أخطاء الحاضر مرآة المستقبل
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2019-01-07 04:50
التجارب الشخصية التي يخوضها الإنسان يمكن أن تعود عليه بفوائد عديدة، منها مثلا، تمنحه الدقّة والحكمة في اتخاذ القرار، وتمنحه أيضا قدرة على التراجع عن القرار الخاطئ، وتعطيه أيضا خبرات مضافة في العمل وسواه، ولكن الأهم فيما تعطيه التجارب للإنسان، قدرته على تكوين رؤية استشراف تكشف له حيثيات المستقبل، وهذه الخاصيّة التي يمكن للإنسان أن يستخلصها من تجاره، تجعل منه إنسانا ناجحا بعد أن تعرّكه التجارب وتجعل منه ذا عقل عارف ومجرِّب.
التجارب كما يُنظَر إليها، خزين هائل من الأفكار والخبرات التي تتوزّع على شقّين، الأول صقل التفكير وتطويره وتحسينه استنادا إلى ما مرّ به من أنواع وتركيبات فكرية مختلفة، يستطيع الإنسان من خلال التجربة أن يميّز صالحها من طالحها، لذلك تعد التجارب أفضل مرآة يمكنها أن تعكس صورة المستقبل للإنسان، وبإمكانه من خلالها تغيير وتطوير وتحسين خطواته وقراراته وأفكاره معاً.
الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، يرى في كتابه القيِّم، الموسوم بـ (العِبرة سبيل النجاة) بأن:
(الإنسان يمر في حياته العملية بمجموعة من التجارب والأعمال، وهذه التجارب سوف تعطي لصاحبها الوعي والبصيرة في المستقبل).
وتوجد خاصيّة كبيرة يمكن أن تهبها التجارب لصاحبها، حيث يمكن أن تشكل له معيارا سليما لقياس الخاطئ من السليم في الأفكار والسلوكيات، فالتجربة هي الغربال الذي يعزل فيه الإنسان أفكاره الجيدة عن المسيئة، وينطبق هذا على الأفعال أيضا، فالتجارب كفيلة بتزويد العقل بمعرفة حازمة يمكنه من خلالها، حصر أخطائه وعزلها والقضاء عليها من خلال تجريبه لبدائل صحيحة، هي الأخرى يمكن أن يتم إخضاعها للتجربة فإن صحَّت هذا يعني أنها بدائل صحيحة وإن فشلت فيتم مواصلة البحث عبر التجريب، فالتجربة هنا هي التي تصبح بمثابة عِبرة للإنسان، ولكن شرط أن يوظفها بطرائق سليمة تقيه مساوئ الأخطاء، وتمنحهُ قدرات إضافية على وضع الحلول المناسبة للهفوات والكبوات التي يسقط بها.
وكما قيل في الكلام المأثور (إنّ لكل جوادٍ كبوة)، فإن العقل والإنسان سيكون عرضة لمثل هذه الكبوة في الإطار الفكري أو التطبيقي، ولكن تبقى لديه إمكانية كشف المناسب عن طريق التجارب، التي ستهبهُ قدرة استشراف المستقبل وتجنّبهُ المفاجآت غي المحسوبة، فيكون إنسانا مستعدا لما قد يواجهه من مشكلات مستقبلية قبل وقوعها، ويكون مسلَّحا بالحلول قبل حدوثها ما يجعل منه عقلا متطورا.
الإمام الشيرازي يقول في المصدر نفسه:
(إن للتجارب الذاتية أثر فعال في تصحيح أفكار وسلوك الإنسان، فقد قال أمير المؤمنين: كفى عِظَةً لذوي الألباب ما جربوا).
ماذا تقدّم لنا تجربة الاحترام؟
من الأمثلة التي يقدمها لنا الإمام الشيرازي، هي تجربة احترام الإنسان للآخرين وما الذي يمكن أن يحصل عليه من نتائج، إن أهم الخصال التي ينبغي أن يجرّبها الإنسان ويحولها من تجربة إلى مبدأ سلوكي دائم، هي احترامهِ للآخرين، فهذه التجربة سوف تمنحه المزيد من النتائج الباهرة، يمكننا أن نتخيّل ما هي نتائج العيش في وسط بشري قائم على الاحترام، ويمكنك شخصيا أن تجرب تحترم الآخرين في حياتك وما هي النتائج التي ستحصدها؟، وماذا يمكن أن نتوقع للإنسان الذي يضع احترام الآخرين هدفاً في حياته اليومية العملية والمعنوية؟.
إن الشيء الطبيعي الذي يمكن أن ينتج عن احترامكَ للآخرين، هو مبادلتهم لك بنفس السلوك أو المبدأ، إن التجارب العملية في أي وسط مجتمعي، توصَّلت إلى أن الشخص الذي يتحلّى باحترامه للآخرين، هو شخص مبجَّل ومحترم من قبل الجميع، لذلك فإن احترامك الحالي للناس، من تعمل معهم أو يجمعك محيط بهم، سيجعلك محترَما منهم في الحاضر والمستقبل أيضاً
كما يؤكد ذلك الإمام الشيرازي في قوله:
(فمثلاً الشخص الذي يحترم الناس ويبادلهم الحب والود، سوف يرى نتائجَ مُرْضيةً من قبل الناس، فإنهم سوف يبادلونه الاحترام والتبجيل).
إن صفة احترام الإنسان للآخرين، لا يتمتع بها سوى الإنسان المؤمن المتوازن المحبّ للإنسانية، المتعاون الودود الذي يحب الخير لأخيه مثلما يحب لنفسه، وهي ميزة يصنعها الاحترام والاحترام المتبادَل الذي ينبغي أن يُشاع في عموم شرائح ومكونات المجتمع انطلاقا من المحيط الأسري، وحينئذٍ سوف يصبح الإنسان منفتحا على المستقبل انطلاقا من حاضره المحترم، كذلك يمنحه ذلك قدرة على استشراف الأحداث قبل وقوعها، وهو ما يجعله قادرا على مواجهتها مسبقا، بسبب معرفته لها.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن احترام الآخرين صفة يلزم أن يتصف بها المؤمن وهي ذات مدلول كبير تعطي للإنسان انفتاحاً على المستقبل، وعلماً بحوادث الأمور، فلا يقع في المشكلات التي وقع بها هو أو الآخرون سابقاً، وهذا ما أشار إليه الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في قوله: لا يُلدغ المؤمن من جحر مرتين).
تجاربكَ الشخصية هل تكشف لك مستقبلك؟
هناك حكمة قالها أحد المفكرين مفادها (من لا يفشل لا ينجح)، وأيضا من لا يكبو أو يسقط لا ينهض، فالإنسان لا يمكن أن ينجو من مشكلة الوقع في الخطأ الفكري أو العملي، وهذه هي خطواته التجريبية التي لا يمكنه تجنّبها، لأن الإنسان الذي لا يريد أن يخطئ مطلقا عليه أن يجلس في بيته ويكف عن العمل والتفكير، أما عكس ذلك، أي إذا أراد أن يكون منتجاً فاعلا فعليه أن يعمل ويفكر ويخطئ لكي يصححّ ثم ينجح، على أن تكون أساليب التصحيح والنجاح مشروعة أو مقبولة.
فما فائدة أن تنجح بالغش، أحد المفكرين قال، أن تفشل بشرف خير من أن تنجح بغش، لذلك خير الناس منْ يتعلم من أخطائه ونقاط ضعفه كي يصحح الأخطاء ويعالج نقاط الضعف، ويكون أكثر قدرة على التعامل مع مستقبله، فإذا أخطأ الإنسان اليوم فليسعَ كي لا يخطئ غدا نفس الخطأ الذي وقع به في الأمس، وهكذا يمكن أن يكون خطأ الحاضر هو صحيح الغد.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
(إن الإنسان العاقل هو الذي يستفيد من أخطائه ونقاط الضعف التي مرت بحياته، لكي لا يقع بها مرة ثانية ولا يُصاب بمثلها في المستقبل، فقد قال الإمام الصادق غليه السلام: أحب إخواني إليّ مَن أهدى إليّ عيوبي).
ليس الإنسان وحدهُ المعني بكشف أخطائه وسقطاته في الفكر والسلوك، بل هناك من هو أقرب إليك من بقية الناس، سواءً من أهلك أو أصدقائك أو حتى الغرباء الذين يجمعك بهم التناظر الإنساني كما يؤكد الإمام علي عليه السلام، هؤلاء جميعا ينبغي أن يذكرون لبعضهم الأخطاء والزلّات والخروج عن الجادة الصواب، لذلك علينا أن نتقبل انتقادات الآخرين لنا وتصحيحهم لبعض أفكارنا وسلوكنا وحريٌ بنا أن نشكرهم لا أن نرفض انتقادهم ونتهجّم عليهم.
بالنتيجة فأكثر الناس نجاحاً هو أكثرهم قبولا لتصويبات الآخرين له، ومن ثم الشروع بتحويل تلك التصويبات إلى نجاحات، وحين يقوم الإنسان بتصحيح أخطائه حاضرا، سوف يكون حريصا على أن لا يقع في الأخطاء نفسها مستقبلا، لأنه تؤذيه وتسبب له مشكلات في غنى عنها والإنسان بطبيعته يسعى لتجنّب المشكلات، لهذا ستسود ثقافة لدى الفرد والمجتمع مستمدة من التجارب تساعد على بناء حاضر صحيح سيكون قاعدة انطلاق لمستقبل زاهر.
يقول الإمام الشيرازي:
(إن من يبيِّن للإنسان عيوبه سوف يشخّص له الأسباب الخفية والدواعي الباطنية التي كانت تسبب له التأخر والاضطراب في الحركة، كي يصحح الإنسان حركته في حياته اليومية والمستقبلية ذات المَساس بالفرد والمجتمع).