تهذيب الانسان بين المادّية والاديان
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2020-06-29 05:00
في صورة مجسمة لعالمنا اليوم، نلاحظ ذلك الصراع المتأجج بين المادي ومفكريه من جهة، وبين الديني ومناصريه من جهة أخرى، فالمادية هي نوع من الفلسفة الأحادية تتبنى أن المادة هي المكون الأساسي للطبيعة، وأن كل الأشياء، بما فيها الجوانب العقلانية كالوعي، هي نتاج لتفاعلات مادية. وترى الفلسفة المثالية كلّا من العقل والوعي حقائق من الدرجة الأولى، ولهما تخضع المادة التي تعتبر بدورها حقيقة من الدرجة الثانية.
لكن العكس هو الصحيح في الفلسفة المادية. فهنا، يعتبر العقل والوعي منتج ثانوي أو ظاهرة مصاحبة للعمليات المادية (الكيمياء الحيوية للدماغ والجهاز العصبي على سبيل المثال) التي من دونها لن يتواجد أي منهما. إذ وفقا لهذه الفلسفة، الماديات هي من تخلق وتحدد الوعي، والعكس ليس صحيحا.
تنقسم النظريات المادية في عمومها إلى ثلاثة مجموعات. المادية البسيطة تحدد العالم بعناصر محددة (مثل العناصر الأربعة - نار، هواء، ماء، وتراب - التي ابتكرها فيلسوف ما قبل سقراط إميمبيدوكليس). المادية الميتافيزيقية تفحص مكونات العالم المنفصلة والمنعزلة. والمادية الجدلية تتبنى الجدلية الهيغلية للمادية، وتفحص علاقة مكونات العالم ذات الطبيعة الديناميكية ببعضها البعض.
تربط المادية علاقة قرابة مع الفيزيائية، وهي الرأي القائل بأن كل ما هو موجود هو في النهاية فيزيائي. تطورت الفيزيائية الفلسفية عن المادية مع اكتشاف العلوم الفيزيائية لتندمج مع المزيد من المفاهيم المطورة حول الفيزيائية بحيث لا تدمج معها المفاهيم غير المعتادة، مثل الزمكان، الطاقات الفيزيائية والقوى، المادة المظلمة، وغيرها. ومن هنا فإن مصطلح الفيزيائية مفضل عن المادية لدى البعض، والبعض الآخر يستخدمون المصطلحين وكأنهما واحد. أما الفلسفات المعارضة للمادية أو الفيزيائية تتضمن المثالية، التعددية، الثنائية، وبعض الأشكال الأخرى من الوحدوية.
الدين هو نظام اجتماعي- ثقافي من السلوكيات والممارسات المعينة، والأخلاق، والنظرات العالمية، والنصوص، والأماكن المقدسة، أو النبوات، أو المنظمات، التي تربط الإنسانية بالعناصر الخارقة للطبيعة، أو المتعالية، أو الروحانية. ومع ذلك، لا يوجد إجماع علمي حول التعريف الدقيق للدين.
قد تحتوي الأديان المختلفة على عناصر مختلفة تتراوح بين الأشياء الإلهية، المقدسة، الإيمان، كائن خارق للطبيعة أو كائنات خارقة للطبيعة أو "نوع من الحداثة والتعالي الذي سيوفر القواعد والقوة لبقية الحياة". قد تشمل الممارسات الدينية الطقوس والخطب والاحتفال أو التبجيل والتضحيات والمهرجانات والأعياد والمبادرات والخدمات الجنائزية والخدمات الزوجية والخدمات التأملية والصلاة والخدمة العامة أو جوانب أخرى من حضارة الإنسان.
الفردية المادية أزمات متناسلة!
للأديان تاريخ مقدس وروايات، يمكن حفظها في الكتب المقدسة والرموز والأماكن المقدسة، والتي تهدف في الغالب إلى إعطاء معنى للحياة. قد تحتوي الأديان على قصص رمزية، يقال في بعض الأحيان من قبل المتابعين أنها حقيقية، والتي لها غرض جانبي يتمثل في شرح أصل الحياة والكون وأشياء أخرى. تقليديًا، يعتبر الإيمان، بالإضافة إلى العقل، مصدرًا للمعتقدات الدينية.
حين المقارنة بين الدين والمادية، سوف نكتشف من دون عناء كبير تعارضا بينهما، لاسيما أن المادية تغذي الفردية والأحادية، فيما يسعى الدين كي يوحدّ الجمع البشري في إطار مبادئ تنطلق من الجذر التكويني للإنسان، وفيما تهدف المادي إلى إقصاء الروحي، يسعى الدين لتعميق الإيمان في داخل الإنسان، ويدفع به نحو التآزر المشترك، ويبعده عن الاستئثار والفردية.
فشل المادية يظهر جليا في خلق إنسان مادي (أناني)، وجد في إفساد الطبيعة ضالته، وسعى إلى تعزيز فرديته، ونسف الإيمان والدين بشكل كلّي، مما أسهم ذلك في الفشل بصناعة إنسان مهذب مصقول المشاعر، ومحدّد المقاصد، فصار باحثا عن كل المغانم التي تزيد ثروته، حتى لو قاد ذلك إلى إلحاق الأذى بالجمع.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه القيّم (السلم والسلام): (تدّعي سائر الحضارات والأديان السعي لتهذيب الإنسان وتمكينه من العيش بأمن وسلام، لكنها لم تصقل سلوكه ولم تهذب طبيعته تهذيباً كاملاً حتى في عصرنا الحاضر).
إذاً الدين جاء لكي يقف بالضد من النزعة الفردية الأنانية التي تأخذ أفكارها ومساعيها من الفلسفة المادية، الدين الإسلامي أعلن أول أهدافه في صناعة إنسان يؤثر الآخرين على فرديته، ويهب سلوكه، ويدفع به إلى مراعاة مصالح وحقوق الآخرين، وأن تسير حياته وفق المبدأ الذي الفرد على أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
لكن مشكلة البشرية أنها مع كل تقدم تحرزه الحضارة في المجال المادي، تدفع بالإنسان إلى فرديته وأنانيته أكثر فأكثر، فيصبح مؤذيا للطبيعة، عابثا، بالبيئة، مندفعا في مغامرات وحروب تضاعف من الخراب النفسي، وتدفع الجميع إلى الاقتتال والاحتراب بسبب ما تفرزه المادية من محفزات (أنانية) تخلص إلى تدمير القيم، وتضعف الشعور الإنساني يوما بعد آخر.
يقول الإمام الشيرازي: (إن الإنسان كلما تقدم في الحضارات المادية وزادت معارفه، تعددت أهدافه واستولى على الطبيعة وأفسدها أكثر فأكثر، وزاد حرصه وتشعبت مسالك طموحاته، ولذا يطلب الإنسان أكثر من القدر المحتاج إليه).
رغبات بشرية لا تحدّها حدود
ساعد على انتعاش النزوع المادي، رغبات الإنسان في امتلاك الأشياء بعيدا عن الاحتكام لقوانين الاعتدال، لذلك برزت مشكلة الاستحواذ الفردي، وصار كل إنسان يسعى إلى تحقيق ما يفوق متطلبات حياته، إذ لم يعد البشر مكتفيا بما يكفيه من أموال أو منجزات قادرة على توفير جل احتياجاته، فذهب إلى أبعد من ذلك وأوغل في خوض الصراعات وتأجيجها حتى يحقق أطماعه بالمزيد مما يفوق احتياجاته.
هذا النزوع المادي ولّد ردة فعل قوية للدين ومن يتشبث به كمنقذ للبشرية، وهو ما أجج الصراع بين الدين والمادية، فبدأت حرب متنوعة الأساليب، وانطلقت حملات فكرية لمفكرين ماديين، طرح أفكارهم في موجات متعاقبة، سعت للإساءة للدين ولكل من يتشبث به كأسلوب حياة يضمن العدالة بين سكان الأرض.
خطر الدين بالنسبة للماديين بكم في تجريد المادي من سطوته، ودعوته لجعل الحياة ذات نمط أحادي يقوم على تبجيل المادة، وجعلها الأسلوب الأوحد لمواصلة العيش، بعيدا عن الدين والروحانيات التي يرون فيها خطرا يحدق بهم وبمآربهم، فيكيلون الدسائس ويطلقون حملات التشويه التي لا تطول الدين والمتدينين بشتى الإساءات التي لا أساس لها من الصحة.
الإمام الشيرازي أشّر هذه المشكلة العالمية فقال: (الإنسان المادي بالإضافة إلى احتياجاته للشؤون الحيوية، يريد أن يزداد في كل شيء، بما لا يحتاج إليه إطلاقاً، حتى يصل إلى مرحلة الطغيان، كما يشاهد ذلك عند غالب الحكام).
من اللافت أن الحضارات المادية أعلنت بأنها تستهدف تهذيب الإنسان، وتسعى إلى تقويمه، بيد أن ذلك لم يحصل في واقع الحال، ففي مقابل التقدم التكنولوجي الهائل، لا تزال المجاعات تهدد نسبة كبيرة من سكان الأرض، كما أننا نعيش اليوم في عالم متعدد البؤر ومحاصر بالاحتقان والتوتر، يسوده الخراب، ويفتقر للعدالة، لذلك فإن إدّعاء المادية بتهذيب الإنسان ليس صحيحا لأنه لم يتحقّق.
يؤكد ذلك الإمام الشيرازي حين يقول: (لتأكيد التباين والاختلاف بين تهذيب الحضارات المادية للإنسان وبين تهذيب الشريعة الإسلامية لـه نقول: إن تهذيب الإنسان وسلامته هو أحد المبادئ التي عمق الإسلام جذورها في نفوس المسلمين).
سيبقى الصراع الأزلي مستمرا بين الدين والمادية، طالما أن عالمنا اليوم محاصر بالنزعة المادية، تقوده عقول احتكارية، وشركات فردية أو عائلية، فيما مليارات البشر لم يحصلوا على حقوقهم من ثروات الأرض، تبعا لقانون هزيل يفضّل القوة والتضليل على سواها من الحقوق العادلة، والحل يكمن في معادلة الكفة بين المادي والديني وهو ما ترفضه المادية وقادتها حتى هذه اللحظة.