دوافع الاستفاقة من الركود إلى التقدم؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
2019-04-29 09:05
كانت ولا تزال الأمم في سباق محموم نحو التقدم، والتربع على القمم العالية له، يبتدئ ذلك من فكرة الارتقاء بالفرد من حيث التفكير والذكاء، وطرائق التعامل من الفرص التي عليه أن يصنعها بنفسه، ولا ينتظر قدومها بل يستبق حدوثها ويشارك في صنعها، أما إذا توافرت فرص التقدم للإنسان والأمة فمن الظلم والغباء أن يتركها تذهب هباءً.
ما الأسباب التي تكمن وراء خسارة الإنسان لفرص التقدم، لعلّ أفدح الأخطاء تحدث، حين تضمحلّ قيمة الوقت عند الإنسان، ويتساوى يوماه السابق واللاحق.
وقد قيل في التقدم بحسب المختصين، بأنه الحركة التي تسير نحو الأهداف المنشودة والمقبولة، أو الأهداف الموضوعية، التي تنشد ما هو خير، أو تنتهي إلى تحقق النفع، وينطوي التقدم على مراحل، تكون كلّ منها أكثر ازدهاراً أو أرقى من المرحلة السابقة عليها، كما تشير كلمة التقدم إلى انتقال المجتمع البشري إلى مستوى أعلى، من حيث الثقافة، والقدرة الإنتاجية، والسيطرة على الطبيعة، وقد رأى بعض مفكري القرن التاسع عشر في التقدم مصطلحاً، يشير إلى حركة نحو المنطق والعدالة، وتأكيد المساواة بوصفها جوهر العدل.
اقترنت فكرة التقدم، في أذهان العلماء، بالتغيّر؛ لأنها تتضمن الانتقال من البسيط إلى المركب، ومن الأقل تقدماً إلى الأكثر تقدماً ورقياً، والتقدم هو كل تغيّر في البناء النوعي الذي يُطلق النشاط الإنساني ويحفزه؛ ليعمل الناس في حرية وتعاون، كما ينطوي على هدف غالٍ، يتوخى خيراً، أو ينتهي إلى نفع، ولا بدّ لكلّ مرحلة لاحقة من مراحله، أن تكون أكثر ازدهاراً ورقيّاً من سابقتها.
التخلف هو نقيض التقدم، وهناك مجموعة من النظريات تبحث في التخلف - طبيعته وأسبابه ومعالجته- أطلقها علماء الاجتماع والاقتصاد في القرن العشرين، ودرست هذه النظريات الفوارق بين الدول المتقدمة والنامية من الناحية الاقتصادية والاجتماعية وقد قدمت هذه النظريات مجموعه هائلة من الأفكار من خلال الدراسات الميدانية والعلمية وعلى نطاق واسع، أشهر هذه النظريات (نظرية الاستعمار) التي ناقشت تأثيرات الاستعمار على الدول والنتائج التي ترتبت على هذه الدول.
ما أسباب الركود العقلي؟
بحث العلماء والمختصون في أسباب الركود البشري أو العقلي، والسقوط في فخ التراجع، وأشَّر العلماء أهم الأسباب التي تجعل الفرد يراوح في مكانه، أو حتى يتراجع إلى ما هو أسوأ، وعزوا ذلك إلى تضييع الفرص، واللامبالاة في التعاطي مع الزمن أو الوقت، وهذا ما يؤدي إلى حالة من التشابه في أيام الإنسان والأمة التي لا تقدّر قيمة الوقت، ولا تعرف كيف تتعامل مع الفرص المتوافرة لها.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يقول في كتابه الثمين الموسوم بـ (التعاون والعمل):
(الإنسان ـ كفرد أو كمجتمع وأمةـ إذا كان يوماه متساويين فهو مغبون، حيث ألحق بنفسه ضرراً واضحا يتجسَّد في عدم التقدم؛ لأن وقتاً من عمره مضى ولم يستزِد شيئاً جديداً في يومه الجديد).
هكذا يمكن للإنسان الفرد أو المجتمع أن يظلم نفسه، وذلك حين يصبح الوقت في نظره صفراً على الشمال، أو شيئاً لا قيمة له، وهذا يعني التوقّف عن منافسة الآخرين في الانطلاق نحو قمة التقدم، وحين يجلس أحد المتسابقين في منتصف الطريق بسبب عدم تقديره للفرصة، أو لتعبه، أو لعدم مبالاته، فإنه يسمح للآخرين بإرادته لكي يتقدموا عليه.
إنه يمر في حالة ركود، وقد يصل إلى ما هو أسوأ من ذلك، حين يكون وقته الحالي أسوأ مما مضى، وهذا يعني أنه في الأمس كان أفضل من اليوم في رحلة التسلّق المستمرة نحو القمة، أما من ينشد التقدم، فردا كان أو أمة، فإنه لن يقبل بأن يكون أمسهُ أفضل من يومه، بل يرفض حتى درجة التساوي بينهما من حيث الابتكار والتخطيط والإنتاج.
يقول الإمام الشيرازي: الإنسان الذي يتساوى يوماه (يمر بحالة من الركود والجمود، وأسوأ من ذلك هو الذي يكون يومه أسوأ من أمسه؛ إذ يمر في حالة من التراجع والتأخر، في حين أنّ حالة التقدم المنشودة لا تُستكمَل ولن تتحقَّق إلاّ إذا كان يومنا أفضل من أمسنا).
المقومات المادية والفكرية للنجاح
في العراق على سبيل المثال، هل بحث المسؤولون الرسميون، والنخب والقادة، هذه المشكلة التي نبّهَ عليها الإمام علي عليه السلام منذ أكثر من عشرة قرون؟، هل تعامل هؤلاء مع الوقت بما يؤكد احترامهم له، واستثمارهم للموارد القابلة للنفاذ والفرص التي هدرها دون وجع قلب؟، ولو أننا انتقلنا إلى الدول الإسلامية، فإننا لن نعثر على حال أفضل، هذا يجعلنا أمام المسؤولية المباشرة، لخوض رحلة التقدم مع الأمم الأخرى بضمير وشرف، لاسيما أننا نمتلك مقومات التقدم المادية.
لكن هذه المقومات لا تكفي وحدها لحصد النتائج المرجوّة، تماما كما لا يمكن للطير أن يحلّق بجناح واحد، لأننا بحاجة إلى المقومات الفكرية والروحية والأخلاقية، كي تتآزر مع المقومات المادية لإدامة الرحلة المتصاعدة نحو قمم التقدم.
نحن بحاجة - كي نتقدم- إلى العمل والتعاون فيما بيننا بإخلاص، فلا سبيل لجماعة أو أمة أو حتى فرد لبلوغ القمة، ما لم يكن ضامنا ومستندا لمقومات وشروط النجاح المادية والفكرية الأخلاقية، وهذا لا يمكن بلوغه إذا أقصينا العمل، وتحايلنا على الإخلاص، ورفضنا التعاون فيما بيننا!.
فالأمة الكسولة، والإنسان الخامل لا يمكنه تفادي مساوئ تشابه أيامه القاحلة، ولا يمكن للأمة التي تحترم الوقت والعمل، أن ترتقي سلّم التقدّم إلى القمة، ولا يمكنها خوض المنافسة التي لا تتوقف لحظة واحدة، ولعل النتائج الأخطر في هذا الحيّز، ليس بقاء الأمة في محطة المراوحة والاجترار فحسب، إنما سوف تتراجع إلى الوراء في تدهور وتدحرج متواصل نحو الدرجة الأسفل من بين الأمم!.
الأمة أو الفرد، إذا لم يضع أمامه مقومات واشتراطات التغيّر والتطور، لا يمكنه إلا البقاء في خانة الوقت الميّت أو المقتول، أمام مقومات التطور، فقد الإمام الشيرازي مرارا وتكرارا، وجعلها من أولويات تقدم الفرد والمجتمع.
يقول الإمام الشيرازي:
(هناك شروط ومقومات عديدة لتقدم الأمة وتطورها، ومن أهم هذه الشروط: الإخلاص والعمل الدؤوب. لأنّ الأمة التي لا تكون مخلصة لنفسها ومتعاونة فيما بينها، والأمة الكسولة التي لا تعمل، لا تتقدم مطلقاً، بل تتأخر يوماً بعد يوم).
اليوم علينا أن نقرأ خارطة العالم جيدا، وندرس تضاريس التغيّر والسباق اللاهث بين الأمم، وهناك خطوات تمهيدية فكرية وعملية، مطلوب أن نعدّها ونطبقها وفق قوانين الإخلاص والتعاون، كي نبقى في دائرة المنافسة التقدمية، وعلى قادة البلاد أن يقوموا بدورهم في جعل أيام الناس مختلفة تتنقل برشاقة من الأقل إلى الأكثر ومن الأدنى إلى الأعلى، مثال ذلك إدامة مبادرات دعم النزاهة كثقافة وسلوك، وتكريس التنظيم الجيد عبر منظمات ناجحة، ومحاصرة الأفكار المدسوسة الدخيلة الرديئة وتأشير مصادرها.
يقول الإمام الشيرازي:
(من المبادرات المشجعة على التعاون في عصرنا، تأسيس تنظيمات سياسية نزيهة تضمن استقلال بلادنا، وتمنع انتشار الأفكار الهدّامة وتسلل العناصر الشريرة إلى داخل المجتمع).
في النتائج، لابد أن نسعى، أمة وأفرادها، إلى تحاشي الانزلاق في تشابه الأيام، أو أفضلية الأمس على الغد، مع التركيز على طرد الخمول والكسل في تعاملنا مع الوقت، ومنحه ما يستحق من احترام، كونه طريقنا الوحيد نحو القمة.