عندما أُنصِتُ لمحاضراته
كأنّه أمام ناظِريًّ يخاطبني
عقيل ناجي
2019-05-20 04:37
قال أهل اللغة في الإنصات هو الاستماع، وأنصت له أي أحسن الاستماع لحديثه، وأنصت لكلامه باهتمام بالغ، وفي القرآن الكريم (وإذا قُرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا)،(1) ويقول الإمام الشيرازي في (تبيين القرآن): "الاستماع بسكوت"،(2) وبالسكوت أثناء استماع المحاضرة يتحقق الانصات بانتباهٍ وتركيز.
وهذا بالضبط ما أستحضره في ذاكرتي وأنا أستمع إلى محاضرات المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي، حيث أنسى كلّ شيء خلفي وأركّز في الإنصات لكل كلمة يقولها في محاضرته، والإنصات إليه لا يأتي بتقصّد مُتكلَّف، وإنما يأتي بشكل عفوي لأنه يأخذك بكلّ لطف ويجذبك إليه بكلّ حنان، إنّه يُنسيك حتى استحضار نية التقصّد ذاتها، بل ينسيك فكرة التكلّف ويحوّل ذلك إلى تفاعل إيجابي من أوّل ثانية، إنه يُدهشك لدرجة كبيرة، بحيث تجد نفسك مُرتبطاً معه بكل هدوء وسكوت في كلّ كلمة يقولها، وفي كل فكرة يسردها، وفي كل مفهوم يشرحه، وفي كلّ قصة يقصّها، وفي كلّ آية يتلوها، وفي كلّ حديث يتحدث به ويرويه، وفي كلّ جدلّ يُدلي به، وهكذا.
كنت قد استمعت إلى الكثير من محاضراته أثناء دراستي المقدمات في حوزة الإمام الباقر (ع) بمشهد المقدسة من بداية عام 1405هـ حتى نهاية عام 1407هـ، كما استمعت لأغلب المحاضرات المُسجلة في (اليوتيوب) أثناء تحضيري لمادة كتابي (معجم ما قرأ الإمام الشيرازي "قده")، وكتاب (الإمام الشيرازي راوياً للشعر العربي)، واستفدت من كل المحاضرات التي استمعت وأنصت إليها أيّما استفادة، لأنه بكل صراحة كان يدخل في قلوبنا بكلّهِ، لا بأفكاره فقط، لذلك بقي في قلوبنا إلى يومنا هذا، وسيبقى معنا إلى الأبد.
وكم لاستماع المحاضرات والإنصات إليها بشكل مُركّز من فوائد عديدة، لأنك أخي العزيز عندما تتفاعل وجدانياً من الخطيب أو المحاضر وتؤمن بالأفكار التي يسردها على المنبر أو من خلف المنصة أو على كرسي الإلقاء مُدللاً على صحتها بمختلف الأدلة العقلية والنقلية، فإنك لن تتنازل عن هذه الأفكار مطلقاً بل ستجد طُرقاً أخرى للتدليل على صحتها، وستتعصب لها تعصباً حميداً، كما ستطبقها على واقعك الخارجي، وستجد مصاديقاً كثيرة تستحق أن تطبق هذه الأفكار عليها.
هذا باختصار ما وجدته في أفكار الإمام الشيرازي حتى لو كانت هذه الأفكار ذكرها في محاضرة مُسجلة ألقاها في فترة تواجده بالكويت مثلاً، وهي في العقد الأخير من السبعينيات الميلادية، حيث أن الحق الذي نطق به الإمام الشيرازي هو هو لا تغيره ظروف مكانية ولا زمانية، وإنما الذي يتغير هو الأسلوب، فلكل زمان أساليبه وطُرُقه، ولكن المبدأ والقيمة لا يمكن أن يطرأ عليهما التغيير بحيث تكون قيمة الصدق مثلاً حسنة في ذلك الزمان، وسيئة في هذا الزمان، فهذا من سابع المستحيلات، لذلك فإن كل ما طرقه الإمام الشيرازي "قده" في محاضراته القديمة له قيمته حتى عصرنا الحاضر، بل سيظل له قيمته حتى في المستقبل، فهو لا ينظر بمنطق تفكيره إلى الوقت الذي يحاضر فيه فقط، وإنما ينظر بعين ثاقبة وبصيرة بعيدة المدى، على المستويين الجغرافي لكل بقاع الأرض لا سيما خارطة العالم الإسلامي، وكذلك المستوى الزمني بدءً بتاريخ الأنبياء والمرسلين وخاتمهم الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) وعصور الأئمة (عليهم السلام) حتى عصرنا الحاضر، والعصور القادمة القريبة والبعيدة.
من العلماء الذين تعلمت منهم فن الإنصات هو الإمام الشيرازي نفسه، فأنا لا زلت أتذكر قسم (الصوت الرسالي)(3) بحوزة الإمام الباقر (عليه السلام) بمشهد المقدسة، وقد عملت فيه منسقاً فترة من الزمن، مع مجموعة من الزملاء في الحوزة، ولا زلت أتذكر الكثير من المحاضرات التي استمعت إليها لسماحة السيد المرجع الراحل، وبالذات سلسلة محاضرات (حكومة الألف مليون مسلم)، فهي فكرة جذّابة لا يمكن للطالب أن يملك عدم الاستماع والإنصات إليها، لأنه عندما يتحدث في خطابه كأنه يشدَّ أُذنيك بحبل ما إلى صوته المبارك، فلا تملك إلا أن تستمع إليه وتنصت جيداً، إنه يقدم لك وجبة طعام مفيدة جداً، ولكنها ليست من قبيل الطعام الذي تتناوله بيمينك لتضعه في داخل فمك؛ ثم تمضغه جيداً ثم تبلعه ليكون مستقرة في معدتك؛ ومن ثم يأخذ مجراه الطبيعي فيمتصه جسدك؛ وتتغذى به جميع خلايا بدنك.
لا إنه ليس من هذا القبيل، إنه طعام الفكر، وقد تحدث بعض المفسرين إلى قوله تعالى (فلينظر الإنسان إلى طعامه)،(4) أي إلى فكره الذي يتلقاه من الآخرين سواء بالاستماع أو بالقراءة، ولعلّ هذا المفهوم من الآية أحد المصاديق الممكن تطبيقها على هذه الآية، والفكر الذي تستمع إليه وتنصت له والذي يحتاج إليه دماغك القابع في جمجمتك، إنه يبرمجها ببرمجة عجيبة، وما أحسنها من برمجة لا يوجد فيها سوى الخير والمبادئ والقيم والفضائل، إنه يوجه دماغك إلى وجهة سليمة، تتمنى أن تصل إليها، ولن تصل إليها إلا بهذه الطريقة الجميلة، من أساليب الخطاب وطريقة العرض، وفن تسويق الفكرة، وإغراء الدماغ بالمفاهيم الجذّابة، وإضاءات من المعارف المدهشة، وأشعة متنوعة من الثقافات المفيدة، وخرائط ذهنية تدعمها الأشكال الهندسية التي تتشكل بشكل غير مباشر في صفحة دماغك ويدعمها سماحة السيد ببعض الإحصاءات والأرقام، فإذا بك تجد هذا الدماغ قد أخذك إلى أماكن لم تكن تحلم أنك ستصل إليها بمفردك، كان لابد من قيام أحدهم بقيادتك إلى تلك الأماكن، ومن التوفيق الإلهي أن يكون سماحة السيد المرجع الراحل هو هذا القائد لكل من استمع وأنصت وانجذب إليه من أول خطبة ألقاها في كربلاء المقدسة حيث بدء انطلاق نشاطه الديني والحضاري، حتى آخر خطاب ألقاه قبيل وفاته في قم المقدسة في الأول من شهر شوال 1422هـ.
الذي لا زال عالقاً في ذاكرتي بهذا الشأن من مرحلة الدراسة في الحوزة العلمية بمشهد المقدسة، هو المحاضرة الأولى التي استمعت إليها مباشرة أثناء حضور مجموعة من طلاب الحوزة في مجلس الإمام الشيرازي في قم المقدسة، وكنت قد رسمت في ذهني كل تلك المشاعر عن هذا العَلَم العظيم، ولكنني عندما حضرت في مجلسه واستمعت إلى تلك المحاضرة التربوية التي ألقاها علينا، كانت المفاجأة عندي أكبر من ذي قبل، لأنني في السابق عندما لم أرَ السيد المرجع ولكنني أستمع إلى صوته وأرى صوره فقط كان بالنسبة لي رجلاً عظيماً وكنت أراه بعيون قلبي، ولكنني عندما رأيته بأمّ عيني ازدت تعلقاً به، وتمنيت أن ألتحق بإحدى الحوزات العلمية التي يشرف عليها أو هي تحت إدارته مباشرة، ولكنني لم أستطع أن أبوح بهذه الأمنية لأيٍّ كان، فالظروف لم تكن مهيأة لذلك.
وأستشهد في أثناء حديثي عن تجربتي الشخصية في الاستماع لمحاضرات الإمام الشيرازي بهذه النتفة من شعري أصف فيها حالة الإنصات لمحاضرات هذا الرجل العظيم، الذي لا يزال صوته يرنّ في أُذناي حتى هذه اللحظة.
سأُنصِتُ للعظيمِ فذا خِطابُهْ*****يُثيرُ بيَ السؤالَ وذا جوابُهْ
سأسألُ في الحياةِ لنَيلِ نُجْحٍ*****ونُجْحُ المَرءِ حقّقُهُ غِلابُهْ
تحدّثُ بالفضيلةِ طولَ عُمْرٍ*****وبحرُ العلمِ ينفعنا عُبابُهُ(5)
فالإمام الشيرازي لا يزال يثير فينا الكثير من الأسئلة المصيرية، بما يتعلق بأنفسنا ذاتها، وبما يتعلق بأسَرِنا، ومجتمعنا الصغير في مدننا وقرانا، وبما يتعلق بمجتمعنا الكير، وبما يتعلق بأمتنا كلها، بل وبما يتعلق بالإنسانية جمعاء، ولا يطرح كل تلك الأسئلة لمجرد طرحها، بل ليجيب عليها، ويطلب منا أن نفكر ونستنتج ونقتنع بأن الحياة الحقيقية هي حياة العز والكرامة والسؤدد وليست حياة الذل والمهانة والتبعية العمياء، إنه يدعونا أن ننال المجد الحقيقي للأمة الإسلامية، وأن نورث هذا المجد إلى أجيالنا القادمة.
ومن لطيف ما قرأت عن أهمية الاستماع وآدابه ما كتبه الدكتور وليد بن طراد الشمري، وهو أحد المتخصصين في فلسفة المناهج وأساليب تدريس اللغة، حيث يقول ما مختصره عن أدب الاستماع: " يجب أن يلتزم المستمع بمجموعة من الآداب وهي كالآتي:
1- النظر للمتحدث وتركيز العينين عليه ليشعر بالاحترام والتقدير.
2- عدم مقاطعة المتحدث.
3- الجلسة الصحيحة احتراماً للمتحدث.
4- التفاعل بعد الانتهاء من حديث المحاضر، وهذا يُشعر المحاضر بالاهتمام.
5- المشاركة، حيث يلزم على المستمع بعد الانتهاء من حديث المحاضر أو المتحدث أن يشارك في آرائه ويمكنه أن يناقش المحاضر أو المتحدث في هذه الآراء.
أما من حيث النظر للمحاضر أو المتحدث فإن المحاضرات التي حضرتها مباشرة للمرجع الراحل معدودة على أصابع اليد الواحدة، لذلك فإن جميع المحاضرات الأخرى التي استمعت إليها عبر الكاسيت، والسيدي، واليوتيوب، أو عبر بعض الفضائيات، فهي كثيرة جداً، وعندما كان يُلقي محاضرته أشعر كأنه أمامي ناظري وهو يُلقي عليَّ بدرر فكره ووعيه ورشده.
أما من حيث عدم مقاطعته فهذا ما تستحضره كلّ جوارحي ولله الحمد، أما عن الجلسة الصحيحة فجلستي للاستماع إلى محاضراته تكون في معملي الخاص أي مكتبتي الخاصة التي قرأت فيها مئات الكتب، واستمعت فيها إلى مئات المحاضرات والدروس، فهي جلسة الطالب يستمع إلى أستاذه على أيّ حال.
أما من حيث التفاعل بعد الانتهاء من الحديث أو المحاضرة، فيمكنني أن أحدث عن ذلك إلى ما لا نهاية، لأنني أؤمن بكل ما يقول لأنه باختصار لا ينطق إلا عن دراية تامة بكل ما يتفوّه به، إنه ينطلق من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم وتراث آل بيت محمد عليهم السلام، وما اجتمع عليه العلماء عبر التاريخ الإسلامي حتى عصرنا الحاضر، حتى تعلمنا منه رحمه الله منطق التفكير السليم من خلال محاضراته، بشكل تطبيقي مباشر، وعندما قرأنا المنطق ودرسناه وجدنا الإمام الشيرازي قد علمنا المنطق في العشرات من المحاضرات بطريقته الخاصة مُطبّقاً على الواقع المباشر.
أما من حيث المشاركة مع ما يقوله المحاضر أو المتحدث، فيكفيني ما أقوم به من تلخيص لبعض كتبه وبعض المطالب منها، وكذلك التعليق على بعض كتيّباته، وشرح بعضها كـ (خلاصة العروض)، والبدء بوضع خطة تهميشات وتعليقات وتطبيقات على (أبنية الصرف) و(المنصورية) و(البلاغة)، إضافة إلى ما قمت به منذ عام 2004م من شرح شعره المتمثل في (المدائح والمراثي)، و(الميلادية) و(في بلادي في بلادي) تحت عنوان (ديوان الإمام الشيرازي "قده".
هذا التفاعل الذي شعرت به من خلال تجربتي في الاستماع لمحاضرات المرجع الراحل كان نتيجة مباشرة من نجاح الإمام الشيرازي نفسه في الأخذ بمقومات الخطابة ونجاحها بأرفع المقاييس والمعايير المتعارف عليها عند المتخصصين، إنه بارع في خطابته الدينية، بارع في خطبته بصلاة الجمعة وخطبته لصلاتي العيدين، بارع في محاضراته التدريسية في مختلف العلوم الحوزوية التي قام بتدريسيها لطلابه عبر تاريخه كله.
يقول الدكتور خالد رُوشة، في دراسة كتبها بعنوان (التربية على حسن الاستماع) معلقاً على مقولة لابن القيم:
"يقول ابن القيم: فالسماع أصل العقل وأساسه ورائده وجليسه ووزيره، ولكن الشأن كل الشأن في المسموع، وحقيقة السماع تنبيه القلب على معاني المسموع وتحريكه طرباً وهرباً وحباً وبغضاً"، ويتابع الدكتور خالد معلقاً: "ولكننا كثيراً ما نقع في إشكالية كيفية التوجيه نحو هذا التفعيل المنهجي المطلوب نحو تمكين المربي من استغلال هذه الوسيلة والانتفاع بها بشكل مقدور".(6)
ومن خلال تجربتي الخاصة، ومن خلال ما اشتهر عنه عند الكثير من مُقلديه وطلاّبه أجزم بأن نجاح آية الله العظمى الإمام محمد الحسيني الشيرازي في محاضراته – وهي كثيرة جداً – هو الذي جذب إليه الكثير الكثير من الطلاب والمثقفين والمفكرين والفضلاء والعلماء، بل وحتى من عوام الناس ممن يرغب بالاستزادة المعرفية والحصول على زاد ثقافي يحصنه من الشبهات في هذه الحياة المزدحمة والمليئة بخليط عجيب من الثقافات المتناقضة، والثقافات البعيدة عن رسالة السماء وتعاليم الدين الإسلامي.
رحم الله آية الله العظمى الإمام الشيرازي فلقد علمني كيف أكون إنساناً مستمعاً ومنصتاً للحق بمعنى الكلمة، وليس إنساناً مُزيّفاً يستمع لكل ما هبّ ودبّ حتى للباطل والزور، لأنني أؤمن بالحديث الذي رواه "الحسين بن محمد، عن معلى بن محمد، عن أحمد بن محمد بن إبراهيم الأرمني، عن الحسن بن علي بن يقطين، عن أبي جعفر عليه السلام قال: من أصغى إلى ناطق فقد عبده فإن كان الناطق يؤدي عن الله عز وجل فقد عبد الله وإن كان الناطق يؤدي عن الشيطان فقد عبد الشيطان".(7)
وما هدفنا ولله الحمد إلا رضا الله في كل ما نسمعه ونصغي إليه من محاضرات وأحاديث هذا العالم الجليل، كيف لا وهو يدعو في كل كتبه إلى التقوى والورع والإخلاص في العبادة لله وحده، وما العلم والمعرفة إلا وسيلة من وسائل التعلق الحقيقي بالله عز وجل.