصرخ به فقال: «قولوا له هذا علي بن الحسين».
قال: فخرج إلينا متوثباً للشر وهو لا يشك أنه إنما جاء مكافئاً له على بعض ما كان منه.
فقال له علي بن الحسين (عليه السلام): «يا أخي إنك كنت قد وقفت عليّ آنفاً فقلت وقلت، فإن كنت قلت ما فيّ فاستغفر الله منه، وإن كنت قلت ما ليس فيّ فغفر الله لك».
قال: فقبل الرجل بين عينيه وقال: بل قلت فيك ما ليس فيك وأنا أحق به(31).
وروي أن الإمام السجاد (عليه السلام) كان يخرج بالليل متنكراً من دون أن يعرفه أحد ويطرق أبواب بعض أقربائه ويساعده مالياً، وكان الشخص يأخذ المال ويقول: لكن علي بن الحسين لا يواصلني لا جزاه الله عني خيراً، فيسمع الإمام ذلك ويصبر عليه ولم يعرفه بنفسه.
وبعد استشهاد الإمام السجاد (عليه السلام) انقطع الخير عن الرجل فعرف أن الشخص المحسن الذي لم يكن يعرفه كان هو الإمام السجاد (عليه السلام)، عندها جاء إلى قبره وبكى بحسرة وندم على ما فرطه في حق الإمام(32).
مع الموالي والعبيد
إن كثيراً من الناس تختلف أقوالهم عن أعمالهم، فإذا كان معدماً لا يملك شيئاً، يتمنى أن لو كانت له الدنيا وما فيها ليخدم الناس، فيقول: إذا ما وصلت إلى منصب حكومي أو مادي، فسأرعى من تحت يدي وأساعد المحتاجين والفقراء، ولكن عند ما يجد القدرة في أي صعيد فإنه يطغى في حدود إمكاناته، هذه طبيعة البعض.
أما أولياء الله والأئمة الطاهرون (عليهم السلام) فالمهم لديهم هو رضا الله عزوجل، فإنهم يستحضرون الله دائماً ويجعلون من رضائه ملاكاً لأعمالهم، وإذا ملكوا ما ملكوا، فإنهم ليس فقط لا يتغيرون ولايتبدلون بل يسعون للاستفادة منها في خدمة المحرومين والمنقطعين.
والإمام زين العابدين (عليه السلام) من هؤلاء الأطهار فإنه على عظمته وزعامته الدينية، لم ينس حتى الموالي والعبيد، بل كان يتعامل معهم تعامل الأب العطوف، وربما تجاوزت محبته (عليه السلام) عطوفة الأب بالنسبة إلى أولاده:
هكذا العفو
في يوم من الأيام كان للإمام زين العابدين (عليه السلام) مجموعة من الضيوف، فأمر (عليه السلام) أن يعد لطعامهم مقداراً من اللحم فيشوى في التنور ويؤتى به على الخوان، وعندما حل وقت الطعام، جلب أحد غلمانه جفنة اللحم المشوي إلى الخوان وكانت الجفنة شديدة الحرارة، ولشدة عجلة الغلام وقبل أن يصل إلى الخوان سقطت من يده على رأس أحد أولاد الإمام الصغار فاحترق ومات.
فتغير لون الغلام وأصابه الهلع وأخذ يرتجف من رهبة الجزاء، فإنه قد قتل طفلاً من أطفال الإمام (عليه السلام).
ومن الطبيعي أن كل أب عندما يشاهد مقتل ولده بهذه الطريقة المفجعة، أن يشد على الطرف بما يمكنه وأقله التوبيخ باللسان، ولكن الإمام السجاد (عليه السلام) لما رأى ذلك سلّم أمره إلى الله تعالى وخاطب الغلام وقال: أنت حر لوجه الله، فإنك لم تعتمد ذلك، ثم أخذ في جهاز ابنه ودفنه(33).
وبالطبع أن تحرير العبد حتى وإن كان له أجر أخروي، ولكنه يضر بالمالك من الناحية المادية لأن في استطاعته بيعه والاستفادة من ثمنه.
أمنت عذابك
في إحدى المرات نادى الإمام السجاد (عليه السلام) أحد غلمانه فلم يجبه، فأعاد النداء فلم يجبه، فناداه في المرة الثالثة فلم يجبه أيضاً، فقال له الإمام السجاد (عليه السلام) بهدوء: يا بني ألم تسمع ندائي في المرة الأولى والثانية؟
قال: سمعت.
قال (عليه السلام): فلماذا لم تجبني؟
قال: لأني أمنت عذابك.
عندما سمع الإمام (عليه السلام) جوابه هذا عفى عنه وقال: الحمد لله الذي جعل مملوكي يأمنني(34).
وينبغي الإشارة إلى أن العبيد في ذلك الزمان لم تكن لهم أية شخصية أو أهمية في المجتمع، وكان يكفي أن يقصّر في تلبية النداء حتى يعاقب عليه.
إن طريقة تعامل الإمام زين العابدين (عليه السلام) تنم عن نهاية عطفه ومحبته بالنسبة إلى من كان تحت يده.
كظمت غيظي
واحدة من إماء الإمام السجاد (عليه السلام) قامت بصب الماء على يديه ليسبغ الوضوء للصلاة، ولكن فجأة سقط الإبريق من يديها فشج وجه الإمام.
فنظر إليها الإمام (عليه السلام) وهو جالس.
فقالت: (والكاظمين الغيظ).
قال (عليه السلام): كظمت غيظي.
قالت: (والعافين عن الناس).
قال (عليه السلام): عفوت عنك.
قالت: (والله يحب المحسنين)(35).
قال (عليه السلام) فاذهبي فأنت حرة لوجه الله، وكان الدم يتقاطر من وجه الإمام (عليه السلام) (36).
نعم هذه هي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) ..
مدرسة الأخلاق والإحسان، حتى مع المقصرين والمخالفين، وهذه هي سياسة باقة الورد بدل السوط وغصن الزيتون بدل السيف.
مع الأسرة والعائلة
ورد في الروايات الشريفة أن الذي يؤذي عائلته وخاصة زوجته وأطفاله فيغلظ عليهم في القول والأخلاق، فإنه سيعذب عذاباً أليماً في يوم القيامة، وإذا مات فستناله ضغطة القبر والعياذ بالله. وهذا أثر طبيعي ووضعي للعمل، لأن نتيجة الضغط على الأسرة في الدنيا هي ضغطة القبر في البرزخ.
وفي المقابل من أكرم عائلته ووسع عليهم في الرزق وعاشرهم بالمعروف وحسن الخلق، فسينال ثواب الآخرة ونعيم الجنة.
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي»(37).
وعن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إن سعدا لما مات شيعه سبعون ألف ملك، فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله) على قبره، فقال: ومثل سعد يضم، فقالت أمه: هنيئا لك يا سعد وكرامة، فقال لها رسول الله: يا أم سعد لا تحتمي على الله، فقالت: يا رسول الله قد سمعناك وما تقول في سعد، فقال: إن سعدا كان في لسانه غلظ على أهله»(38).
وعن معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: «ينبغي للرجل أن يوسع على عياله لئلا يتمنوا موته، وتلا هذه الآية: (ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا)(39)، قال: «الأسير عيال الرجل، ينبغي إذا زيد في النعمة أن يزيد أسراءه في السعة عليهم» الحديث(40).
وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله):
«من دخل السوق فاشترى تحفة فحملها إلى عياله، كان كحامل صدقة إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور، فإن من فرح ابنة فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل، ومن أقر عين ابن فكأنما بكى من خشية الله، ومن بكى من خشية الله أدخله جنات النعيم»(41).
وقال الصادق (عليه السلام): «رحم الله عبدا أحسن فيما بينه وبين زوجته فإن الله عز وجل قد ملكه ناصيتها وجعله القيم عليها»(42).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): «كانت لأبي (عليه السلام) امرأة وكانت تؤذيه فكان يغفر لها»(43).
عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): أوصاني جبرئيل (عليه السلام) بالمرأة حتى ظننت أنه لا ينبغي طلاقها إلا من فاحشة بينة»(44).
قال (عليه السلام): «من احتمل من امرأته ولو كلمة واحدة، أعتق الله رقبته من النار وأوجب له الجنة، وكتب له مائتي ألف حسنة ومحا عنه مائتي ألف سيئة ورفع له مائتي ألف درجة وكتب الله عز وجل له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة»(45).
قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) : «ما من عبد يكسب ثم ينفق على عياله إلا أعطاه الله بكل درهم ينفقه على عياله سبعمائة ضعف»(46).
قال (صلى الله عليه وآله): «خير الرجال من أمتي الذين لا يتطاولون على أهليهم ويحنون عليهم ولا يظلمونهم ثم قرأ: (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض)(47) الآية»(48).
ومن هنا فقد أكد الإسلام على حفظ الأسرة وإكرام من يعوله الإنسان والسعي في خدمتهم وقضاء حوائجهم، فإن الأسرة تمثل مجتمعاً صغيراً بحد ذاتها وهي النواة للمجتمع الأكبر، فإذا صلحت صلح المجتمع وإلا فلا، ولا يكون صلاحها إلا بالمحبة والصداقة والاحترام المتقابل بين الأفراد.
إن هذه القاعدة (قاعدة الأسرة السليمة والمتحابة) وسائر القواعد الإسلامية الأخرى يجدها المتتبع بشكل واضح ومصداق عملي جلي في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) فمثلاً إذا ما تصفحنا تاريخ الإمام السجاد (عليه السلام) وسلوكه مع أفراد عائلته سنراه في القمة، فإنه مضافاً إلى كونه (عليه السلام) أعبد أهل زمانه وأزهدهم، فهو لا ينسى رعاية من يعوله وإكرام اسرته الشريفة، بل يأخذ بخدمتهم ويهيأ لهم وسائل الراحة المشروعة ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويربيهم على أفضل العبادات:
ابتاع لعيالي
ورد في الكافي عن أبي حمزة الثمالي أنه قال: قال علي بن الحسين (عليه السلام): «لأن أدخل السوق ومعي دراهم ابتاع به لعيالي لحماً وقد قرموا أحب إليّ من أعتق نسمة»(49).
وقد أشار الإمام السجاد (عليه السلام) في هذا الحديث إلى أن ثواب شراء شيء للعيال أكثر من ثواب عتق رقبة في سبيل الله، وذلك لأن الزوجة والأولاد كل أملهم بكرم رب الأسرة وسخاوته، مضافاً إلى أن علاقتهم به لا تنفصم عراها، أما العبد إذا تحرر فان علاقته بمالكه تنفصم ويتخذ قراراته بنفسه.
قال أبو الحسن (عليه السلام): «إذا وعدتم الصبيان ففوا لهم فإنهم يرون أنكم الذين ترزقونهم، إن الله عزوجل ليس يغضب لشيء كغضبه للنساء والصبيان»(50).
مع الناس
إن سيرة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) وتعاملهم مع الناس هي المثل الأعلى في كافة ميادين الحياة الاجتماعية..
فإنهم القدوة في حبهم وعطفهم. وفي رأفتهم حتى بعدوهم. وفي أخلاقهم وحسن معاشرتهم.
وقد جعلهم الله تعالى الأسوة الحسنة حيث أمرنا جل جلاله باتباعهم والسير على هداهم فقال عز من قائل: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كانوا يرجوا الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)(51).
إذن فمن أراد الله والنجاة في يوم القيامة فعليه باتخاذ هؤلاء الأطهارلا(عليهم السلام) قدوة ومثلاً أعلى له في الحياة الدنيا وذلك لأنهم سفن النجاة التي من ركبها نجى ومن تخلف عنها غرق وهوى.
وقد كان الإمام السجاد (عليه السلام) في سلوكه وتعامله مع الآخرين نموذجاً في الأخلاق الإسلامية وكان (عليه السلام) محط إعجاب الناس وتعلقهم بالرسول (صلى الله عليه وآله) والرسالة.
وفي هذا يحدثنا الإمام الصادق (عليه السلام) ويقول: «كان علي بن الحسين (عليه السلام) لا يسافر إلا مع رفقة لا يعرفونه ويشترط عليهم أن يكون من خدام الرفقة فيما يحتاجون إليه، فسافر مرة مع قوم فرآه رجل فعرفه، فقال لهم: أتدرون من هذا؟
فقالوا: لا.
قال: هذا علي بن الحسين (عليه السلام).
فوثبوا إليه فقبلوا يده ورجليه، وقالوا: يا ابن رسول الله أردت أن تصلينا نار جهنم لو بدرت إليك منا يد أو لسان أما كنا قد هلكنا إلى آخر الدهر، فما الذي يحملك على هذا.
فقال: إني كنت سافرت مرة مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله (صلى الله عليه وآله) ما لا أستحق فإني أخاف أن تعطوني مثل ذلك فصار كتمان أمري أحب إلي»(52).
هكذا أراد أن يخفي الإمام (عليه السلام) أمره تواضعاً فأبى الله إلا أن يظهره ويرفعه.
وأما مشيته (عليه السلام) فكانت السكينة والوقار فلا طيش ولا خفة ولاشموخ بالأنف، لأن الإنسان مهما بالغ في مشيته فسوف لن يخرق الأرض ولا يبلغ الجبال طولاً، قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): «كان علي بن الحسين (صلوات الله عليه) يمشي مشية كأن على رأسه الطير لا يسبق يمينه شماله»(53).
وفي تعامله مع من كان يؤذيه كان مصداقاً لقوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم)(54).
وقد كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين (عليه السلام) في إمارته، فلما عزل أمر به الوليد أن يوقف للناس فقال: ما أخاف إلا من علي بن الحسين، وقد وقف عند دار مروان وكان علي بن الحسين (عليه السلام) قد تقدم إلى خاصته ألا يعرض له أحد منكم بكلمة، فلما مر ناداه هشام: الله أعلم حيث يجعل رسالاته(55).
وفي أحد الأيام مر الإمام (عليه السلام) على بعض المجذومين وكان (عليه السلام) راكباً على حمار وهم يتغذون فدعوه إلى الغذاء فقال (عليه السلام): «إني صائم ولولا أني صائم لفعلت» فلما صار إلى منزله أمر بطعام فصنع وأمر أن يتنوقوا فيه ثم دعاهم فتغذوا عنده وتغذى معهم(56).
سلوكه (عليه السلام) مع نفسه
إن الكثير من الناس يسير في حياته نحو الإفراط أو التفريط فتختل الموازين الاجتماعية والنفسية بذلك.
فهناك عابد جاهل، وآخر متعلم لا دين له..
وهناك غني بخيل، وفقير لا يملك شيئاً ولكنه كريم النفس..
وهناك جبان خائف وهناك متهور يضر بنفسه والآخرين..
وهكذا في سائر الأمور التي لم يراع فيها قانون الإسلام وهو رعاية حد الوسط في الأمور.
قال تعالى: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً)(57).
وقال (عليه السلام): «خير الأمور أوسطها»(58).
وقال أبو عبد الله (عليه السلام): في باب الجبر والتفويض: «لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين»(59).
إن الإسلام قد حدد جميع الموازين الدقيقة للموضوعات والأحكام في حياة الإنسان مع نفسه والآخرين، بحيث لا يكون إفراط ولا تفريط.
والميزان لمعرفة ذلك هو رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأهل بيته الأطهار (عليهم السلام) بأقوالهم وأفعالهم وسيرتهم العطرة.
فقد تجلت كافة الجوانب الأخلاقية والآداب الإسلامية وموازين الشرع المقدس في شخصية نبي الإسلام محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) وابنته سيدة نساء العالمين الصديقة الكبرى فاطمة الزهراء (عليها السلام) والأئمة الطاهرين من أبنائها (عليهم السلام).
كما ورد في الزيارات: «السلام على ميزان الأعمال»(60).
كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) زاهداً في الدنيا، بل كان في قمة الزهد والتقوى، فكان لا يهتم باللذائذ الحسية والحاجات البدنية، ولكن مع ذلك كله لم يكن ينسى احتياجات الجسم في صحته وعافيته، لأن الإسلام يعتبر سلامة الجسم من عوامل التقوى والورع.
قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «ألا وإنّ من صحة البدن تقوى القلب»(61).
فكان الإمام زين العابدين (عليه السلام) يتمتع بصحة كاملة(62) ويهتم بآداب النظافة وسننها..
فقد كان يخرج إلى المسجد وقد استاك أسنانه(63) وعطّر نفسه بأفضل عطر مما يسمى بالمسك والغالية(64)، كما كانت ملابسه نظيفة ومرتبة(65) وكان سرج فرسه قطيفة حمراء(66).
إن الإمام زين العابدين (عليه السلام) عندما كان يسافر إلى مكة للحج كان يأخذ معه أفضل الزاد مما يحتاجه المسافرون(67)، كي يجد القدرة على العبادة وأداء مناسك الحج.
نعم إن الإمام السجاد (عليه السلام) كان باستطاعته أن يسافر من دون أخذ زاد وما أشبه، فينجز كافة أعماله عن طريق المعجزة والكرامة، ولكنهم باعتبارهم أسوة حسنة لكل الناس فإنهم (عليه السلام) كانوا يعيشون كبقية الناس العاديين ليبقوا أسوة.
سلوكه (عليه السلام) مع ربه
كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) قمة في العبادة والخضوع والخشوع أمام الله عزوجل، حتى لقب بزين العابدين وسيد الساجدين.
فكان (عليه السلام) قد اصفر لونه من السهر، ورمضت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة.
وكان (عليه السلام) إذا توضأ للصلاة يصفر لونه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء، فيقول: «أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم»(68).
وكان (عليه السلام) إذا مشى لا يجاوز يده فخذه، ولا يخطر بيده وعليه السكينة والخشوع، وإذا قام إلى الصلاة أخذته الرعدة، فيقول لمن يسأله: «أريد أن أقوم بين يدي ربي وأناجيه فلهذا تأخذني الرعدة»(69).
وقد وقع الحريق والنار في بيت الإمام زين العابدين (عليه السلام)، وكان ساجدا في صلاته، فجعلوا يقولون له: يا ابن رسول الله، يا ابن رسول الله، النار النار، فما رفع رأسه من سجود حتى أطفئت، فقيل له: ما الذي ألهاك عنها، فقال: «نار الآخرة»(70).
وكان (عليه السلام) يصلي في كل يوم وليلة ألف ركعة، فإذا أصبح سقط مغشيا عليه، وكانت الريح تميله كالسنبلة(71).
وعن زرارة بن أعين قال: سمع قائل في جوف الليل وهو يقول: أين الزاهدون في الدنيا، الراغبون في الآخرة، فهتف هاتف من ناحية البقيع يسمع صوته ولا يرى شخصه ذاك علي بن الحسين(72).
وعن سعيد بن كلثوم قال: كنت عند الصادق جعفر بن محمد(عليه السلام)، فذكر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأطراه ومدحه بما هو أهله، ثم قال: «والله ما أكل علي بن أبي طالب، من الدنيا حراما قط حتى مضى لسبيله، وما عرض له أمران قط هما لله رضى، إلا أخذ بأشدهما عليه في دينه، وما نزلت برسول الله (صلى الله عليه وآله) نازلة قط، إلا دعاه فقدمه ثقة به، وما أطاق أحد عمل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من هذه الأمة غيره، وإن كان ليعمل عمل رجل، كأن وجهه بين الجنة والنار، يرجو ثواب هذه ويخاف عقاب هذه، ولقد أعتق من ماله ألف مملوك، في طلب وجه الله والنجاة من النار، مما كد بيديه ورشح منه جبينه، وأنه كان ليقوت أهله بالزيت والخل والعجوة، وما كان لباسه إلا الكرابيس، إذا فضل شيء عن يده من كمه دعا بالجلم فقصه، ولا أشبهه من ولده ولا من أهل بيته، أحد أقرب شبها به في لباسه وفقهه، من علي بن الحسين (عليه السلام)، ولقد دخل أبو جعفر ابنه (عليه السلام) عليه، فإذا هو قد بلغ من العبادة ما لم يبلغه أحد، فرآه قد اصفر لونه من السهر، ورمصت عيناه من البكاء، ودبرت جبهته وانخرم أنفه من السجود، وورمت ساقاه وقدماه من القيام في الصلاة، قال أبو جعفر (عليه السلام): فلم أملك حين رأيته بتلك الحال البكاء، فبكيت رحمة له، وإذا هو يفكر فالتفت إلي بعد هنيهة من دخولي، وقال: يا بني أعطني بعض تلك الصحف، التي فيها عبادة علي بن أبي طالب (عليه السلام)، فأعطيته فقرأ فيها شيئا يسيرا، ثم تركها من يده تضجرا، وقال: من يقوى على عبادة علي (عليه السلام)»(73).
مكانته (عليه السلام) الاجتماعية
وفي التاريخ: أنه حج هشام بن عبد الملك، فلم يقدر على الاستلام من الزحام، فنصب له منبر وجلس عليه، وأطاف به أهل الشام، فبينما هو كذلك، إذ أقبل علي بن الحسين (عليه السلام)، وعليه إزار ورداء، من أحسن الناس وجها، وأطيبهم رائحة، بين عينيه سجادة، كأنها ركبة عنز، فجعل يطوف فإذا بلغ إلى موضع الحجر، تنحى الناس حتى يستلمه هيبة له، فقال: شامي من هذا يا أمير.
فقال: لا أعرفه لئلا يرغب فيه أهل الشام.
فقال الفرزدق ـ وكان حاضراً ـ: لكني أنا أعرفه.
فقال الشامي: من هو يا أبا فراس.
فأنشأ قصيدة:
يا سائلي أين حل الجود والكرم-----عندي بيان إذا طلابه قدموا
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته------والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم-------هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا الذي أحمد المختار والده------صلى عليه إلهي ما جرى القلم
لو يعلم الركن من قد جاء يلثمه-----لخر يلثم منه ما وطي القدم
هذا علي رسول الله والده-----أمست بنور هداه تهتدي الأمم
هذا الذي عمه الطيار جعفر-----والمقتول حمزة ليث حبه قسم
هذا ابن سيدة النسوان فاطمة------وابن الوصي الذي في سيفه نقم
إذا رأته قريش قال قائلها------إلى مكارم هذا ينتهي الكرم
يكاد يمسكه عرفان راحته-----ركن الحطيم إذا ما جاء يستلم
وليس قولك من هذا بضائره-----العرب تعرف من أنكرت والعجم
ينمي إلى ذروة العز التي قصرت-----عن نيلها عرب الإسلام والعجم
يغضي حياء ويُغضى من مهابته-----فما يكلم إلا حين يبتسم
ينجاب نور الدجى عن نور غرته-----كالشمس ينجاب عن إشراقها الظلم
بكفه خيزران ريحه عبق-----من كف أروع في عرنينه شمم
ما قال لا قط إلا في تشهده-----لولا التشهد كانت لاؤه نعم
مشتقة من رسول الله نبعته-----طابت عناصره والخيم والشيم
حمال أثقال أقوام إذا قدحوا-----حلو الشمائل تحلو عنده نعم
إن قال قال بما يهوى جميعهم-----وإن تكلم يوما زانه الكلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله-----بجده أنبياء الله قد ختموا
الله فضله قدما وشرفه-----جرى بذاك له في لوحه القلم
من جده دان فضل الأنبياء له-----وفضل أمته دانت لها الأمم
عم البرية بالإحسان وانقشعت-----عنها العماية والإملاق والظلم
كلتا يديه غياث عم نفعهما------يستوكفان ولا يعروهما عدم
سهل الخليفة لا تخشى بوادره-----يزينه خصلتان الحلم والكرم
لا يخلف الوعد ميمونا نقيبته------رحب الفناء أريب حين يعترم
من معشر حبهم دين وبغضهم------كفر وقربهم منجى ومعتصم
يستدفع السوء والبلوى بحبهم-----ويستزاد به الإحسان والنعم
مقدم بعد ذكر الله ذكرهم-------في كل فرض ومختوم به الكلم
إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم------أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم
لا يستطيع جواد بعد غايتهم-----ولا يدانيهم قوم وإن كرموا
هم الغيوث إذا ما أزمة أزمت-------والأسد أسد الشرى والبأس محتدم
يأبى لهم أن يحل الذم ساحتهم------خيم كريم وأيد بالندى هضم
لا يقبض العسر بسطا من أكفهم------سيان ذلك إن أثروا وإن عدموا
إن القبائل ليست في رقابهم-----لأولية هذا أو له نعم
من يعرف الله يعرف أولية ذا-----فالدين من بيت هذا ناله الأمم
بيوتهم في قريش يستضاء بها-----في النائبات وعند الحلم إن حلموا
فجده من قريش في أرومتها-----محمد وعلي بعده علم
بدر له شاهد والشعب من أحد-----والخندقان ويوم الفتح قد علموا
وخيبر وحنين يشهدان له-----وفي قريظة يوم صيلم قتم
مواطن قد علت في كل نائبة-----على الصحابة لم أكتم كما كتموا
فغضب هشام ومنع جائزته، وقال: ألا قلت فينا مثلها.
قال: هات جدا كجده، وأبا كأبيه، وأما كأمه، حتى أقول فيكم مثلها.
فحبسوه بعسفان بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك علي بن الحسين (عليه السلام)، فبعث إليه باثني عشر ألف درهم، وقال: «أعذرنا يا أبا فراس، فلو كان عندنا أكثر من هذا لوصلناك به».
فردها وقال: يا ابن رسول الله ما قلت الذي قلت، إلا غضبا لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليه شيئا.
فردها إليه وقال: «بحقي عليك لما قبلتها، فقد رأى الله مكانك وعلم نيتك» فقبلها.
فجعل الفرزدق يهجو هشاما وهو في الحبس، فكان مما هجاه به قوله:
أ يحبسني بين المدينة والتي-----إليها قلوب الناس تهوى منيبها
تقلب رأسا لم يكن رأس سيد-----وعينا له حولاء باد عيوبها
فأخبر هشام بذلك فأطلقه، وفي رواية أنه أخرجه إلى البصرة(74).