العقل المعتدِل
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-10-15 04:55
هناك معيار مميّز تُقاس به درجة حفظ الحقوق ومراعاتها على النحو المطلوب، فمن خلال الاعتدال يمكن أن نحافظ على حقوقنا ونستطيع أيضا بالاعتدال نفسه أن نحفظ حقوق الآخرين علينا، بما في ذلك حقوق النفس، وهنا يبرز بقوة دور العقل المعتدل الذي لا يُقصي ويشتدّ جزافا، وفي نفس الوقت لا يتراخى ويكسل لدرجة إضاعة الحقوق الذاتية أو التطاول على الحقوق الجمعية.
وحين يعتدل العقل يرقى التفكير والسلوك والثقافة والأعراف، فبالعقل وحده تميز الإنسان عن سائر الكائنات، وبه تمكن الإنسان من احتلال مركز الصدارة في قيادة الحياة وتنظيمها، وهذا يعني أن أي عطب يطول العقل فإنه سوف ينهي دوره الريادي القيادي لنفسه وللكائنات الأخرى، لذلك لا يمكن التساهل في قضية العقل أو اعتباره عضوا جسديا يؤدي دور (الكونترول) البشري ويقف دوره عند هذا الحد.
وإذا كان الأمر كهذا التوصيف فإن البشر سوف يخلو من ميزة المشاعر والعاطفة والتفكير ويتحول إلى ربوت مبرمج مسبقا وليس أمامه أي خيار حر، لكن الإنسان ليس كذلك ولا يمكن ان يكون مثل الروبوت مطلقاً، فبالعقل المعتدل اجتاح الإنسان أسرارا علمية ترقى إلى مصاف المحال.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (العقل رقيّ الإنسان): (إن الله عزَّ وجل ميز الإنسان عن سائر الخلق بعقله، وجعل العقل سبباً لرقيه. ومما يدل العقل عليه، ضرورة رعاية الحقوق).
وهنا تبرز قيمة العقل الذي يتمكن من إدارة عملية ثنائية الحقوق بنجاح وحذق، فمثلما لك حقوق على الآخرين تطالب بعدم المساس بها أو التطاول عليها، توجد في نفس الوقت حقوق مماثلة للآخرين يجب أن تمنع نفسك من انتهاكها، وعندما يختّل العقل ويفشل (لأي سبب كان) في إدارة عملية حفظ الحقوق المتبادلة، فهذا يعني أننا أمام إنسان يشكل خطرا على الناس وعلى نفسه أيضا، وستظهر عدم الحاجة لمثل هؤلاء الفاقدين للعقل المجتمع كالطغاة أو المجرمين الجشعين الذين لا يطيقهم المجتمع قيلقي بهم خارج الوجود أو في العزلة التي تحمي المجتمع من مختلّي العقول.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه:
(إن لكل إنسان يعيش في أي مجتمع حقوقاً على الآخرين، كما أن لهم حقوقاً عليه أيضاً، فمن حيث كونه أباً ـ مثلاًـ فله حق على أبنائه، ومن حيث كونه إبناً
ـ مثلاً ـ فعليه رعاية حق والديه).
الإنسان ما له وما عليه
من هذه التوطئة الطويلة نسبياً جاءت الرسالة النبوية المحمدية كي تضاعف من أعداد العقول المعتدلة، حيث يحرص الإنسان ذو العقل المعتدل على رعاية حقوق الأب والأم والأولاد والزوجة وهؤلاء يشكلون المحيط البشري الأقرب إليه، لكنه مطالَب في نفس الوقت بمراعاة وحماية حقوق الآخرين بنفس الدرجة التي يحمي بها حقوقه الذاتية، لذلك ينبغي على الإنسان أن يعرف جيدا ما له وما عليه، ويضع الأمرين في مكيال واحد لا يقبل التحيّز أو الميول غير المشروعة، فإن صرت ذا مركز وظيفي يمنحك صلاحيات واسعة لا يصح أن تراعي نفسك وأولادك وذويك والمقربين منك أكثر من الآخرين ولا يصح اختلاق المبررات التي تجيز للإنسان التجاوز على حقوق غيره.
يقول الإمام الشيرازي حول معادلة الحقوق: (إن الحقوق في الإسلام متقابلة، ولأجل أن يكون الإنسان باراً وفياً أميناً لا عاقاً ولا خائناً ولا جاحداً، عليه أن يعرف ما له وما عليه من الحقوق، يلزم عليه أن يقوم بمراعاتها وأدائها).
وانطلاقا من فرضية العقل المعتدل الذي يرتكز على قاعدة مثالية لحفظ الحقوق، سعت المضامين الدينية التي سطّرها القرآن والأحاديث والروايات الشريفة ونخص بالذكر رسالة الحقوق للإمام السجاد عليه السلام، لكي تحث العقل على التمسك بالاعتدال إذ يتيح له ذلك أن يكون حاميا جيدا لحقوق الآخرين، بنفس المقدار والدرجة التي يحمي بها حقوقه الذاتية والعائلية.
إذا يراعي العقل المعتدل حقوق الذات والآخر في الوقت نفسه، وهذا ما دعت إليه النصوص والمدوَّنات الدينية المختلفة، حتى نفس الإنسان لا يمكن أن تكون خارج دائرة مراعاة حقوق الإنسان، لذا عليه أن يستثمر عقله إلى أقصى حد ممكن لكي يسلك طريق الارتقاء ليس بمفرده وإنما التأثير بالآخرين كي يرتقوا أيضا، وهنا سوف يكون الرقيّ جماعيا مجتمعيا، وهذا هو ما تسعى إليه العقول المعتدلة.
كما نقرأ ذلك في القول التالي للإمام الشيرازي: (إن الشريعة الإسلامية تهدف إلى كمال الإنسان وتريد سعادته، وأن يستفيد من عقله لكي يرقى ويتقدم، فهي تحثه على رعاية الآداب الاجتماعية واكتساب الفضائل الأخلاقية من جانب، وتنبهه إلى رعاية حقوقه الشخصية، وتذكره بأن لبدنه عليه حقاً من جانب آخر).
المعنويات تسمو بالروح عالياً
ومما لا يخفى على العارف أن الحكمة تستدعي الاعتدال، والعقل هو الفيصل بين الحكمة العقلية المنهل، والتهور الذي يستمد دوره وقوته من منهله الجسدي الغريزي، ولكن يبقى لبوصلة العقل في الموازنة بين الحاجة إلى الحكمة ولإشباع الغرائز الدول الأول والأقوى، فالعقل لا يرفض تلبية الحاجات الغرائزية كالجنس مثلا، لكنه يحدد ذلك الإشباع بمحددات تحفظ الحقوق وتضاعف الأخلاق وتشذب الأعراف، فكما هو معروف أن الإنسان له بعدين روحي ومادي، والعقل المعتدل هو الذي يصنع الموازنة الدقيقة بين المتضادين (الروح والجسد).
وحين ينحو العقل إلى تنمية المعنويات، فهذا يعني تطوير قدرة الإنسان على حفظ حقوق الآخرين، وكلما كان العقل أكثر قدرة على تنقية الإنسان وتخليصه من أدران المطالب غير المشروعة، كان أداؤه متميزا، والعكس يصحّ، فإذا انشغل بالملذات المادية وانزلق في مستنقعها فهذا يعني تفوقا للمادية على الروحية، وهو منزلق خطير سوف يدمر الفرد والمجتمع معا.
الإمام الشيرازي يركز على هذه الموازنة الدقيقة حين يقول:
(إن الإنسان موجود ذو بعدين: روح وجسم، عقل وشهوة، فهو مزيج من الروحانيات والجسمانيات، ومن المعنويات والماديات، فالمعنويات تسمو بالروح وتعرج بالإنسان نحو نيل المحاسن والمكارم، وأداء الحقوق والواجبات، وكسب الأخلاق والآداب، من الحلم والعفو، ولين الجانب وحسن العشرة، وغيرها. بينما الماديات لا تسمو بالجسم لو أفرط فيها، وتهبط بالإنسان إلى مستوى إشباع الغرائز).
إذاً يقف الإنسان بين مفترقين، فأما أن يكون صاحب عقل معتدل، يحقق الرفعة المعنوية والروحية، وفي نفس الوقت يحقق متطلبات وإلحاح الحاجات المادية، أو أن ينغمس في مستنقع الرذائل المادية، وهنا سوف يتحقق مقتل الإنسان، ولا نعني مقتله العضوي وإنما المعنوي، حيث ينبذه المجتمع العام والعائلة، ويُطرَد خارج دائرة القبول المجتمعي، لينتهي إلى شخص فاشل معجب بنفسه، ومصاب بأنانية قاتلة تطفئ في عقله وكيانه أي فرصة للانتماء المعنوي الذي يمنحه هوية النجاح والارتقاء.
ولذلك حين لا يحاذر الإنسان من السقوط في فخ الماديات، سوف يفقد خاصية العقل المعتدل، وهذا الفقدان سيقوده إلى مشكلة اشد استعصاءً حيث يغوص في المعاصي ويدمن ارتكاب الذنوب ولن يشعر بأنه يحثّ الخُطى في الطريق الخاطئ، فلا يعبأ بانتهاك حقوق غيره، بل يرى أي ضير في ذلك.
الإمام الشيرازي يشرح هذه العقبة بالتالي:
(إذا لم يراع العقل في تناول الماديات، ولم يلاحظ الاقتصاد والتوسط، والاتزان والتعادل، فإنها تكون مهلكة للإنسان؛ فربما تجره إلى اقتراف المعاصي والذنوب، وهتك الحقوق).