ثورة التبغ في إيران وانتصار الوعي الديني
قراءة في محاضرة صوتية لسماحة الامام الراحل السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه-
محمد علي جواد تقي
2018-03-20 06:24
الفتوى الشهيرة بتحريم شراء وبيع واستخدام التبغ في ايران من قبل المرجع الاعلى في زمانه، السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، بهدف الضغط على الحكومة الايرانية لإلغاء الامتياز الممنوح للبريطانيين لانتاج التبغ الايراني، تُسمى في ايران بـ"نهضت تنباكو"، وفي الاوساط العربية؛ "ثورة التبغ"، كناية على البعد السياسي في القضية واستهدافها المباشر للوجود البريطاني العتيد في الشرق الاوسط، والتحدي المذهل للمصالح البريطانية والذي لن ينساه الساسة في لندن الى أجل غير معلوم.
ومن حق الشعب الايراني الاعتزاز بهذه المنازلة التاريخية والظافرة، وأن يعدها من الجذور التي قامت على اساسها حركات وتحولات سياسية واجتماعية كبرى في فترات لاحقة، كما من حق المرجعية الدينية والحوزة العلمية ان تفخر بهذا الانجاز العظيم كأول تجربة ناجحة في تاريخها تواجه قوة استعمارية عظمى مثل دولة بريطانيا آنذاك، وتقود حراكاً سياسياً واقتصادياً ناجحاً.
والى جانب كل ذلك، فان تجربة اخرى لا تقل أهمية عن البعد السياسي والبعد الاقتصادي، وهو البعد الاجتماعي والحضاري في هذه الحركة حيث تركت تجربة الفتوى بصمات عميقة في نفوس الشعب الايراني الذي وجد الدين، برجالاته وحوزته، وكل قواه، نزل الى ساحته لينصره على من يريد التجاوز على حقوقه وكرامته، وحتى ما يشير اليه سماحة الامام السيد محمد الشيرازي – طاب ثراه- في هذا المقطع الصوتي الذي يدعو فيه الى بعث الروح والفاعلية والواقعية في الدين ليكون الخيمة التي يستظل بها الناس وينطلقون منها لتحقيق اهدافهم السامية.
وفيما يلي نصّ المقطع الصوتي:
"قام الملك الايراني القاجاري ناصر الدين شاه بزيارة الى بريطانيا عام 1890م وهناك خدعوه في صفقة شراء امتياز انتاج التبغ في ايران، بان يكون البريطانيون هم المشرفون على زراعة وانتاج وتصدير التبغ، فوافق على العرض مقابل ثمن زهيد، وكان هدف البريطانيين ايجاد موطئ قدم لهم في ايران، فكانت مزارع التبغ الايرانية احدى وسائلهم.
وكان لهذه الصفقة أصداء واسعة داخل ايران، لاسيما في صفوف المزارعين الذين اعلنوا رفضهم القاطع لها لاسباب اهمها؛ التعارض مع احد قوانين الاسلام وهو أن "الناس مسلطون على اموالهم وانفسهم"، والمزارع الايراني كان بامكانه التصرف بمنتوجه من التبغ كيف يشاء، وله الحرية في البيع بأي سعر في الاسواق. بينما المعاهدة مع الاستعمار البريطاني كانت تنصّ على ان يبيع الفلاح الايراني تبغه للمشتري البريطاني حصراً، وان تكون القيمة وفق التسعيرة المحددة، كما لا يحق للفلاح الامتناع عن البيع.
ولذا سادت موجة استنكار شديدة في جميع مدن ايران، ومما قرأت عن تلك الفترة، أن في مدينة شيراز أضرب التجار والكسبة عن العمل لمدة ستة اشهر احتجاجاً على هذه الاتفاقية، وهذا أمر صعب جداً، لأن ليس الجميع يتمكن من غلق باب متجره ويجلس في البيت، فهنالك من الكسبة من يتعلق قوت يومه بعمله اليومي، وليس له مردود مالي او مدخرات، فكان التحدي كبيراً، ولكن؛ لم يذهب هؤلاء المعتصمون الى بيوتهم للنوم، إنما كانوا يقضون أوقاتهم في المساجد والحسينيات للتشاور مع بعضهم البعض وسماع التوجيهات والرؤى من علماء الدين حول قضية الاتفاقية مع المستعمرين البريطانيين، وفي وقت آخر، كانوا يصلون ويدعون ويتوسلون بالامام المهدي المنتظر، عجل الله فرجه، لخلاصهم من هذه المحنة.
والى جانب مدينة شيراز، فقد شهدت مدن عديدة في ايران مواقف مماثلة من الجماهير.
وقرأت في احدى المصادر التاريخية، أن الناس أبرقوا الى المرجع الاعلى للشيعة آنذاك، السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي، بأن يفتيهم بالجهاد لمواجهة هذا الخطر ويجبروا الحكومة الايرانية على إلغاء الاتفاقية حتى وإن كلفهم ذلك ارواحهم، ولكن المرجع الشيرازي لم يوافق، فكرروا الرسائل والبرقيات، وبموازاة هذه الرسائل التي كانت تترى على سامراء، كانت قوافل الجنود البريطانيين تنساب على ايران بحجة اتفاقية شراء امتياز زراعة وانتاج التبغ، وكان الناس يشهدون هذا التمدد والتوغل ويضجون اعتراضاً وغيضاً، فكانوا يواصلون الاستغاثة الى المرجع الشيرازي، وبلغت حالة الغضب أن أقدم الكثير من المزارعين الى إحراق محصولهم من التبغ حتى لا يبيعونه الى البريطانيين، وحتى لا يخالفون القانون الاسلامي، وحسب المصادر، فقد وصلت الى المرجع الشيرازي في سامراء، 12ألف برقية استغاثة ودعوة لللإفتاء.
وبعد سلسلة من المشاورات مع العلماء والفقهاء، كتب المرجع الشيرازي، ما نصّه:
"استخدام التبغ في ايران في حكم محاربة إمام الزمان". هذه الفتوى وصلت ايران وانتشرت مثل انتشار النار في الهشيم، وتناقلتها الايدي نسخاً وتوزيعاً بشكل واسع، وعلى اثر ذلك امتنع الناس في ايران بأجمعهم عن بيع وشراء واستخدام التبغ.
وفي طهران أخذ المرجع الديني آنذاك، الميرزا محمد حسن الاشتياني، هذه الفتوى وتصدر تظاهرة جماهيرية عارمة قادها الى قصر الملك القاجاري يأمره بإلغاء الاتفاقية، فكان رد فعل الملك ناصر الدين شاه، عنيفاً، بأن أمر برشق المتظاهرين بالرصاص، فحدثت مجزرة رهيبة امام القصر، وذهب العشرات بين قتيل وجريح.
ولم تتوقف الفتوى عند ابواب القصر، بل واخترقته الى الداخل والى عائلة الملك وحريمه، فعندما أمر زوجته بأن تعد له الأرجيلة للتدخين امتنعت عن ذلك، فسأل عن السبب، فقالت: "ان الذي حللني عليك هو الذي يحرمها اليوم"!
وبعد حوالي سبعة اشهر من تاريخ عقد الاتفاقية، وجد الشاه ان من غير مصلحته الاستمرار في هذا الوضع، بعد ان بلغت ايران مراتب خطيرة من الغليان والاحتقان بسبب هذه الاتفاقية؛ من الناحية السياسية بالنسبة للملك الايراني، وكذا الحال بالنسبة للبريطانيين فانهم وجدوا أن لامكان لهم بين الشعب الايراني الذي قاطعهم بشكل مذهل، ولم يسمح لهم باستثمار التبغ كانوا كانوا يخططون، فكان القرار المتوقع؛ إلغاء اتفاقية الامتياز الى الأبد.
وبعد قرار إلغاء اتفاقية الامتياز، أبرق الشاه الى المرجع الشيرازي، طالباً منه إلغاء الفتوى، فجاءه الرد بأن عليه طرد جميع الجنود البريطانيين الذين جاؤوا في ظل هذه الاتفاقية من ايران حيئنذ يصدر إلغاء الفتوى، لذا انتظر المرجع الشيرازي من يصل اليه من الميرزا الاشتياني في طهران للتحقق من أمر جنود الاحتلال البريطاني، وعندما اطمأنوا الى خروجهم جميعاً، صدر أمر إلغاء الفتوى ليعود الناس الى زراعة التبغ وبيعه واستخدامه كما السابق.
هذا الانجاز التاريخي كان في وقت يتفاعل الدين مع جميع افراد المجتمع، ففي هذه الحالة فان المجتمع يحارب أي قانون يخالف الدين، كون افراد هذا المجتمع متدينون ويحملون تعاليم الدين وقيمه في نفوسهم، فالدين المتفاعل يجعل الناس جميعاً في جبهة واحدة أمام الانحراف والمنكرات، ولن يتمكن الشرقي ولا الغربي ان يتسلل بينهم، اما اذا كان الدين غير متفاعل مع المجتمع، فهذا دين ميت، فهو دين موجود في المدرسة وفي المسجد وفي القران الحيكم قط وفي مفاتيح الجنان.
ولكن؛ كيف يكون هذا الدين متفاعلاً مع المجتمع وكيف يكون متراجعاً ؟!
الجواب في حَمَلة هذا الدين، فاذا تفاعلوا مع المجتمع تفاعل الدين معهم، والعكس بالعكس؟
فاذا كان الدين لوحده يتفاعل ويتوغل في النفوس، لما كان النبي الاكرم بحاجة الى الجهاد والى الغزوات والحروب، ولكان الدين يشق الطريق بنفسه، وهذا ما لم يكن ابداً.
ولكن؛ من هم حملة الدين؟
إنهم العلماء الخطباء والكتاب، فكلما كان تفاعل هؤلاء مع المجتمع اكثر، كان نفوذهم في الحياة اكثر، ثم يكون نفوذ الدين اكثر، وفائدة نفوذ الدين القيادة. البعض يتصور ان الدين هو الآخرة والجنان والقصور، كلا! انما هو مصداق الآية الكريمة: {إنما العزة لله ولرسوله وللمؤمنين}، فالعزّة والكرامة الانسانية تتمثل في الحياة الدنيا، وان يكون الانسان المسلم عزيزاً والبلد الاسلامي عزيزاً مكرماً.
الانسان الحر الكريم والبلد الاسلامي القوي
قرأت ذات مرة كتاباً للشيخ مرتضى مطهري، يحكي فيه أنه دخل احدى القرى الايرانية في ايام شبابه، فصادفه أحد المزارعين وبادره بسؤال عام ولا علاقة له بالاحكام الشرعية، فاجابه بعدم معرفته الاجابة على سؤاله، فما كان من المزارع الايراني إلا ان زجره بالقول: "وما فائدة هذه العمامة على رأسك"؟!!
ويشير عديد الباحثين في تاريخ العلاقة بين الحوزة العلمية وبين المجتمع الايراني، الى وجود وشائج عدّة بين العلماء والخطباء ورجال الحوزة العلمية بشكل عام، وبين افراد المجتمع الايراني منذ أن شهدت ايران ظهور دول شيعية وأنظمة حكم يديرها حكام شيعة، ولاسيما الدولة البويهية والدولة الصفوية، والتي كان لها الدور المباشر في تقوية هذه العلاقة وتعميقها في النفوس والوجدان الشعبي.
وهذا ما دفع اصحاب المصالح العالمية الكبرى في ايران، وتحديداً بريطانيا للتفكير مليّاً وجدّياً بوضع حد لهذه العلاقة بغية الوصول ما تريد في هذا البلد، ولذا حاولت ايجاد فاصلة بين الاثنين (الحوزة والجماهير) من خلال سلسلة من الاجراءات منها؛ قمع حرية الرأي في الحوزة العلمية وترحيل المعارضين، ثم رسم صورة كارتونية لرمز بديل يملأ عيون الايرانيين على أنه الزعيم الملهم والقائد القادر على تلبية ما يريده الناس، وهكذا فعل رضا شاه، ومن بعده ابنه؛ محمد رضا، منذ تقمّصهم رداء الملوكية في ايران بعد الاطاحة بالعرش القاجاري وصناعة عرش ولقب جديد بأيدي بريطانية أطلق عليه "البهلوي"، بيد أنه فتح ابواب ايران على السينما الاباحية والسلع الاستهلاكية وجميع أدوات المسخ الثقافي ليكون حلِاً من أي التزامات دينية او اخلاقية، بيد ان هذا التحلل المأمول من البلاط "الشاهنشاهي" ومن خلفه المعنيين بالشأن الايراني في لندن، تعرض لموجة تصدّي عارمة من العلماء والخطباء لإحياء معالم الدين وقيمه في المجتمع الايراني، وفي مقدمتها مسألة الحجاب ودور الرذيلة والجهر بالفسق والفجور، وفي مرحلة لاحقة بيع سمعة البلد وكرامة الانسان الى السفارات والشركات والضباط الاجانب.
ومن نافلة القول في هذا السياق، أن المرجع الديني في كربلاء المقدسة في اربعينات القرن الماضي؛ سماحة السيد ميرزا مهدي الشيرازي – والد السادة المراجع الكرام- كان في طليعة علماء الدين في العراق من المواكبين لمسيرة التصدي للتحركات المشبوهة لحكام ايران آنذاك، نظراً لعلاقته الوطيدة بسماحة المرجع الديني السيد حسين القمي، الذي أقام في كربلاء المقدسة بعد نفيه من ايران من قبل رضا شاه في مطلع الاربعينات من القرن الماضي.
والتجربة التي يشير اليها سماحة الامام الشيرازي في هذا المقطع الصوتي، لا تقتصر على ايران وتجربتها الناجحة في "ثورة التنباك" التي مضى عليها حوالي مائة وثلاثين عاماً، و انما تفيد لجميع بلادنا الاسلامية التي تعيش اليوم تحديات ماحقة و ازمات وفتن لم يسبق لها مثيل في تاريخها، فهي لم تفقد استقلالها وحريتها، لانها يئست من الوطن ومن القدرة الحقيقية على التعبير والتغيير، بل والأدهى والأمر من ذلك؛ هويتها الحضارية التي تدلها على الطريق الصحيح لتعرف كيفية التفكير وتفسير الامور و اصدار الاحكام والاختيار، ولذا نجد الامام الشيرازي في هذا المقطع، وفي مناسبات عدّة، يحمل مسؤولية حمل راية الدين، لعلماء الدين والخطباء والكتاب وأهل الثقافة والفكر ممن لهم القدرة على صناعة الوعي وتحقيق اليقظة في اوساط الامة من خلال تفعيل القيم والمفاهيم والاحكام في حياة الناس، بحيث تكون حاضرة بقوة في جميع نواحي الحياة، ولجميع افراد المجتمع، بدءاً بالطفل الصغير ومروراً بالفتاة والمرأة والشاب والرجل، وكل جوانب الحياة التي تحيط بهم، لاسيما ان التراث الديني لدينا زاخرٌ بقوانين وسنن واحكام من شأنها رسم نظام حياة سعيدة للانسان، وحينئذ؛ أي تحرك او نشاط سواءً اقتصادي، او سياسي، أو علمي، سيكون وفق هذه البوصلة الحضارية العتيدة، وحينها يكون الناس في مأمن من أي خطر يهدد كرامتهم وحريتهم وحقوقهم.