الشورى وانتعاش الكفاءات
رؤى من أفكار الإمام الشيرازي
شبكة النبأ
2017-04-03 08:17
يرتبط الاستبداد بنزعة تسلطية لشخصية الحاكم، فيعمل على مدار الساعة من أجل بسط نفوذه على الجميع بلا استثناء، بلا مراعاة لمبدأ الشورى في إدارة السلطة، وبعيدا عمّا يقتضيه الدستور المعاصر الذي تذهب بنوده ومضامينه لتنظيم الحكم وتحديد سلطات القائد الأعلى، ومحاولة إشراك مؤسسات الدولة في صنع القرار، وعدم ترك مصائر الملايين من أفرد الأمة رهينة برأي شخص واحد هو الحاكم أو القائد الأعلى، فهو في كل الأحول إنسان، وعقله لا يختلف عن عقول الآخرين، وقد تكون المصادفة وحدها قد ساقته الى دفة الحكم، لذلك ينبغي أن تشاركه العقول الأخرى في صنع القرار عبر تنظيم هذه العملية دستوريا.
لذلك يُنصح بتغليب الشورى في اتخاذ أي قرار، واعتماد السياسة الصحيحة في إدارة الحكم، وعدم التعامل مع مصالح الأمة بمنظور الحاكم المتسلّط، ورأيه الأوحد، وفكره الذي غالبا ما يكون مندفعا باتجاه حماية العرش، بكل السبل المتاحة، بغض النظر عن مشروعية هذه السبل، وقد ورد تحريم واضح لأسلوب التسلط والابتعاد عن الشورى.
كما نلاحظ ذلك فيما أورده الإمام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الشورى)، حيث ورد في هذا المجال تحريم واضح للاستبداد في قول سماحته: (أي أمر مرتبط بقطاع من الأَمة صغيراً وكبيراً، فالاستبداد في الأمة بالحكم محرم، حراماً بحجم الأمة).
وقد أظهرت وقائع إدارة السلطة، أن التشاور في صناعة القرار هو السبيل الأكثر نجاحا في تحقيق النتائج الطيبة، ولا يتعلق هذا الأسلوب بنوع الحكومة، فالحقائق أثبتت أن الاستشارية هي السبيل الأفضل للنظام السياسي بغض النظر عن طبيعته أو انتمائه، فإن كان النظام ديمقراطيا (زمنيا) كما يصفه الإمام الشيرازي، يحتاج الى مبدأ الشورى، وإن كان النظام إسلاميا أيضا يحتاج الى الشورى في صنع القرار، فهي بمثابة صمام الأمان لعدم انزلاق الحكومة والحاكم في هاوية التفرد والطغيان والاستبداد، لاسيما أن الأمة تتطلع لسد احتياجها المادي والمعنوي.
نلاحظ ذلك في قول الإمام الشيرازي: (إنّ الاستشارية سواء في الحكومات الزمنية ـ مما تسمى بالديمقراطيةـ أو في الحكومة الإسلامية هي صمام الأمان، وذلك لأنّ الناس كما يحتاجون إلى ملء بطونهم، يحتاجون إلى ملء أذهانهم).
كيف يتم تطبيق مبدأ الشورى؟
من الأمور المفروغ منها أن تطبيق مبادئ الإسلام لا يكتمل ولا يكون فعالا ومؤثرا على المستوى العملي، ما لم يرافقه تطبيق دقيق لمبدأ الشورى في صنع القرار، ذلك أن المبادئ الإسلامية قائمة على التشارك والتعاون والتفاعل والإقناع والابتعاد التام عن القهر والإجبار، وهكذا لا يمكن أن يدّعي النظام السياسي بأنه نظام إسلامي ملتزم، ما لم تكن الشورى مطبقة فيه بحذافيرها، لسبب واضح أن الشورى تعد ركنا مهما من أركان الاسلام.
كما يتضح لنا ذلك في قول للإمام الشيرازي في كتابه الفقه: الشورى، عندما يقول سماحته: (لا يكفي للحاكم الإسلامي أن يُطبّق مبادئ الإسلام وقوانينه، بدون تطبيق مبدأ الشورى الذي هو ركن من أركان الحكم في الإسلام).
ولو أن الحاكم يعي الأمور جيدا ويبصرها ببصيرة ثاقبة، سوف يلمس لمس اليد تلك الفوائد الجمة التي تعود بها الشورى على الحاكم وحكومته، حيث يتم توزيع المسؤولية على الجميع بدلا من أن يتحملها شخص الحاكم بمفرده، فالأنظمة الفردية كما قدم لنا التاريخ كانت بالنهاية يتحمل أوزار أخطائها والكوارث التي يتسبب بها النظام شخص وحيد هو الحاكم الأعلى المتفرد بالحكم، وتوجد أمثلة كثيرة عن الحكام الطغاة الذين تسببوا في نهايات مأساوية لشعوبهم وأممهم، بسبب تجاهلهم لمبدأ الشورى ورفضهم لمشاركة مؤسسات الدولة في صنع القرار.
أضف الى ذلك هناك ضرر كبير لفردية صناعة القرار، وانفراد شخص واحد في التحكم بمصائر الناس، وقد بدا ذلك واضحا عندما تصرّف بعض الحكام المسلمين وفقا لفرديتهم، فتسببوا بالأذى للأمة، مما حدا بالكثيرين أن يبتعدوا عن الحاكم وحكومته، ويتحولون الى الضد منه، فبقي الحاكم وحيدا في مواجهة أخطائه وأعدائه، وكثير من هؤلاء الحكام لقوا حتفهم بأنفسهم وحيدين بعد أن انفضّ الجميع عنهم بسبب سياساتهم التي أقصت مبدأ الشورى، وعوَّلت على المنهج الفردي الذي انتهى بهم في نهاية المطاف، الى مواجهة مصير مرير.
لهذا السبب أكد الإمام الشيرازي على هذه النقطة، ولطالما حذر الحكام منها، وطالبهم بأهمية ترك الاستبداد، حتى لا يبتعد عنهم أفراد الأمة ويتركونهم وحيدين في مواجهة المصير المحتوم.
حيث أكد سماحته على: (أنّ الناس عندما يرون أن الحاكم لم يُطبَّق قانون الإسلام الذي هو الشورى ينفضّون من حوله ثم يثورون عليه حـتى إسقاطه).
الاستبداد ونزعة التسلّط
مع الاستبداد تزداد نزعة التسلط، لكن مع تطبيق مبدأ الشورى تزدهر الحياة، وتزداد فعالية الفرد والمجتمع، وتنفتح نوافذ كثيرة وكبيرة أمام المواهب والطاقات المختلفة، وعموم الخبرات والكفاءات التي تضمن لها الاستشارية حرية العمل والتنافس بصورة إيجابية، بعيدا عن الإقصاء والصراع، وإنما يتم التنافس في إظهار الخبرات وفق قواعد تتيح للجميع أن يبرعوا في إظهار طاقاتهم وابتكاراتهم، وسبل معالجتهم للجوانب العلمية والعملية في تطوير المجتمع.
لذلك ينصح الإمام الشيرازي بتطبيق مبدأ الشورى في جميع المفاصل الإدارية والتنظيمية، وفق التسلسل الإداري الهرمي، مع التزام الضوابط الإدارية ومراعاة البنود والخطوات التي يستدعيها التطبيق الفعلي العادل للشورى، خصوصا ما يتعلق بتكافؤ الفرص وخلق أجواء عمل تنافسية تسمح لجميع الكفاءات بالقيام بدورها وتطبيق قدراتها بحرية تامة، عندما يتم تطبيق هذه الشروط، سوف تكون هنالك نهضة كبيرة في إدارة مفاصل الدولة.
يحدث هذا بالضبط، عندما يؤمن الحاكم بمبدأ الشورى، ويدعم تطبيقه على نحو فعلي، فيسمح بتحقيق فوائده التطبيقية في المدن والقرى، مع التوجيه بالتزام المنظمات المهنية والطلابية والعمالية والثقافية مبدأ الشورى والمشاركة، وعدم فرض القيادات، أو إقصاء الكفاءات، بالنتيجة سوف تكون هنالك أجواء مشجعة لتطبيق الشورى، والتخلص من مظاهر الاستبداد الفردي في جميع مفاصل الدولة، يحدث هذا عندما يكون النظام السياسي استشاريا.
يؤكد على ذلك الإمام الشيرازي في قوله: (إذا طبِّقت الاستشارة في جميع المناطق والمنظمات، من القرية إلى المدينة، ومن اتحاد الطلبة إلى اكبر إدارة للشؤون الاجتماعية، سوف تظهر الكفاءات، وتتقدم عجلة الحياة إلى الأمام بسرعة كبيرة).
وهكذا نصل الى النتيجة التي طالما أكد عليها الإمام الشيرازي عندما ربط مصير الأمة بالاستشارة، وأكد على هذا الشرط المصيري، غلا تقدم ولا تطور ولا نهوض ولا مواكبة للركب العالمي المتقدم، ما لم يعطِ المسؤولون المعنيون الاستشارة مكانتها الحقيقية، ودورها الفعلي في بناء الأمة، على أن يؤمن الجميع بأن النهوض في المعاصر للمسلمين، يرتبط بمدى اهتمامهم والتزامهم بمبدأ التشاور والتشارك والجماعية في اتخاذ القرار وفق القواعد المتفق عليها والمنصوص عليها في دستور الدولة المستفتى عليه شعبياً.
وعندما تؤمن الحكومة والحاكم والأمة، بأن كل شيء من شؤونها ينبغي أن يرتبط بمنهج ومبدأ الشورى، حينذاك ستكون الكفاءات والخبرات في قمة عطائها، وسوف تعود دماء التطور لتجري في شرايين هذه الأمة التي قاربت من الجفاف، وقد أوجز الإمام الشيرازي مكانة الشورى الحقيقية في هذا القول البليغ، عندما قال سماحته:
(كل شيء يرتبط بشؤون الأمـة لابـدّ مـن الاستشـارة فيه).