اللاعنف مع المعارضة منهجٌ نبوي
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2019-12-30 09:16
اللاعنف في أوضح تعريفاته، هو لجوء الحكومة أو السلطة بكل أشكالها لأسلوب غير عنيف في التعامل مع الآراء والأصوات المختلفة معها، أو المعارضِة لها، وهو منهج نبوي حرص الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، على ترسيخه في بناء دولة المسلمين الأولى، وسعى كي يجعل منه منهجا وسلوكا في إدارة الدولة والمؤسسات بكل أنواعها وأحجامها، من أكبرها نزولا إلى أصغر مؤسسة وهي العائلة.
أما مصطلح (المعارضة)، فيعني في السياسة وفي الاستعمال الأكثر عمومية، أنهُ يشمل أية جماعة أو مجموعة أفراد يختلفون مع الحكومة، ولو أن المصطلح يمكن أن يصف المعارضة المتعلقة بالقضايا في إطار تشريع واحد أو اقتراح سياسة، وغالبا ما تنشط وتدور المعارضة في الإطار الشرعي وضمن المؤسسات الثابتة. ففي بريطانيا العظمى، يتيح التشريع الرسمي في الدولة للمعارضة ممارسة نشاطها بملء حريتها، غير أن المعارضة قد ترفض أحيانا النظام السياسي القائم فتتمرد عليه، وخلاصة القول، تضم المعارضة الأشخاص والجماعات والأحزاب، التي تكون مناوئة، كليا أو جزئيا، لسياسة الحكومة.
الحكومات الإسلامية والعربية لم تأخذ بالمعارضة، ولم تتعلم كما يجب من حكومة الرسول صلى الله عليه وآله، كما أنها كطبقة سياسية أخفقت في معرفة وتمحيص تجربة الإمام علي عليه السلام، واعتماده اللاعنف مع معارضيه، علما أن مصطلح المعارضة في السياسة مقترن بالأحزاب أو أي مجموعات أخرى تعارض حكومة، مجموعة سياسية أو حزب سواء في منطقة أو مدينة أو دولة. وتختلف درجة المعارضة من بلد إلى آخر ومن نظام سياسي إلى آخر، في الأنظمة السلطوية أو الليبرالية، وقد تكون المعارضة مرفوضة أو مسموح بها.
ومن المؤسف حقّا أن يتلكّأ الساسة في الدول الإسلامية بمجال التعامل الصحيح مع المعارضة، بالإضافة إلى إخفاقهم في الأخذ باللاعنف كطريق لمعالجة الاختلافات والمشكلات التي تواجه الحكم من قبل الأصوات المعارضة، والآراء التي لا تلتقي مع الرأي الرسمي، لذلك نجد في بعض البلدان وخاصة في العالم الثالث قد تتحول المعارضة السياسية إلى معارضة مسلحة، وهذا ما قد يسمى تمرد مسلح أو ثورة أو قد تتدهور الأمور لتصل إلى ما يسمى بالحرب الأهلية.
ومنْ يسعى لاستجلاء بعض تجارب المسلمين السياسية الناجحة بجدّية، فإنه سوف يجد دروسا عظيمة وظّفها آخرون قبل المسلمين في إدارة السلطة والتعاطي مع المعارضة، ولعلّ من أهم ما تميّزت بها التجربة القيادية الإسلامية الناجحة، هو اعتمادها بشكل كلّي على اللاعنف، والابتعاد عن القمع وسفك الدماء، وعدم التشبّث بالسلطة بشكل مطلق كما يجري في بعض الحكومات الإسلامية.
حق المعارضة والاحتجاج مكفول
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي، (رحمهُ الله) يقول في كتابّ الثمين: (على رأس المسائل المهمّة التي نالت اعتناء وتأكيدات الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، والأئمّة الأطهار عليهم السلام، هي مسألة اللاعنف مع الرعية، فبين فترة وأخرى تجد أنّ الرسول الأعظم وأهل بيته الطاهرين يوصون الولاة فضلا عن السلاطين والحكّام بالرفق برعيتهم وعدم البطش بهم).
وقد كان حق المعارضة والاحتجاج والرفض مكفولا لجميع المعارضين، حتى من غير المسلمين، فالأقليات كانت حرية الرأي لها مكفولة، وحق المعارضة والاختلاف في الرأي مكفول أيضا، بل أحيط هذا الرأي من الدين الإسلامي بالقداسة، وجعله حق غير قابل للتضييق أو التسويف أو المخادعة، نعم هو لم يكنْ يسمى آنذاك بحق المعارضة، لكنّه حق مضمون لكل من يريد أن يعارض الحاكم والحكومة في قراراتها أو طبيعة سياسيتها.
وهذا ما أكّده الإمام الشيرازي في قوله: (بلغت سياسة الإسلام في اللاعنف والسلم، قدراً من القداسة بحيث إنّها أتاحت المضمار لشتّى الطوائف على مختلف مشاربهم وأفكارهم في أن يبدوا آراءهم واعتراضاتهم إزاء كلّ شاردة وواردة تطرأ على الساحة، وهذا ما يسمى بحرية المعارضة وحقوقها).
في عهد الرسول صلى الله عليه وآله، كان الجميع أحرار فيما يقولون ويرتئون ويعلنون آراءَهم المعارِضة والمختلفة مع سياسة الدولة، وهذا يعني أن أعظم وأول قادة المسلمين بدأ بهذا المنهج وتمسّك به، واعتمده كمنهج فكري وسلوكي في دولة المسلمين الأعظم، وهذا ما يثبت بأن مبدأ قبول المعارضة وحرية الرأي وعدم التضييق عليه أو محاصرته أو منعه، هو مبدأ ومنهج الرسول الأكرم، وقد ألزم نفسه به وألزم معاونيه أيضا، وأخذه عنه تلميذه الإمام علي عليه السلام الذي لم يحدْ عن ذلك وتعامل مع معارضيه بعيدا عن العنف وفرض الرأي أو سياسة الحاكم بالقوّة، وهذا ما نحن كمسلمين وعراقيين بأقصى حاجة له في إدارة السلطة والحكم والتعامل مع من يرتئي غير ما تراه وتقرره السلطة الحاكمة.
الإمام الشيرازي يقول حول ذلك: (في عهد رسول الله صلى الله عليه وآله، ممثّل الإسلام الأوّل ورافع راية النبوّة الخاتمة، كان المعارضون حتى من غير المسلمين، يبدون اعتراضاتهم بكلّ صراحة ودون أيّة مخافة، وكان رسول الله يتقبّل ذلك بصدر رحب ويتعامل معهم بكلّ حفاوة واحترام، ولم يلجأ يوماً ما إلى العنف والبطش معهم أبداً).
لماذا يتخبّط الحكام بامتيازات السلطة
فهل يحترم حكامنا اليوم معارضيهم، وهل الحكومات التي تتصدى لسدّة الحكم وأفرادها الذين يحكمون ويسيّرون شؤون بلدانهم، أخذوا بما اعتمده نبيّهم الأكرم في إدارة شؤون السلطة والأمة؟، أم أنهم لا زالوا يتخبّطون في مغانم السلطة، ويرون بأن الرأي الذي يعارضهم هو عدوّهم، ويذهبون إلى إلصاق شتى التهم والتخوين به، ثم يشغّلون أدوات التسقيط بأسوأ الأساليب وأخشنها، تخلّصا من معارضيهم، واقعنا الراهن يؤكّد أن حكامنا لم يأخذوا بمنهج اللاعنف ولم يتعلموا حتى الآن كيف يحتمون من يعارضهم في الرأي.
ولا يقتصر نجاح اللاعنف مع المعارضة السياسية وحدها، فهو منهج حياتي شامل يمكن أن ينجح في إدارة المؤسسات من أكبرها نزولا إلى الأسرة، بل حتى القادة العسكريين الذين يتّصفون كما يُشاع عنهم بالخشونة هم بحاجة أيضا إلى اعتماد اللاعنف واللين، كونه يقرّب الجميع منهم، ويجعلهم في مركز أكثر قوة وصلابة من خلال التأييد لشخصه وأسلوب إدارته، لذلك حتى القائد العسكري عليه أن يتخذ من اللاعنف طريقا له، وهذا لا يعني بأنه ضعيف أو غير شجاع، على العكس فإن ذهابه إلى اللاعنف يعني حكمة وشجاعة في إدارة الأمور الملقاة على عاتقه.
الإمام الشيرازي قال في ذلك: (ربما يتصوّر البعض أنّ القائد العسكري حتّى يكون موفّقاً فلابدّ أن يكون عنيفاً بحيث لا تعرف الرأفة والرحمة إلى قلبه سبيلا. ولكن هذا التصوّر ليس بصحيح، فليس العنف والبطش هما سر نجاح القائد العسكري الموفّق، بل على العكس تماماً ينبغي للقائد العسكري أن يكون ليّناً رؤوفاً مضافاً إلى أهمية كونه شجاعاً قوياً وحكيماً).
وأخيرا نضع أمام حكّام وحكومات المسلمين ما قاله الإمام علي عليه السلام في عهده إلى مالك الأشتر: (وإيّاك والدماء وسفكها بغير حلّها، فإنّه ليس شيء أدعى لنقمة ولا أعظم لتبعة ولا أحرى بزوال نعمة وانقطاع مدّة من سفك الدماء بغير حقّها، والله سبحانه وتعالى مبتدئ بالحكم بين العباد فيما تسافكوا من الدماء يوم القيامة، فلا تقوّين سلطانك بسفك دم حرام، فإنّ ذلك ممّا يضعفه ويوهنه ويزيله وينقله ولا عذر لك عند الله ولا عندي في قتل العمد).