البويهيون: بُناة بغداد

محمد طاهر الصفار

2017-12-12 05:30

استحوذت مفاهيم معينة (خاصة) حول وقائع التأريخ على الجو العام المتنامي والمتدرج تحت مظلة السلطات المتعاقبة التي حركت فيها أوتار أهوائها ورغباتها، لتكون هذه (المفاهيم) التاريخية هي محور التأريخ ومركز القوة التي تتساقط عنده كل ما يشير إلى اتجاه غيره.

إن ديناميكية الصراع بين السلطات وبين التيارات المعارضة لم تكن آنية فقط، بل إن هذه السلطات سعت إلى تجنيد جيش من المؤرخين لإزالة الممارسات والسياسات القمعية التي مارستها تجاه خصومها وتجاه الشعب عبر إعلام ضخم كوّن صورة مغايرة تماماً عنها، كما سعت هذه السلطات أيضا إلى إلصاق التهم بخصومها وتشويه أهداف الثورات التي قامت ضدها وتسقيط قادتها أمام الرأي العام, وقد تكفل بذلك مؤرخوها وتناقلتها الأجيال بفعل النزعات القومية التي اتبعتها بعض الأنظمة العربية ضمن المناهج المدرسية والشعارات المزيفة حتى وصل الأمر إلى وضع أنسكلوبيديا خارجة عن إطار التأريخ.

ولتكوين فكرة صحيحة عن الملامح الحقيقية للتأريخ لابد أولاً من التجرّد عن الأهواء والتعصب القبلي والمذهبي كون كشف هذه الحقائق يبرز أهمية العلاقة بين التأريخ والفرد أو المجتمع ككل وقبله يعطي مبرراً للسؤال الذي يطرح دائما: لم التأريخ مجدداً.

في سنوات الطفولة وأيام الإبتدائية كانت مادة التأريخ أكثر المواد غموضاً وتعقيداً من بين المناهج الأخرى ! ربما لا يتقبل ذلك البعض ممن ليس له عمق في التأريخ ولكنها الحقيقة.. فالبون الشاسع بين ما كنا نتلقاه من معلومات حول التأريخ وبين الحقائق من هذه المعلومات تجعل مهمة الدارس والباحث عن هذه الحقيقة صعبة جداً، بل ليست أسهل من مهمة الغواص الذي يستخرج لؤلؤة من بين آلاف المحار في عمق البحر.

إن النظرة التاريخية في المصادر لكثير من الأحداث والشخصيات فيها كثير من التجنّي حول الحقائق وما يُثار حولها من غموض مفتعل وتحريف متعمد أنتجتهما السلطة لصالح مصالحها السياسية وساعدها في ذلك الأهواء والنزعات المذهبية والعصبية لدى المؤرخين

ولكن لا تزال هناك شواهد كثيرة تقف في مقابل هذا التزوير والتحريف حفظها لنا التأريخ أو التأريخ المخفي كما ينبغي أن نسميه والذي لم تستطع أيدي السلطة إخفاءه وقد تركت هذه الشواهد للأجيال انعكاسات عن الماضي ومرتكزات للدراسات التي تخترق أسوار السلطة لكشف الحقيقة التاريخية الناصعة.

التعصّب القومي شوّه وجه التأريخ

لعل من أكبر الجنايات التي لوّثت التأريخ وحرفته هي ما فعلته يد التعصب القومي البغيض والتي لوّثت كل بياض بانتصارها للعصبية القبلية ضد كل ما هو غير عربي وتسقيطه وصب كل حسناته في خانة القومية.

أليس عجيباً أن يتصدر اليوم من سعى لهدم كيان الإسلام قائمة مؤسّسيه وبناة حضارته وتنصب لهم التماثيل وتكتب عنهم الدراسات التي تزكم الأنف منها رائحة العصبية القبلية والتحيّز القومي؟.

أليس عجيباً أن ينسب للخلفاء العباسيين بناء حضارة إسلامية في بغداد ويعطى دور بنائها للمنصور! وأنهم ــ أي العباسيين ــ قد حرصوا على الاهتمام بالعلوم والفنون والآداب, واهتموا بالدين! وكانوا تقاة ورعاة له! وأن هارون الرشيد كان زاهداً تقياً ورعاً! وأن المتوكل هو محيي السنة! ووو..!

لماذا بنى المنصور بغداد

هذا السؤال تجد الإجابة عليه مغلفة وجاهزة من قبل مُؤرّخي القومية وكتابها وهي تبهر من يراها من الخارج ولكنها من الداخل تظهر الوجه البشع للمنصور ودمويته ودكتاتوريته وتجبّره وسطوته, يقول الأستاذ بشير فرنسيس في كتابه: (بغداد تأريخها وآثارها): (لما بويع أبو جعفر المنصور العباسي بالخلافة، وجد أمامه مسائل كثيرة تتطلب الحل والتحقيق لتوطيد أركان الدولة الجديدة.

وكان من جملة تلك القضايا البحث عن عاصمة تقوم في موضع طيب يتوسط أقاليمها ويشرف على أطرافها ويتصل بسهولة بكل جزء من أجزائها.

فخرج المنصور بنفسه مع خاصته يرتاد موضعاً حسناً للعاصمة فتنقل من مكان إلى مكان متبعاً ضفاف دجلة حتى بلغ به المطاف إلى موضع بغداد في جانبها الغربي فاستحسنه وأمر بالبناء).

كان يريد أن يسيطر كلياً على البلاد وتكون تحت قبضته, فوجد هذا المكان الاستراتيجي الذي تجتمع له الخيرات من البلاد وتوضع بين يديه, كما أشارت إلى ذلك كل المصادر إضافة إلى الجغرافيين الذين عددوا في كتبهم المزايا العديدة و(المفيدة) لموضع بغداد للخليفة, حيث نجد عند عميد الجغرافيين (المقدسي) شرحاً لهذه المزايا (العظيمة) لموضع بغداد التي يستطيع الخليفة أن ينتفع بها ويقوي بها ملكه ويشدد من قبضته وسلطته ودكتاتوريته على الشعب.

يقول المقدسي: (إن الخليفة انتصح بما أشار به عليه أهل ذلك الموضع الذين خبروه في الحر والبرد وأثنوا عليه ويذكر أنهم قالوا له:

(تنزل في بغداد فإنك تصير بين أربعة طساسيج، طسوجان في الجانب الغربي وطسوجان في الجانب الشرقي... فاللذان في الغربي قطربل وبادوريا, واللذان في الشرقي نهر بوق وكلواذى, فأنت تكون بين نخل وقرب الماء فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته كان الآخر عامراً وأنت على الصراة تجيئك الميرة ــ الخراج والأموال ــ من المغرب وفي الفرات تجيئك طرائف الشام ومصر وتلك البلدان, وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة, وتجيئك الميرة من أرمينية وما اتصل بها حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة في دجلة, وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وأخرجت القناطر لم يصل إليك عدوك, وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله, وأنت قريب من البر والبحر والجبل...)!!

من أجل هذا بنى المنصور بغداد أيها السادة من أجل أن يتحصّن من أعدائه وفي الوقت نفسه تأتيه الأموال الطائلة من البلاد التي أنهك أهلها الجوع والحرمان ليتنعم بها هو وحاشيته ويستعين بها على قتال المناوئين لسلطته الدموية.., نعم هذه هي الحقيقة وليس كما يتشدّق بها الإعلام من أنه بنى بغداد من أجل أن تكون حاضرة أو من أجل أن يجعل خيراتها تدرّ على المسلمين.. لا لقد حلب حلباً له وحده, فخيرات المسلمين أنفقها على أنصاره وأعوانه لسفك دماء المسلمين منذ أن تولى السلطة وكان شغله الشاغل القضاء على كل خصومه من العلويين وغيرهم وتصفية كل من يشم منه رائحة العداء لدولته.

قصر الذهب

ويستمر المقدسي في تعداد المزايا العظيمة التي قدمها الخليفة لبغداد و(المنجزات العظيمة) التي أنجزها فيها ولم يستفد من هذه المنجزات أحد من الناس سواه بل أنه كان يغتصب أموالهم لإنجاز هذه المشاريع (المهمة) يقول المقدسي: (وأقيم لها في أول الأمر سوران ثم أقام حول مركز المدينة سوراً ثالثاً داخلاً فتألف من مجموع الأسوار الثلاثة دوائر ذات مركز واحد هو قصره المعروف بقصر الذهب)!

لقد أولع المنصور ومن جاء بعده ببناء القصور العظيمة التي لا تخطر على بال الإنسان حتى في الخيال وفرشوها بأنفس وأثمن المفروشات وزينوها بالذهب والجواهر وأسكنوا فيها المغنين والمخنثين والقيان لإحياء لياليهم الحمراء التي لم تنقطع طوال فترة حكمهم وبلغت حالة البذخ والاسراف حداً خرج عن المعقول وكانت حاشيتهم وأعوانهم هم من يتنعمون بهذه الهبات والعطايا والمزايا، في حين كان المسلمون يعيشون أشد حالات الفقر والفاقة ومنهم من لا يجد قوت يومه فيبات طاوياً رغم أن الرشيد خاطب الغيمة حينما أرعدت بقوله المشهور: (أمطري أنى شئت فسيأتيني خراجك) !!

المتوكل وجنون العظمة

عرف المتوكل بولعه ببناء القصور وكان يمتلك قصوراً كثيرة تفنّن في تزيينها وزخرفتها وانشاء حدائقها وبركها ويجد القارئ وصفها في قصائد البحتري شاعره الذي أذهلته فخامتها ومقدار ما صرفه على بنائها! ومن القصور التي بناها المتوكل والتي بلغت (24) قصراً: (العاشق وبركواز، والشاه, والعروس, والبركة, والجوسق, والمختار, والجعفري, والقريب , والربيع, والصبيح, والمليح والسندان, والقلاية, والبرج, والمتوكلية, والبهو, واللؤلؤة, والهاروني...)!! وقد بلغت تكاليف بناء هذه القصور (270) مليون درهم فضة و(100) مليون دينار ذهب!!! ، فيكون المجموع (000/000/270/1) درهم!!

ومن أراد الاطلاع على مبلغ الترف والبذخ والاسراف الذي وصله الخلفاء العباسيون ومدى استهتارهم ومجونهم فليطالع كتاب تاريخ الخلفاء للسيوطي ففيه من وصف الليالي الحمراء وما يجري فيها ما يخجل المرء من ذكره.

وهذه الأمور هي بسيطة إذا قارناها بالجرائم التي ارتكبوها بحق المسلمين وخاصة العلويين حيث امتلأت السجون بالأبرياء ولم تخل أسوار قصورهم من الرؤوس المقطوعة لمناوئيهم من أجل إثارة الرعب في قلوب الناس.

كانت تلك الجرائم التي ارتكبها العباسيون والمنكرات التي فعلوها والبوائق التي مارسوها والدماء التي أسالوها والحرمات التي انتهكوها ما يفوق التصور ويخرج عن حدود العقل حتى قال الشاعر فيهم:

يا ليت جور بني مروان دام لنا *** وليت عدل بني العباس في النار

وتأتي داهية الدواهي والطامة الكبرى لترى من يأتي الآن ويجعل كل هذه الأفاعيل وراء ظهره ليصف هارون الرشيد بالزهد والورع ويصف المتوكل بمحيي السنة ويصف الخلفاء العباسيين ببناة حضارة وأن عصرهم عصر ازدهار ورقي!!

دور البويهيين في بغداد

لم يكن القصد من هذه المقدمة هو عقد مقارنة بين البويهيين والعباسيين أو التعريف بسياسة العباسيين الجائرة في الحكم، ولكن ما يهمنا هو إظهار التأريخ المخفي الذي أسدلت عليه السلطات سحب التعتيم وسعت إلى إبراز الوجه المزيف له والذي أصبح يثير في النفس التقزز والاشمئزاز لتناوب السلطات التي تبعتها على ترديد الشعارات المجوفة التي ألقمتها الأجيال ورصعتها بالأمجاد الكاذبة. بعد أن سلبت منها إرادتها على الاعتراض أو حتى التفكير بما يخالف هذه الشعارات وهذا الموضوع يجرنا إلى بحث آخر لسنا بصدده لكن ما يهمنا هنا هو رسم صورة لسياسة البويهيين ونترك الحكم للقارئ لعقد المقارنة بين السياستين ــ العباسية والبويهية ــ

آدم متز

لنستمع إلى ما قاله المستشرق آدم متز (في كتاب الحضارة الاسلامية في القرن الرابع) تعريب محمد عبد الهادي أبي ريده حيث جاء ما نصه:

(كان عضد الدولة يمثل الحاكم تمثيلاً حقيقياً، وقد عُني بمعرفة الأخبار وسرعة وصولها شأن كل من يريد أن يحكم دولة كبيرة حكماً صحيحاً، وكانت الأخبار تنتقل بين شيراز وبغداد في سبعة أيام، أي أنها كانت تقطع في كل يوم ما يزيد على مائة وخمسين كيلو مترا.

وقد طهر السبل والطرقات من السرّاق واللصوص ومحا أثر قطاع الطرق وأعاد النظام ووطد الامن في صحراء الجزيرة العربية وصحراء كرمان وكانت مخيفة وكان سكانها يضعون الضرائب على قوافل الحج فارتفعت وتحقق الأمن وأقام للحجاج السواقي في الطرق واحتفر لهم الآبار وفجر الينابيع وأدار السور حول مدينة الرسول وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها وابتدأ بالمساجد الجامعة وكانت في نهاية الخراب وهدم ما كان متهدّماً بنيانها وأعادها جديدة قوية, وألزم أرباب العقارات بالعمارة فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال. وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب ومطارح الجيف والأقذار وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.

وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها وعفيت رسومها, فأمر بحفرها من جديد وأقام القناطر والجسور وعملت عملاً محكماً وحضر كثير من أهل البادية فزرعوا وعمروا البرية. ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة, بل كان مركزها في فارس, وبنى سوقاً للبزازين (تجار الأقمشة) وكان قد نقل إلى بلاده ما لا يوجد فيها من الأصناف وشيد مارستانا (مستشفى) كبيراً في بغداد وأمر بأدرار الأرزاق على قوام المساجد والمؤذنين وأئمة الصلاة والقراء وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء, وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى غير المسلمين. وأذن للوزير في عمارة المعابد لليهود والأديرة للنصارى وإعطاء الأموال لكل محتاج وإن لم يكن مسلما.

وكان ينفق كل جمعة عشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين موتى الفقراء, واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للفقراء, ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية, وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة وكان يبذل مالاً كثيراً على عمارة المصانع وتنقية الآبار ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات ليقدموا العلف لدواب المسلمين.....)

هكذا أصبحت الأرض في عهد معز الدولة البويهي واحة غناء تنتشر فيها سواقي المياه بعد حفر الآبار وتفجير الينابيع وإقامة السدود، كما بلغت بغداد ذروتها في التمدن بعد بناء الأسواق والمحال التجارية ودعوة أبناء الشعب إلى بناء دور سكنية لهم ومن عجز عن ذلك أعانته الدولة واقرضته من بيت المال.

كما أصبحت ببغداد في عهده مصدر بهجة للنفس وراحة للقلب من خلال زرعها بأنواع الزهور والمغروسات التي جيء بها من إيران وإزالة كل مطارح الأزبال والنفايات واتسعت رقعة العمران في بغداد فبنيت المساجد والأسواق والجسور والقناطر وإقامة نظام السقاية الذي كان بمثابة دعوة صريحة لعرب البادية إلى سكنى المدن واستصلاح الأراضي الزراعية وتشجيعهم على حياة الاستقرار وممارسة الزراعة، كما تم تسهيل رحلة الزائرين إلى المناطق المقدسة وتخفيف العبء على الزائر من خلال بناء الجوامع ودور ضيافة لاستقبال القادمين من الزوار إلى العتبات المقدسة في العراق، كذلك السماح لكل طوائف الشعب بممارسة عباداتهم وعقائدهم بكل حرية وإنشاء معابد لليهود وكنائس للنصارى ومساعدة الدولة لهم بكل ما يحتاجونه وفي شتى المجالات... وأصبح الفقير والعاجز والأرملة واليتيم لا يخافون على مستقبلهم في ظل هذه الدولة بعد أن تكفلت بما يسد احتياجاتهم وصرف رواتب شهرية لهم.

وقد وزَّعت الأموال على الأئمة والمؤذنين والعلماء والقُرَّاء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد، وأنشأت الحدائق والمتنزهات، ونظفت مجاري الأنهار، وحفرت الترع والأخاديد، وأقيمت المسنيات (آلات لتوجيه المياه)، وفتحت أقنية جديدة لمنع الناس من الاستبداد بالأقنية والمياه، وأقيم العدل بين الناس كافة بغض النظر عن توجهاتهم ومناصبهم في الدولة، وأبطلت الضرائب المزيدة على الفلاحين.

وقد بنى البويهيون القصور العظيمة لكن بناءها لم يكن كغاية بنائها عند بني العباس من إقامة الليالي الحمراء بل لجعلها مكانا مناسبا للعلماء وطلاب العلم ففي شيراز بني قصر عظيم فيه ثلاثمائة غرفة, احتوت على خزائن كتب هائلة مفتوحة للعلماء وقد بنى البويهيون مرصدا للفلكيين في بغداد وكان من أشهر العلماء الذين عاشوا في ظل دولتهم في الفلك والرياضيات أبو الوفاء البوزجاني.

الصناعة

عاشت بغداد انتعاشاً اقتصادياً لم تشهد له مثيل في زمن البويهيين وتطوّرت الصناعات والمهن الفنية يقول ابن تغري بردي في (النجوم الزاهرة): (لقد ازدهر الفن زمن البويهيين في كل مجالاته وبرع الفنانون الفرس في دقة مزج الألوان واتقان النقوش الهندسية وكانت شهرتهم في فن النقش لها صداها في سائر البلدان حتى وصلت عبقرية المصورين عند بعضهم إلى وضع رسوم المنسوجات وخاصة على السجاد العجمي الشهير، فأتقنوا صنعها وتفننوا في زخارفها حتى وصلت درجة النبوغ الفني عندهم في الهندسة المعمارية مرتبة الاستاذية الفائقة وتجلت معالمها في روعة العمائر الفخمة وفي بهاء المنائر الدينية وعظمة القبب المطعمة بنقوش الفسيفساء الملون، والتي لازالت بغداد تزخر ببعض اثارها حتى يومنا هذا رغم مرور أكثر من ألف عام على انشائها).

البيمارستان (المستشفى)

يقول ابن الأثير في تأريخه وهو يتحدث عن أحداث سنة (356هـ): (في هذه السنة ابتدأ معز الدولة في بناء المارستان (المستشفى) وأرصد له أوقافاً جزيلة وتصدق بأكثر أمواله وأعتق مماليكه ورد شيئاً كثيراً على أصحابه وكان حليماً كريماً عاقلا..)

كان بناء هذا المارستان أو (البيمارستان) ــ وهي لفظة فارسية مركبة من كلمتين: بيمار وتعني المريض، وستان وتعني الدار، وهي تطلق على المستشفى أو دار المرضى، وقد أنشأه معز الدولة في الجانب الغربي من بغداد وعند إكماله كان على أحسن ما يكون عليه من جانب تكامل شروطه وجاهزيته للعمل حيث زود بكل ما يحتاج إليه الطبيب والممرض والمريض والأدوية والمعدات والأدوات يقول ابن خلكان: (وأعدَّ له من الآلات ما يقصر الشرح عن وصفه).

كما زوده معز الدولة بأكثر من ستين طبيبا من أمهر الأطباء في ذلك الوقت وفي كافة الاختصاصات للعمل فيه تحت إشراف أبو الحسن ثابت بن سنان الذي تولى منصب رئاسة الأطباء في البيمارستان ومن أشهر الأطباء الذين عملوا في هذا المارستان: أبو نصر الرحبي الكحال، وجبرائيل بن عبيد الله بختيشوع، وأبو يعقوب الأهوازي، وأبو عيسى بقية، وقد عرف هذا البيمارستان بـ (المارستان العضدي). وعد واحدا من أشهر المؤسسات العلاجية التي أنشئت في عصر ازدهار الحضارة الإسلامية.

وقد وضع لهذا (البيمارستان) برنامج غاية في الدقة والعناية وقسم إلى قسمين ــ للرجال والنساء ــ كما قسم كل قسم من هذين القسمين إلى عدة أقسام ضم كل قسم قاعات كبيرة لعلاج كافة الأمراض على يد أمهر الأطباء وكانت تجرى في تلك القاعات العمليات الجراحية بشقيها (الصغرى والكبرى) ويجري العمل في هذا المستشفى ليل نهار حيث يتناوب مجموعة من الأطباء الاختصاصيين في مختلف فروع الطب العمل فيما بينهم، ويشرف على كل مجموعة منهم طبيب لمتابعة مجريات العمل وتفقد أحوال المرضى، كما ويرافق الأطباء في عملهم مساعدون من الممرضين والمشرفين والخدم يقومون على خدمة المرضى وتقديم الطعام والعلاج لهم.

وضم هذا البيمارستان أيضا إضافة إلى هذه الأقسام الداخلية عيادات خارجية تقدم خدماتها للمرضى من علاج ودواء من الذين لا يستوجب بقاؤهم في البيمارستان، حيث يقوم طبيب متخصص بكتابة (وصفة) الدواء على ورقة وإعطائها للمريض الذي يستلم بها دواءه من صيدلية البيمارستان ليتابع العلاج في بيته، وتحتوي الصيدلية على أنواع مختلفة من الأدوية لكافة الأمراض.

وقد اعتنى معز الدولة بهذا البيمارستان عناية فائقة وأنفق عليه أموالاً طائلة يقول عنه ابن خلكان عنه: (وليس في الدنيا مثل ترتيبه) وقد خصص لإدارته (ناظرا) كفوءا يقوم بالأمور المالية ويصرف رواتب الأطباء وبقية العاملين في المستشفى من الأموال التي تُرصدها الأوقاف وهذا المنصب من الوظائف الديوانية المهمة والكبيرة في الدولة ولا يتبوأه إلا الأشخاص الأكفاء الأمناء.

السد العظيم

وهو من إنجازات عضد الدولة البويهي شيَّده عند مدينة شيراز بفارس، وعُرف باسم (باندي أمير) أي سدَّ الأمير، كما شيد سدّاً آخر بالقرب من بلدة النهروان في العراق يسمى (سد السهيلة)، ومن إنجازات البويهيين أيضا حفر الجداول وتهيئة الملاحة فأزالوا بذلك خطر الفيضانات الموسمية (الدورية) التي كانت تغمر المناطق الزراعية

وقام عضد الدولة بإصلاحات زراعية كثيرة منها وضع نظام الري وتنظيم الجباية، واهتم خاصة بإصلاح البثوق وكري الأنهار وبناء القناطر على أفواهها لتنظيم مجرى الماء، ووضع الحرّاس في بعض النقاط الهامة لحراسة القنوات والسدود في الليل والنهار، وأضاف عضد الدولة إلى هذا مهمة إصلاح الجباية، فوضع لها نظاماً ثابتاً.......

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي