حينما تتحول السلمية الى ثقافة حياة
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2020-01-15 06:56
مقدمة:
بما ان الصفات والخصال الحميدة يتحلى بها الانسان اكتساباً وتنمية في نفسه، فهو مدعوٌ لخطوات أخرى نحو تكريس وتفعيل هذه الصفات في الحياة العملية لتكون جزءاً من السلوك اليومي، وقد بحث العلماء في السبل الى ذلك، وذهبوا الى الأدوات الثقافية مثل؛ الكتاب، والتربية، والاعلام، و ذهب آخرون الى عامل الدين و عناوينه المتعددة، بدءاً من القرآن الكريم، ثم الروايات عن المعصومين، عليهم السلام، الى جانب سيرة حياتهم، فيما يذهب المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي –طاب ثراه- الى اسلوب جديد وهو؛ التلقين الذاتي عندما يتحدث عن صفة "السلمية" في حياة الانسان، وأن يكون مسالماً قبل التفكير بأي ردود فعل إزاء ما يتعرض له من ضغوطات او تجاوزات، وهي التفاتة هامة الى دور العامل النفسي في الموضوع للوصول الى أفضل النتائج فيما يتعلق بصفة أخلاقية تشكل نقطة ارتكاز في بناء العلاقات الاجتماعية السليمة، وهنا إضاءة لهذه المسألة في هذا المقطع الصوتي الذي نقرأ مضمونه ونستمع اليه معاً.
التلقين الذاتي بالسلمية إزاء الآخرين
"نرى بعض المصلحين الذين انقذوا بلادهم من الاستعمار، كانوا ناجحين ايضاً في عملية ضبط النفس، حتى لا يتأثروا بالاستفزازات والمثيرات، كانوا يلقنون انفسهم كل يوم، بأنهم "مسالمون، ومحبون للخير لكل الناس"، وكانوا يرددون هذه الجملة كل يوم مرات عدة، حتى يكونوا قادرين على تحمل ضغط الاهانات والاستفزازات، فتتطبع نفوسهم بالسلام، ومن ثمّ يتمكوا من التقدم.
ونحن المسلمون ايضاً، علينا ان نلقن انفسنا يومياً عدة مرات، كما هي مواعيد الصلوات الخمس، علماً أن المسلم يكرر كلمة السلام في التشهد، عندما يقول: "السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته"، ثم يقول: "السلام علينا، وعلى عباد الله الصالحين"، بمعنى أن خطاب السلم يتوجه الى القائد، والى الفرد، والى المجتمع الاسلامي، بل واكثر من ذلك؛ عندما يقول: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، بمعنى أن جميع افراد الامة ينبغي ان يكونوا في حالة السلم.
وهكذا نلاحظ ان الانسان المسلم يلقن نفسه ما لا يقل عن خمسة عشر مرة كلمة السلام، وبواسطة هذا السلام نتمكن من القيادة ومن التقدم، ومن جمع الكلمة، ومن عدم استفزاز الآخرين".
التلقين الذاتي ودوافعه
في بحوثهم التنموية – النفسية، عكف العلماء والباحثون على رسم خارطة طريق جديدة للنفس الانسانية بالاتجاه الايجابي، والتذكير بأن كوامن الانسان لا تضم البواعث السلبية للسلوك وحسب، بل تضم ايضاً البواعث الايجابية و"طاقات الحياة" كما سعى لذلك الكاتب المصري مصطفى حجازي وعنون كتابه "التفكير الايجابي، وإطلاق طاقات الحياة"، ليضيف الى المكتبة العربية إسهاماً معرفياً جديداً في مجال علم النفس الايجابي، وهو يدعو –مع آخرين من نظرائه- الى رؤية جديدة للمشاكل النفسية التي تعيشها الشعوب المأزومة في الوقت الحاضر، وامكانية تحويل هذه المشاكل الى منطلقات للتنمية الذاتية، وتغيير الواقع الفاسد، وذلك من خلال التفكير الايجابي، وتجاوز جدران اليأس والخيبة والفشل في جميع نواحي الحياة؛ لاسيما الاجتماعية منها، والسياسية.
وفي هذا المقطع الصوتي لسماحة الامام الشيرازي يتحدث عن خطوة متقدمة في البناء ولتنمية في عمق النفس الانسانية من خلال عملية التلقين الواردة في النصوص الدينية، ولغوياً فهي: "يَلْقَنُه لَقْناً، وكذلك الكلامَ، وتَلَقَّنه فَهِمه، ولَقَّنَه إِياه فَهَّمه"، فالعملية تعتمد على جهد ذاتي لتحقيق الفهم والاستيعاب، ثم التطبّع بالسلمية ولتكون الصفة لصاحبه في المجتمع.
واذا كان الدين يدعو الى السلم والسلام نظرياً من خلال كلمات يرددها المصلي يومياً، الى جانب الصلوات المستحبة، فان المنظومة الاخلاقية تدعو الى تبني هذه المسألة عملياً عندما يدرك الانسان البواعث لهذا التلقين او التفهيم الذاتي لنفسه، كما هو الحال في مسائل اخرى واردة في سورة الفاتحة التي تقرأ في كل صلاة؛ واجبة او مستحبة، مثل؛ الاقرار بالعبودية لله، او التأكيد على الاستعانة بالله وحده لا غيره، او طلب الهداية، فما الذي يجبره ان يكون مسالماً مع الناس، وهي الصفة التي يراها الكثير في عالمنا اليوم، مدعاة للضعف؟
سماحة المرجع الراحل يجيب عن هذا التساؤل، ليس في هذا المقطع الصوتي، وإنما في كتابيه: "السبيل الى انهاض المسلمين"، و"اللاعنف ثقافة وسلوك"، حيث يشير الى دور السلم واللاعنف في تماسك العلاقات الاجتماعية، ويتحدث سماحته في هذا الكتاب (اللاعنف) بأن "من الثمار الإيجابية لأسلوب اللاعنف في الحياة هو انتشار الأمان والطمأنينة بين الناس"، ويستشهد في ذلك باحاديث كُثر عن المعصومين، عليهم السلام، منها ما جاء عن أمير المؤمنين، عليه السلام: "ما استجلبت المحبة بمثل السخاء والرفق وحسن الخلق"، وفي كتاب "السبيل" يكشف ما يعدها –رحمه الله- بانها "حقيقة" بأن "العنيف عنيف من الاصدقاء ومع الغرباء والاعداء، واللّين يكون ليّناً مع الاصدقاء ومن البعداء"! موضحاً أن الناس عندما يجدون صفة العنف ملازمة لشخص ما، او تجمع ما في تعاملها مع الاعداء، فانها تتوقع أن يتجه هذا العنف نحوها يوماً ما، وهذه "الحقيقة" نجدها متجسدة في كثير من البلاد الاسلامية التي شهدت في البداية نضالاً ضد الديكتاتورية والاستعمار تحت شعار نصرة المظلومين والمستضعفين، ولكن؛ ما لبثت أن حملت هذا النهج في السلوك عندما وصلت الى الحكم، فراحت تمارسه ليس ضد الاعداء، و انما ضد ابناء البلد!
ولذا يؤكد سماحة المرجع الراحل على أهمية السلم والسلمية في تحقيق الإصلاح والتقدم لدى الأمم، ويكفي أن نراجع الحركات الثورية في العالم وتجربتها في التغيير، وكيف أنها انتهجت الكفاح المسلح كخيار أساس في نضالها، فدفعت شعوبها الى حروب عصابات وأعمال عنف بحجة مواجهة عنف السلطة، بيد أنها، وبعد الانتقال من الثورة الى الدولة، وجدت أنها لا تُحسن من أمر الادارة والحكم سوى تدوير منهج العنف ليتحول الى مؤسسات عسكرية وأمنية، تفوق في امكاناتها المؤسسة الاقتصادية، والمؤسسة التعليمية.
دعوات مناقضة للسلمية
ليس من السهل أن يحدث الواحد منّا نفسه بأن يكون مسالماً، وليّناً وهو يسير بسيارته وسط الزحام، أو يتدافع مع مراجعين في دائرة حكومية، الى جانب ما نشهده اليوم في العراق، وفي بلدان أخرى من حراك جماهيري معارض للسياسات الحكومية الفاشلة المؤدية الى تفشي الفساد والظلم بحق الناس، وفي كل هذه الاحوال يريد الجميع أن يصلوا الى أفضل النتائج وبأسرع فرصة ممكنة، وهذه الاستعجال هو الذي ربما يؤدي الى نتائج عكسية وسلبية، وهنا يكمن الاختبار في القدرة على التلقين الكامل والناجح للنفس بالسلمية، و ابعادها عن مشاعر الغضب والانتقام، وهذا ما يفعله القادة الناجحون الذين أشار اليهم سماحة المرجع الراحل في المقطع الصوتي. ولكن!
تظهر عوامل محفزة بالاتجاه المغاير، وتحث على العنف والصدام من خلال إثارة اوضاع نفسية خاصة تبتلى به بعض الشعوب المأزومة نذكر منها اثنين:
الأول: إثارة مشاعر الضِعة والاستضعاف على يد الطرف المقابل، وهذا يبدأ من الطفل الصغير في المدرسة، ثم في الجامعة، وفي محيط العمل، وحتى العلاقة بين المجتمع و مؤسسات الدولة، فيكون الحديث المباشر او المُلقّن بأن الظلم او الاجحاف لا يمكن السكوت عليه، ولابد من رد فعل فوري وحاسم مهما كانت النتائج.
الثاني: تكريس التسطيح في الوعي من خلال تضييق مساحة التفكير ليكون الهمّ في امور محدودة بعيداً عن الصالح العام، ثم التحكم بمسارات التفكير وقيادتها الى الجهة المطلوبة.
وفي كتابه "اللاعنف" يُعزي سماحة الامام الشيرازي "انتشار العنف الناتجة من الاختلاف السلبي الى "قلة الوعي وضيق الأفق، وخير شاهد على ذلك: أننا نرى في البلدان التي يحكمها حزب واحد أن هذا الحزب يمسك بزمام الأمور بالقوة والعنف ويفرض وجهة نظره على كافة الأصعدة ويخضع الآخرين لأسلوب تفكيره، فتكون نسبة الخطأ في اتخاذ مواقفه عالية جداً لأنه ينظر للحياة من زاوية ضيقة".
إن مفهوم السلام، وممارسة السلمية، مشروع يتبناه الفرد، كما تتبناه الجماعة في الامة، لان هذه الحالة الحضارية لها مدخلية في جميع شؤون الحياة، بدءاً من الأسرة الصغيرة، ومروراً بدائرة الاصدقاء والزملاء وعموم المجتمع، ثم العلاقة بين هذا المجتمع ونظام الحكم ومؤسسات الدولة.
فالاستقرار والأمان والتقدم لن يتحقق بالعنف والقسوة مهما كانت الاسباب، وهذه الحقيقة تؤكدها شواهد من شعوب وأمم سادت ثم بادت، بل وتؤكدها تجارب دول ترفع اليوم شعار قوة السلاح والمخابرات والمال لتطويع دول العالم الاخرى، فلم تحصل سوى العلاقات المتوترة وأجواء الحرب واتهامها من قبل العالم بالعدوانية والوحشية عندما تضطر لقتل المئات والآلاف لتحقيق مصالحها الخاصة، وهم في ذلك ربما يجسدون مقولة الفيلسوف الالماني، نيتشه الذي يقول: "أقوى وأسمى إرادة في الحياة لا تتمثل في الكفاح التافه من أجل الحياة، وإنما في إرادة الحرب، وهي إرادة السيطرة".
ولمن يراجع سيرة المعصومين، عليهم السلام، بدءاً من النبي الأكرم، ثم أمير المؤمنين، ومن بعده أبناؤه، يجد أنهم أفادوا ابناء عصرهم بالأمان والاستقرار، وتقديم كل شيء على طريق سعادة وتقدم الامة، علمياً وثقافياً ودينياً ايضاً، من خلال إشاعة ثقافة السلام، وتحملوا في هذا الطريق كل أشكال الضغوط والاستفزازات، وما يزالون يضيئوا للعالم رغم مرور قرون من الزمن على غيابهم عن الحياة، والعالم المسلم وغير المسلم وغير المسلم يقر بفضلهم في منجزات مختلفة بالحياة، بالمقابل نقرأ عن الحكام الأمويين والعباسيين، ومن على شاكلتهم، وما انتهجوه من عنف ودموية، فانهم باتوا لعنة التاريخ والاجيال لما تسببوا به من إراقة الدماء، والتسبب في تخلف الامة وتقهقر الحضارة الاسلامية.