أيام غيّرت وجه العالَم
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-10-01 04:45
ثمة أيام أسهمت بتغيير حياة الناس، وجعلت منها أكثر ملائمة لكرامة الإنسان، تلك الأيام صنعها أفذاذ التاريخ، عبر وقائع وأفكار وقيم ومبادئ، استطاع صناعها أن يرسّخوا القيم العظيمة وينشروها في العالم، فهناك أدلة تاريخية لا تقبل الجدل والنقاش، ارتقت بالحياة من الحضيض إلى القمم العالية، منها على سبيل المثال ذلك اليوم التاريخي العظيم الذي انطلقت فيه الرسالة المحمدية، وتلك الآية الخالدة التي هبطت على الرسول الأعظم (ص)، والتي ابتدأ منطوقها بكلمة (إقرأْ).
هذه الكلمة هي المفتاح الأول لتغيير العالم آنذاك، ونسف القيم الركيكة والعادات الظلامية البائسة التي كانت تهيمن على المجتمع القبلي في الجزيرة العربية، وتنخر نسيجه الأخلاقي والفكري والسلوكي، وحين بدأت الرسالة النبوية، بدأ ظلام الجهل ينقشع رويدا، وأخذت مصابيح الفكر الإسلامي الوقاد تنتشر وتسود على الشر، فباشرت بطرد الجهل المعشش في العقول والنفوس، وصارت العادات المتهالكة تتساقط وتنكمش وتزول لتحل محلها القيم الجديدة في مضمونها الفعلي المتنوّر.
وكما أثّر يوم انبثاق الرسالة المحمدية في طرد الشر بأشكاله، وتغيير روحية الإنسان وعقليته، كذلك أسهم يوم عاشوراء بتغيير حياة الناس، فالخوف من الطاغية لم يعد له حضور في حياة الناس، وقيمة أو سلوك مقاتلة الظلم تصدرت القيم العظيمة التي زرعها الإمام الحسين عليه السلام في قلب الأمة وعقلها الجمعي، خصوصا أن بطل عاشوراء هو سبط قائد المسلمين ومعلمهم الأعظم، النبي محمد صلى الله عليه وآله.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القين الموسوم بـ (قبس من شعاع الإمام الحسين ع):
(هناك أيام أثرت في تغيير مجرى الحياة، من أهمها يوم عاشوراء، فكما أن يوم السابع والعشرين من شهر رجب ذكرى المبعث النبوي الشريف أثر في تغيير مجرى الحياة، وكما أن رسول الله صلى الله عليه وآله عمل على زرع الإسلام والإيمان في نفوس الأفراد، كذلك يوم عاشوراء وتضحية أبي عبد الله الحسين عليه السلام، أثر على إعادة الإيمان إلى القلوب، وإرجاع صورة الإسلام التي حاولت الأيدي الآثمة طمسها وتغييرها).
وقد اصبح يوم عاشوراء أيقونة التحرر الإنساني منذ اللحظة التي انطلقت فيها ثورة الحسين عليه السلام على الظلم، وقد صارت مبادئها مدرسة عالمية يتعلم فيها الثوار كيف يواجهون الطغاة والجبابرة، ويستمدون من عاشوراء الحسين عليه السلام القوة والعزم والصمود والمواجهة حتى آخر قطرة دم طاهرة.
لذا يؤكد الإمام الشيرازي على:
(ان يوم عاشوراء هو اليوم الذي يعلمنا كيف نصحح سيرتنا في هذه الحياة، ونجعلها مطابقاً لسيرة الإمام الحسين عليه السلام وطريقه الذي ضحى بكل ما يملك من أجل الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإقامة الفرائض والعمل بالقرآن والتمسك بأهل البيت عليهم السلام).
مقام الإمام الحسين عند الله
ونتيجة للتضحية الاستثنائية التي قدمها الإمام الحسين (ع) من أجل الإسلام والمسلمين والبشرية جمعاء، أعطاه الله تعالى مقاما متفردا وكرامات لا محدودة ومعجزات لم يقوَ عليها دونه غيره، لذلك عرف الناس جميعا من هو الحسين (ع) وما هي مكانته وعظمته، وأية مدرسة فريدة من نوعها أسسها وبلور أفكارها الحسين بنفسه آخذاً مضامينها من كتاب الله ومن المدرسة المحمدية التي درس فيها أعظم الدروس وأبل القيم والأفكار، فصارت شخصيته من طراز خاص يكللها المقام العظيم والنبل المتفرّد.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الموضوع بالمصدر ذاته:
(ليس غريباً ولا عجيباً حينما تظهر الكرامات على يد الإمام الحسين عليه السلام، لأننا لو تتبعنا سيرة الإمام الحسين عليه السلام، من ولادته إلى لحظات استشهاده وعرفنا شيئاً عن عظيم شخصيته ومقامه عند الله عزّ وجل، لزال هذا الاستغراب عنا).
لذلك بقي الإمام الحسين خالد في ضمائر المسلمين إلى ما يشاء الله، ومثالا حيّا في تاريخ وحاضر ومستقبل الإنسانية، حيث تعلّم أعظم الثوار في مدرسة الفكر الحسيني ونهلوا منها دروس الانتفاض والثورة على الظالمين، ولدينا أمثلة كبيرة لعلّ أشهرها زعيم الهند الثائر الخالد (غاندي) ومن الثوار المعاصرين الذين أخذوا قيم الثورة والتغيير العظيم نلسن مانديلا الذي غيّر الاحتراب إلى تعايش وسلام وأطفأ نيران الأحقاد والضغائن بين أبناء الشعب الواحد في (جنوب أفريقيا) على الرغم من الاختلاف الحاسم في أعراقهم (السود والبيض)، ولأن الحسين عليه السلام صار بأفكاره ومبادئه وقيمه مدرسة عالمية تعلّم فيها الثائرون على الظلم، وهبهُ الله تعالى الكرامات التي لم يهبها إلا للأفذاذ العظماء.
يقول الإمام الشيرازي في هذا الشأن:
(إن الإمام الحسين عليه السلام حيّ وسيبقى حياً كما وَعَد الله بذلك في كتابه الكريم، وقال رسول الله صلى الله عليه وآله: «إن لقتل الحسين حرارة في قلوب المؤمنين لا تبرد أبداً»، وقد ذكرنا أن من مصاديق حياتهم عليه السلام هو استمرارية كراماتهم ومعاجزهم).
انتشار قيم المنكر الخمول
وفي عهد يزيد انتشرت قيم المنكر، وانحرفت مسيرة الإسلام المحمدي على يد هذا الطاغية الصغير، وشاعت رائحة الغدر والخداع، وانتشرت القيم الضالة المضلّلة، وتنفس الباطل الصعداء برعاية يزيد الماجن، فما كان للإمام الحسين إلا أن يضع حدّا (للمنكر)، ويرفع لواء التحرر، وينبذ الخوف أمام الطغاة، ويشحذ قيم (المعروف) ومبادئه، ليسحق المنكر، ويعيد للإسلام وجهه الوضاء ثانية، وإن كانت النفس الغالية هي الثمن وأنفس ذوي الإمام الحسين، إلا أن هذه التضحية الجسيمة كانت الطريق الوحيد لإعادة الإسلام إلى مساره المحمدي.
خصوصا بعد أن انتشرت قيم الخنوع والخمول والكسل، وتغلغل الخوف في نفوس الغالبية العظمى من أفراد الأمة، كما أن انتشار الموبقات والمجون صار أمرا شائعا، بل كان هنالك تشجيع علني لممارسة الفحشاء في عز النهار، فباب أرباب الشر هم الأكثرية الغالبة، وصارت ذيول الباطل منتشرة في كل مكان، كأنها تعيش عصرها الذهبي في رعاية يزيد الذي عاش الفردية والأنانية والشهوية بأرذل حالاتها.
يقول الإمام الشيرازي:
(كان الإمام الحسين عليه السلام يريد أن يُخرج الأمة من المنكر إلى المعروف).
ومما يثير الاستغراب أن الأمة استطابت هذه الانحرافات الخطيرة، واستلذت طريق المهانة والخنوع، واستسلمت لما خطط له الطاغية الصغير يزيد، وصارت الدنيا عند المسلمين في عهده أغلى من الدار الأخرى، ولم يعد الناس يرون في الدنيا دار فناء وزوال، بل دار بقاء أبدية مدعومة بالملذات والملاهي وكل أنواع المنكر، فصار الإسلام على شفا هاوية وانحدرت أخلاق الناس إلى منحدر خطير يقارب الحضيض، ولو لا قيام ثائر المسلمين الأعظم، وثائر كربلاء الإمام الحسين عليه السلام برفع راية الثورة والتصحيح والخروج من الحجاز إلى العراق، وتقديم آل محمد (ص) أنفسهم قرابين لتصحيح الإسلام من خطر الانحراف، لما كانت تقوم قامة للإسلام والمسلمين، خصوصا بعد أن ارتضت الأمة وضعها آنذاك، المشرَّب بالذل والخنوع، فصهلت خيول الحق الحسينية، وزمجرت السيوف والأسنّة ضد الظلم الأموي، ليعود الإسلام المحمدي ناصعا منتصرا، وليصل الفكر الحسيني لأوج حضوره وعظمته وفاعليته.
يقول الإمام الشيرازي: (كان عليه السلام يريد أن يضع حداً للمنكر، وأن ينتشل الأمة من الحضيض الذي أركست فيه إلى العز، وذلك عندما رضيت الأمة الإسلامية بواقعها المتردّي، المتمثل بالخمول، والركون إلى الدنيا، والسكوت على الظلم).