خارطة البناء قبل الهدم والحد من إراقة الدماء
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2019-11-19 07:59
مقدمة:
دأب المرجع الديني الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي في خطابه النهضوي ومشروعه الإصلاحي على إقران البدائل والخيارات الواقعية القابلة للتطبيق مع ما يدعو اليه للتغيير في ميادين الاقتصاد والاجتماع والسياسة والامن والقضاء، وهذا لا بما نقرأه نظرياً فقط، بل ما لمسناه من تطبيقات عملية، وهي تعد من النقاط المضيئة في شخصية هذا المرجع والعالم الفذّ، فهو عندما كان يتحدث عن الاكتفاء الذاتي في سني الخمسينات والستينات –مثلاً- كان يشجّع الناس على شراء المنتجات المحلية من بعض السلع الاستهلاكية التي تصنع محلياً داخل العراق رغم بدائيتها وبساطتها، وعندما كان يدعو لمحاربة الافكار الوافدة من الخارج، كان يشيّد المدارس والمكتبات والحوزات العلمية، ويشجع الأدباء والخطباء والكتاب على المزيد من العطاء والابداع.
وفي هذا المقطع الصوتي نجد الامام الشيرازي متألقاً في إحكام الربط بين النظرية والتطبيق، وبين الافكار والواقع العملي عندما يطالب بصياغة البديل الأفضل لأي نظام فاسد يدعو الى تغييره والقضاء عليه، مؤكداً أنه يمثل نصف المهمة، يبقى النصف الأخر، وهو الأهم؛ صياغة البديل الصحيح ليعرف الناس أن المشروع التغييري إنما جاء لانقاذهم من الظلمات الى النور، وليس لإضافة معاناة جديدة على ما يعانوه.
لنقرأ معاً، ثم نستمع الى هذا المقطع الصوتي:
لا لتغيير الاسماء والوجوه فقط
"إن عدم تفكير المسلمين، وهم في مرحلة الغليان ضد النظام الأموي، بالبديل المناسب لهذا النظام الفاسد، والاقتصار فقط على التفكير بالإطاحة به، هو الذي تسبب بصعود نظام فاسد آخر، وهو النظام العباسي الى قمة الحكم، ولذا لم يتغير شيء في الواقع سوى الإسم، بينما بقي الظلم، والاضطهاد، والاستئثار بالسلطة والثروة، وكبت الحريات، وملء السجون، وغيرها من السياسات التعسفية.
نعم؛ علينا التفكير بهدم الانظمة السياسية الجائرة والفاسدة في بلادنا الاسلامية، والتي صنعها المستعمر من الخارج، والأهواء والمصالح من الداخل، ولكن! هذا لا يعني أننا لا يجب أن نفكر بكيفية بناء دار عصري على أنقاض تلك الدار الخربة؟ وكيف نبني حكومة إسلامية مطابقة للعصر، حتى ننعم في ظلها بالحريات الاسلامية وكل ما جاء به الدين من أحكام وأنظمة وقوانين حضارية؟
هنالك أسئلة لابد من الاجابة عليها بوضوح ودقّة لمن يريد القضاء على الواقع الفاسد واستبداله بواقع جديد أفضل منه، مثل؛ كيفية إعادة الحريات الاسلامية؟ وكيفية توزيع القوى والامكانات على مؤسسات الدولة؟ وكيف نتمكن من تشكيل الاحزاب، وإعطاء الحريات للرأي والتعبير؟ وكيف نتمكن من بناء اقتصاد اسلامي لا يعتمد على النظريات الاشتراكية ولا الرأسمالية؟ وكيف نتمكن من محاربة الضرائب اللاإسلامية؟ وغيرها من الاسئلة المتعلقة ببناء الدولة ومؤسساتها".
الحماس والاندفاع خطوة أولى
من المعروف أن الثورات والحركات الإصلاحية في العالم لا تندلع إلا بسبب سوء تعامل الحكام وفساد أعمالهم وطغيانهم وظلمهم، فما يكون من النخبة الواعية والمسؤولة إلا التحرك لتغيير هذا الواقع الفاسد، وعندما لا يكون ثمة خيار للعلاج سوى الكيّ، عندها يحصل الصدام العنيف بين سلطات النظام الفاسد وجماهير الشعب.
إن الضغوط الشديدة التي يتعرض لها شعب ما يولّد بالضرورة رد فعل معاكس يكون شديداً كلما اشتدت الضغوط، وردود الفعل هذه تظهر بأشكال نراها اليوم في العراق، وفي كل مكان بمظاهر الغضب والمطالبة المشددة بالتغيير دون هوادة، وهذا بدوره يولّد حالة الحماس في النفوس وتشعره بوجود قدرات داخلية تدفعه لفعل الكثير لمواجهة تلك الضغوط والتخلص منها، وهي تتمثل اليوم في سوء توزيع الثروة، وتجاهل حملة الشهادات الجامعية، وفشل في ميادين عدّة، ليس أقلها الخدمات، وازدياد نسبة الفقر والبطالة.
ورغم الانتقادات الواردة على بعض مآلات هذا الحماس والاندفاع بسبب احتمال انزلاقه نحو العنف والدموية والفوضوية، بيد ان جوهر القضية لا يتنكّر له أحد، بل نجد الكتابات والتحليلات المُنصفة تتجه الى التقويم والتسديد بغية استثمار هذه الفرصة الذهبية لتحقيق اكبر المنجزات من هذا الحراك المطلبي.
هذا على صعيد الميدان، أما على الصعيد الثقافي فان هناك مساعي تبذل لتوسيع مساحة هذا الحماس في المجتمع، ولاسيما بين الشباب الذي يمتلك القدرة الذهنية، والقدرة العضلية ايضاً، وتكون هذه المساعي ناجحة في كثير من الاوقات كون هذه الشريحة مستهدفة دائماً من قبل الانظمة السياسية الموغلة في الديكتاتورية والقمع، وايضاً في الانظمة الفاشلة في الديمقراطية، كما هو حال النظام السياسي القائم في العراق الذي ابتلي بسرطان الفساد الى درجة قاتلة، بات الكثير يعربون عن يأسهم من امكانية إصلاحه وتعافيه، الامر الذي يتطلب زخماً حماسياً عظيماً لإحداث هزة عنيفة في الواقع السياسي بُغية تغييره بالكامل اذا تعذر إصلاحه، وهو ما نلاحظه من إصرار وصمود المتظاهرين والمحتجين في بغداد ومدن اخرى على التنديد بالنظام السياسي برمته وليس بالحكومة وحدها.
وقفة تأمل لاستشراف المستقبل
من البديهي القول بضرورة إستتباع الحماس والاندفاع لخطوات أخرى تكميلية من شأنها استثمار كل التضحيات في طريق التغيير، بيد ان البديهية هذه ليس بالضرورة ان نجدها في الشارع الغاضب والفاقد للثقة من حكومته، بل ومن نظامه السياسي، لذا نجد تدرج الشعارات؛ من فرص العمل والسكن، الى إقالة الحكومة، ثم تغيير النظام السياسي والقضاء على سلطة الاحزاب والمحاصصة السياسية التي تقوم عليها التجربة الديمقراطية في العراق، بما يعني أن الشباب المتظاهر –تحديداً- ليس له الفرصة للتفكير بالبديل عما يريد القضاء عليه، هذا الطريق المسدود هو ما يحذر منه سماحة الإمام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، فهو يدعو الى القضاء على الانظمة الفاسدة في البلاد الاسلامية، بيد أن هذه الخطوة يجب ان تكون مسبوقة بخطوة متقدمة؛ وهي صياغة البديل الأفضل، فالجماهير العراقية اليوم تنادي بعالي صوتها أن تريد القضاء على الفساد والفاسدين، ولكن هل هنالك آلية محددة تأتي بنظام حكم نزيه وصالح يضم مخلصين للوطن، ولو بنسبة معينة؟
ولا أدلّ على ما نقول من نفس النظام السياسي الفاشل المتلبس رداء الديمقراطية في العراق، فقد كانت الاصوات المعارضة للنظام السابق له، تصدح بالمطالبة بإسقاطه بدعوى أن مجرد إزاحة صدام حسين من الحكم تُحل جميع مشاكل العراق الاقتصادية والسياسية وحتى الثقافية، وعندما شاهد الناس كيف تهوي تماثيل صدام في بغداد وسائر المدن، فوجئوا بأن مشروع التغيير لم يكن بالاساس متوافقاً مع أحلامهم وطموحاتهم، فجاءت صياغة النظام البديل على يد وزارة الدفاع الاميركية ووكالة المخابرات المركزية، بما يتناسب والمصالح الاميركية في المنطقة، وليس بما يتناسب وواقع الشعب العراقي وتطلعاته المستقبلية. فجاء النظام الديمقراطي بنمط توافقي غير مسبوق بين أحزاب سياسية قائمة على ولاءات قومية وطائفية، وليست وطنية، ومن دون معارضة سياسية، فالكل يحكم ويتقاسم السلطة والامتيازات والثروات.
واليوم الكل ينادي ويهتف بإلغاء الاحزاب السياسية –مثلاً- دون أن يعي أهمية الاحزاب في قيادة الحراك المطلبي في حالة المعارضة، ودوره في تمثيل المواطنين في البرلمان وفي المشاركة السياسية بشكل عام، الامر الذي يستوجب قبل أي شيء، صياغة البديل الأفضل لما موجود حالياً في العراق، بدلاً من قتل الوقت وإنقضاء الاسبوع تلو الاسبوع ثم دخولنا الشهر الثاني للاحتجاجات، والمتظاهرون ينتظرون من رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تقديم استقالته، فيما يطالب آخرون بتغيير النظام السياسي برمته، وربما تكون فوضى الفراغ السياسي اذا ما رضخ عبد المهدي للاستقالة يوماً ما، أمضّ على العراقيين مما هم عليه الآن.