متى يظلم الإنسان نفسهُ والآخرين؟
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2018-02-19 06:00
تعرَّف القدرة بأنها مجموع الإمكانيات المادية والمعنوية التي يمتلكها الإنسان، وتشمل القدرة إمكانيات الجماعة، الدولة، المجتمع، أما قدرة الدولة فهي مجموع الموارد البشرية والمادية التي تمتلكها أو تتواجد في إطارها حصرا، وقد لا يعي كثيرون بأن القدرة التي يمتلكها (أمانة) في عنقه، وللآخرين حصة بها، وإن كانت من راجعة إليه، أي أن الإنسان الذي يتمتع بذكاء خارق، فإن ذكاءه هذا ليس ملكا حصريا له، وإنما ثمة للناس حصة منه، وفي هذه الحالة ستكون القدرة أمانة.
لماذا صارت القدرة الفردية أمانة، الجواب لأنها يجب أن تعود بالفائدة على البشرية وليس على صاحبها فقط، من هنا ينبغي على الفرد الذي يملك أو يمتلك أنواعا من القدرة الذاتية أو المكتسَبة، أن يفهم بأن للآخرين نسبة منها، ولهذا أصبحت أمانة في عنقه، وهذا يستدعي أن يستعملها الإنسان بالطريقة السليمة التي تعود عليه وعلى الجماعة بالفائدة، أما إذا كان استخدامه لها بشكل سيّئ أو أنه لم يستخدمها أصلا أي قام بتجميدها، هنا سوف يُحاسَب على أنه خائن، فعدم استعمال القدرة، أو استعمالها بشكل خاطئ يُحسَب في إطار الخيانة.
يقول الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه (شروط نجاح الجماعة):
إن (القدرة أمانة في ذمة الإنسان، لا يحق له تبذيرها ولا تجميدها).
وطالما صحَّ هذا الرأي واتفق الناس على أن القدرة ليست ملْكا صرفا لصاحبها، وأن الآخرين لهم حصة منها، فإن الواجب يقتضي هنا أن يتم صرف القدرة بطريقة علمية أو مخطط لها مسبقا، وفي هذه الحالة لن يكون صرف أو التصرف بالقدرة ارتجاليا ولا اعتباطيا، وإنما سيقوم صاحب القدرة بالتخطيط لاستخدام قدرته في المجال المناسب والاتجاه الصحيح، بما يضمن الفائدة القصوى منها، إذ لا فائدة من استخدام القدرة بصورة خاطئة، ولأن الناس لهم حصة في قدرتك، فأنت لست حرّاً في صرفها كما تشاء، بل يجب عليك أن تتحرى الدقة والمنفعة في استخدامك لقدرتك.
لذلك على صاحب القدرة أن يتصرف بقدرته بما يحقق منفعة جماعية وليست فردية، كذلك عليه أن يضمن الاستعمال الصحيح والضامن لنتائج القدرة التي بحوزته، فهي كما ذكرنا ليست ملْكا فرديا معزولا عن سواه من القدرات.
لذلك يقول الإمام الشيرازي:
ينبغي (أن لا يصرفها في غير مصرفها، سواء كان مصرفاً باطلاً، أو مصرفاً أقل من المصرف المقرر).
توظيف القدرة لصالح الفرد والمجتمع
لذا من أهم الشروط التي تترتب على القدرة الفردية، أن يتم صرفها في المجال الصحيح، وأن يعود استخدام الفرد لها بالفائدة الذاتية والجمعية في نفس الوقت، أي أنه ليس المطلوب منه إهمال نفسه وحرمانها من قدراته وإمكانياته، لكن هذا يتعلق أيضا بضمان الفائدة للمجموع أيضا.
فمثلا هدر المال من أصحاب المال أو القائمين عليه، كما هو الحال في بعض دوائر الدولة التي يقوم شغلها على تداول المال العام والتصرف به، فإن هدر المال مرفوض بشكل قاطع، لا يقبله الشرع ولا قوانين الدولة ولا الأخلاق النبيلة، فالموظف المؤتمن على المال العام، قد تكون لديه قدرة للتصرف بهذا المال، ولكن ليس له الحق أن يتصرف بهذه الأموال المسؤول عنها والمدير لها كما يحلو له، فالأمر هنا ليس خاضعا للمزاج ولا للمصلحة الفردية، بل هناك جموع من الناس لها الحق بالاستفادة من هذه الأموال بعدالة تامة.
هذه هي مسؤولية الفرد عن قدرته والفرص المتاحة له، فهو ليس حرا في استخدامها، إلا بما يضمن فائدة الذات والآخرين منها، وبعكس ذلك، أي إذا صُرفَت الأموال في غير موردها، فإن الحال سوف ينطوي على ضرر جمعي يلحق بعامة الناس، لذلك ينبغي أن يتوخى الفرد الدقة والصدق في استخدامه لقدراته المتاحة بشقّيها المادي والمعنوي أيضا.
الإمام الشيرازي يؤكد هذا الرأي بقوله: ينبغي على الفرد: (أن لا يصرفها، كما إذا صرف ديناره المقرر صرفه في كتاب مضمونه يدور حول الأفيون أو في كتاب دون درسه).
إن الإنسان بالنتيجة هو ليس ملْكا لنفسه، فالآخرون يجب أن يشاركوه بكل ما يملكه ويمتلكه من قدرات مالية أو فكرية وسواها، لأن قدرة الفرد مستمَدّة أصلا من الجماعة، حيث ينشط الفرد في المجتمع ويستقي قدراته منه ويطور إمكانيته ومهاراته مما يحصل عليه من تجاربه التي يخوضها بين الناس في أي مجال كان، وإلا في حالة عد استعمال القدرة في محلّها سوف يجعل منه خائنا، لأنه لم يفكر بالآخرين وحقوقهم المحسوبة على قدراته الفردية.
لهذا يقول الإمام الشيرازي: (لا يصح أن يجمّد الدينار فلم ينتفع به، والإنسان القدير ليس ملكاً لنفسه بل للمجتمع، إذ القدرة مستمدة من الجمع، فإذا لم يستعمل القدرة حق قدرها كان قد خان).
عدم استعمال القدرة في محلّها خيانة
وربما ينحو الفرد منحى يسيء له وللجماعة في نفس الوقت، فكما تم ذكره في صدر المقال، أن قدرة الإنسان أمانة منحها الله له، وعليه أن يردّ الأمانة إلى أهلها، وطالما كانت القدرة ذات إطار جمعي، والفائدة منها ينبغي أن تشمل الجميع، ولا تنحصر بشخص صاحب القدرة، ففي حال عدم التزام الفرد بذلك، فإنه سيكون كمن خان الأمانة لأنه لم يردّها إلى أصحابها، وفي هذه الحالة سوف يظلم نفسه.
يقول الإمام الشيرازي حول هذا الجانب:
قد (يظلم الإنسان نفسه والآخرين، ويجهل قدر نفسه والآخرين، فلا يرد الأمانة أصلاً، أو لا يؤديها حق أدائها).
ويصف الإمام الشيرازي القدرة الذاتية كالشجرة، بقدر ما يرعاها الإنسان سوف تكبر وتنمو وتثمر، بعد أن تضاعف له قدراته، ولكن إذا حدث العكس ولم يصرف الفرد قدرته على النحو الصحيح، أو وضعها في غير المكان الملائم لها، فإن هذه القدرة (الشجرة) سوف تضمحل وتذبل ثم تموت، فيكون الفرد أول الخاسرين فضلا عن خسارة المجتمع لجزء من قدراته.
يقول الإمام الشيرازي في المصدر نفسه: (القدرة كالشجرة، كلما رعاها الإنسان نمت أكثر فأكثر، وجاءت بقدرات جديدة، بينما إذا لم يصرفها بشكل صحيح، أو لم يجعلها في المكان اللائق بها، تقلصت وذبلت حتى تموت).
ليس هذا فحسب، وإنما كل ذي قدرة مطالَب بتطوير وتنمية قدراته، بكل السبل المتاحة، لأن الناتج سوف يصب في صالح الفرد نفسه، وفي صالح الجمع أيضا، لأن القدرة من أي نوع كانت قابلة للنمو والتطوير، وكلما كانت أفضل وأقوى وأكثر تأثيرا، تكون الثمار التي ترد منها كبيرة ومتميزة، علما أن جميع القدرات السياسية والاقتصادية والعلمية كلها قابلة للتطوير، وهي بالنتيجة سوف تدعم كفاءة الفرد والمجتمع كله، لهذا ينبغي أن يحرص الإنسان على هذه الخاصية، ويستثمرها بما يضاعف من قدراته، ويجعلها متميزة ومثمرة، حتى تكون الفائدة منها ذاتية وجمعية في نفس الوقت.
حيث ينبّه الإمام الشيرازي إلى ذلك بقوله:
(يجب على ذي القدرة أن ينمي قدرته، فإن القدرة أيضاً قابلة للنمو، فالقدرة السياسية والاقتصادية والعلمية وغيرها كلها قابلة للنمو، وإنما نمو كل قدرة حسب موازين تلك القدرة).