الحضارة الموحدية .. شمس الإسلام تشرق على الغرب
محمد طاهر الصفار
2017-06-12 06:10
ارتكزت سياسة الدولة الموحدية منذ انطلاق شرارتها الأولى على إقامة حضارة إسلامية إنسانية شاملة قائمة على العلم والثقافة كدعامة أساسية للدولة، فأعطى الموحدون العلم والثقافة أولوية لبناء دولتهم وجعلوها نواة لحضارتهم وأسسوا المكتبات الضخمة واستقطبوا العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء والمفكرين والفلاسفة والأطباء والجغرافيين والفلكيين والرياضيين.
النهضة الفكرية
يقول المؤرخ المصري الكبير والمختص بالدراسات الأندلسية محمد عبد الله عنان (1896 ـ 1986م)، في كتابه (نهاية الأندلس) في حديثه عن الحياة الفكرية في ظل دولة الموحدين ما نصه:
(في ظل دولة الموحدين التي خلفت دولة المرابطين في حكم الأندلس انتعشت الحضارة الأندلسية والتفكير الأندلسي، وكان لدولتهم بالأخص صبغة علمية دينية، إذ كان مؤسسها المهدي ابن تومرت من أئمة التفكير الديني، وأبدى خلفاؤه عبد المؤمن وبنوه اهتماماً بالعلوم والفنون وأطلقت حرية التفكير والبحث...
وفي تلك الفترة بالذات ــ أعني ــ في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع الهجري، بلغ التفكير الأندلسي ذروة النضوج وتفجرت ينابيع النبوغ وظهرت طائفة من أعظم أقطاب العلم والأدب، وكان في طليعة أقطاب العلم في هذا العصر بنو زهر الإشبيليون، وعميدهم الوزير والطبيب الأشهر أبو العلاء بن زهر، ثم ولده عبد الملك بن زهر المتوفى سنة (564هـ/1168م)، وهو المعروف باللاتينية (Avenzoar)، ويعتبر ابن زهر أعظم طبيب ومشخص في القرون الوسطى بعد الرازي، كما ويعتبر ابن رشد أعظم طبيب بعد جالينوس ويعتبر كتابه التيسير من أعظم مراجع الطب في كل العصور..
وكان لمؤلفاته التي ترجمت كغيرها إلى اللاتينية في عصر مبكر أثر عظيم في مسير البحوث الطبية في أوربا، وظهر إلى جانب هؤلاء عدد من أقطاب الفلاسفة مثل ابن طفيل الوادي آشي المتوفى سنة (571هـ/1176م)، وهو صاحب رسالة حي بن يقظان الشهيرة، والفيلسوف محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى سنة (594هـ/1198م)، والرئيس موسى بن ميمون القرطبي المعروف بـ (الرميم) المتوفى سنة (602هـ/1205م)..
وازدهرت المعالم العلمية أيام الموحدين بالمغرب والأندلس وكانت المعاهد الأندلسية في إشبيلية وقرطبة وغرناطة وبلنسية ومرسية ومالقة يومئذ مجمع العلوم والمعارف الرفيعة في تلك العصور، وكانت مقصد الطلاب من كل فج، وكانت مزودة بالمكتبات التي تضم أنفس الكتب والمصنفات في مختلف العلوم والفنون)
الجانب العمراني والأمني
أولى الموحدون هذا الجانب الغاية القصوى من العناية والاهتمام فقد تم إنجاز الكثير من المعالم العمرانية والمساجد والمعاهد العلمية ومن أهم آثار هذه الدولة مسجد اشبيلية الجامع ومنارته العظيمة ولا يزال هذا الجامع قائماً إلى اليوم لكنه تحول إلى كنيسة إشبيلية العظمى أما منارته العظيمة فقد تحولت إلى برج الأجراس التابع للكنيسة وهي من أعظم آثار الموحدين الباقية في إشبيلية وأروعها ويطلق عليه الأسبان اسم (لاخيرالدا) وهو الأثر الوحيد الذي بقي شاخصاً للأجيال إلى الآن يروي قصة حضارة نشرت شمس علومها على المشرق والمغرب.
وقد عُني الموحدون بالدراسات الدينية على اختلاف مواضيعها من تفسير القرآن الكريم ودراسات الحديث النبوي الشريف كما تميزت تلك الفترة بأن الدراسات أصبحت تعتمد على منهج علمي وأسلوب موضوعي فأعادت الروح في جسد الأمة الإسلامية بعد أن عاث العباسيون فساداً ودماراً في البلاد كما فشا العدل والأمن والرخاء في ربوع تلك الدولة.
الفقه واللغة
اهتم الموحدون بهذين الجانبين اهتماماً عظيماً لما لهما من أهمية في الحفاظ على روح الدين الإسلامي ولغة القرآن الكريم، فركزوا في اهتمامهم على التجديد بعد أن كادت أن تضمحل هذه الجوانب في مناحي الحياة الاجتماعية بسبب الركود.
يقول الكاتب والمؤرخ والباحث المغربي محمد بن تاويت التطواني ، (1336هـ/1917م - 1414هـ/1993م) في كتابه: (تاريخ التشريع الإسلامي): (نهضت الدولة الموحدية على حلم عظيم أرادت أن تحققه بكل عزم وفي كل ميدان ذلكم الحلم هو الثورة على كل شيء، الثورة على الأوضاع السياسية والاجتماعية، الثورة على مناحي التفكير في العقائد والأحكام والعلوم عامة، الثورة بالتجديد في كل شيء وبإعادة صرح الدولة الإسلامية الكبرى قويا شامخا عظيما مهيبا).
ويتابع ابن تاويت في نفس الكتاب قوله: (وتنظر ــ أي الدولة الموحدية في ثورتها العلمية ــ في مناهج العلوم فتجد المنهج الأولي منها يحتاج إلى ثورة عارمة فيعهدون إلى ابن مضاء (أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن مضاء اللخمي القرطبي (513 ــ 592 هـ/1116 ــ 1196م)، وإذا به يحمل راية الثورة على منهج النحاة ويؤلف كتابه المعروف وهذا الفقه كان قد وصل إلى مرحلته الراكدة، وأغلق أبوابه على الفكر الإسلامي ثم أغلق نوافذه فاختنق به من كان على رمق من الحياة فجاء الموحدون فحطموا أو حاولوا أن يحطموا هذا السجن وقالوا بالإنطلاق أجل الانطلاق والعتق والتحرّر من كل قول وكل مذهب والاعتصام بالمنبع الأول الكتاب والسنة فألفت التآليف العديدة ولم يكونوا كذلك في ظاهرية أو حزمية بالحرف بل كانوا إلى جانب الفكرة عمليين يربون النشء على هذا التحرر كما يربونه على القوة والجهاد في سبيل العقيدة والدين).
ابن تومرت والثورة الشيعية
إن الثورة الفكرية والعلمية التي أحدثها محمد بن تومرت على الواقع المزري والفاسد كانت إصلاحية شاملة ضمت كل مجالات الحياة الدينية والدنيوية ودعت إلى الرجوع للإسلام الحق المتمثل بأهل البيت (عليهم السلام)، يقول ابن تاويت:
(هذه مبادئ أجملها الناس فيما وسموا به ثورة ابن تومرت ولكن ابن تومرت وثورته بعد هذا في حاجة إلى دراسات ودراسات لم ينته إليها الدارسون إلى الآن، وكل ما يمكن أن يقال إن الرجل بدأ بالعمل تلاه الظهور بالفكرة على عكس ما عهد في غيره)
أوجز ابن تاويت الثورة العلمية والفكرية التي قام بها الموحدون من أجل إرجاع صرح الفكر الإسلامي والدعوة إلى تطبيق الشريعة الإسلامية والرجوع إلى القرآن الكريم بعد أن كاد الحس الديني يمحى في الأندلس بنزوع الحكام إلى الانغماس في الترف والبذخ والرذيلة وإقامة الليالي الحمراء والمجون والعبث وخاصة حكام بني أمية الذين حرّفوا الشريعة وأحكامها وأبعدوا الناس عن فكر أهل البيت (عليهم السلام)، فسعى الموحدون إلى إعادة روح الإسلام في المجتمع والدعوة إلى أحكامه ومفاهيمه، فالثورة جذرية كما وصفها ابن تاويت بقوله: (وعلى كل حال فالثورة الجذرية حاصلة، وتدعيم الثورة لا بد له من إيمان قوي ووقفة عميقة وطاعة متفانية لهذا القائم بالثورة وبهذا الزعيم في الفداء).
التعصب يلازم ابن تاويت
ولكن ابن تاويت قد شط كثيراً وأخطأ عندما قال إنهم ــ أي الموحدين ــ (قالوا بالانطلاق والعتق والتحرر من كل قول وكل مذهب والاعتصام بالمنبع الأول الكتاب والسنة)، في حين إن كل الأدلة والحقائق التاريخية تدل على أنهم أخذوا بمذهب التشيع، وقد جاء برأيه المخالف للحقيقة من خلال ما علق في ذهنه مما كتبه بعض الكتاب والمؤرخين الذين حادوا عن الحقائق وساروا بطريق الأهواء التي أملتها عليهم السياسة فأخرجوا دولة الموحدين من دائرة التشيع، ولكن الحقيقة يجب أن تظهر مهما حاول أعداؤها إخفائها حيث يعود ابن تاويت ليذعن لها ويقول:
(فأخذ ــ أي الموحدين ــ بمذهب الشيعة القائم على الإيمان بالحق الإلهي) وهذا الوصف ينطبق على الشيعة الإمامية التي تقول بأن الوصية في أمير المؤمنين علي بن أبي طالب بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
الإذعان للحق والحقيقة
وتظهر الحقيقة جلية في حديث ابن تاويت عندما يستطرد في كلامه عن حضارة الموحدين وفكرهم، فهو مهما حاول أن يخفيها فإنها تظهر ويظهر معها زيف كل من خالفها، فلما لم يستطع ابن تاويت إنكار حقيقة تشيع الموحدين الجلي فقد ناقض نفسه بنفسه في محاولته إبعاد الفكر الموحدي عن الفكر الشيعي الأصيل القائل بأحقية أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في الخلافة بوصية الرسول وأحقية أولاده المعصومين (عليهم السلام) من بعده وهو أصل الفكر الموحدي.
فقد حاول ابن تاويت أن يشوّه هذا الإعتقاد في الفكر الموحدي والانقياد لما وضعه المزورون من عملاء الأمويين من التهم الباطلة وألصقوها بمحمد ابن تومرت مؤسس الدولة الموحدية وما اختلقوه من أراجيف وأباطيل وأكاذيب، فأبى ابن تاويت إلا أن ينصاع لما تلقفه ممن قبله من المؤرخين الذين سيرتهم السياسة وخلبت عيونهم وعقولهم الأموال ليضعوا هذه الأكاذيب فقال ما نصه: (وفي هذا الداعي إلى خلق المعجزات ــ يقصد محمد بن تومرت ــ فأخذ إذن بمذهب الشيعة القائم على الإيمان بالحق الإلهي والطاعة لمن تحقق بذلك والثقة بالمصير فهو خالد خلود الدهر وهو وارث الأرض وهو الحبل الذي لا ينفصم عره)!!
التناقض يظهر انحرافه
وقد أوضحنا في موضوع (الدولة الموحدية دولة الحضارة) هذه الأباطيل التي ألصقت بابن تومرت، كما أوضحنا محاولة سلخ ابن تومرت عن نسبه الحسني العلوي بأياد أموية، ونبقى مع ابن تاويت لنرى تناقضه الفظيع في قوله:
(إلا أن هؤلاء ــ أي الموحدين ــ لم يركنوا إلى التشيّع ركوناً نظرياً يرجع إلى الماضي فيحاسب عليه ويطمح إلى المستقبل فيغرق في حلمه ويبقى بين الماضي وبين المستقبل يدفعه هذا ويجذبه ذاك، وإنما أراد ابن تومرت أن يرى للأصحاب هذه الحقيقة عياناً ففعل فيها ما فعل ووفق في فعلته القاسية فكان النصر حليفاً وكانت دولة الموحدين تهدر بالعظمة وتجيش بالقوة فلا تحدها البحار الهائجة ولا الجبال الماردة ولا الصحارى الشاسعة)..
هذا القول يحتاج إلى أكثر من توقف، فابن تاويت نفى عن الفكر الموحدي أنه رجع إلى الماضي يعني حديث السقيفة ومقتل الإمام الحسين على يد بني أمية وغيرها من المظالم التي لحقت بأهل البيت (عليهم السلام) والتي هي من أصل الفكر الشيعي الأصيل، في حين إنه عندما يتحدث عن الشعر الموحدي يذكر الأشعار التي تتحدث عن هذه المظلومية بنفس شيعي لا يختلف عن الشعر الشيعي الكوفي في المضمون!!
الاستمرار في الخطأ
ثم أنه مرة أخرى يخطئ حينما يرى أن هناك تبجيلا للأصحاب ــ يقصد صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ــ فينفي عن الدولة الموحدية التشيّع الخالص وهذا الاستنتاج الخاطئ جاءه مما تلقاه عمن سبقه في أن الشيعة يسبون جميع الصحابة ويبغضونهم في حين إن أغلب صحابة رسول الله هم من الشيعة ومن أراد التأكد فليراجع موضوع الصحابة في نهج البلاغة فاشتبه الأمر على ابن تاويت لعدم تمحيصه وتحقيقه في الموضوع فأصدر حكماً خاظئاً يحسب ويحاسب عليه.
الشعر الموحدي
لو أنها نصرتْ علياً لم ترد *** خيلُ ابن حربٍ ساحة الأنبارِ
هم أظهروه مع النبيِّ وواجبٌ *** أن يتبعوا الإظهارَ بالإظهارِ
ملئت به الدنيا صفاءً بعدما *** ملئتْ من الأقذاءِ والأكدارِ
هذه الأبيات من قصيدة لأشهر شاعر في الدولة الموحدية وقد قرأها أمام عبد المؤمن بن علي أول خليفة موحدي، وهذا الشاعر هو أحمد بن عبد السلام المعروف بـ (أبو العباس الجراوي) (528 ــ 609هـ/1134 ــ 1212م)، وهي لا تحتاج إلى توضيح على فكر صاحبها المتماهي مع فكر الخليفة وخاصة البيت الأخير الذي يبين فيه بقول صريح إن الخلافة رجعت إلى صاحبها الشرعي وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) بعد أن ملئت الدنيا ممن تولاها قبله بالأقذاء والأكدار وهذا الشعر كما هو واضح لا يختلف عن أي شعر شيعي آخر.
غير أن ابن تاويت يقف متحيِّراً أمام هذه الحقيقة فلا يجد أمامه غير أن يصفها بالتطرف فيقول في حديثه عن الشعر الموحدي ما نصه:
(هذا ما يتصل بالناحية الفنية وهناك ناحية مذهبية أعني بها المذهب الشيعي، ولا شك أن الشعراء في ذلك اعتمدوا كلياً على ابن هانئ، ولكن اعتمادهم لم يكن متطرفاً كما اعتمدوا كذلك على مبادئ شيعية متطرفة إلا أنهم لم يفهموا خطر تطرفها أو فهموه وأخذوا بجانب منه دون الرجوع به إلى أصل المذهب فيه)!!!
التذبذب في الرأي
بهذا التذبذب في الرأي يريد ابن تاويت أن يقول أن الشعراء الموحدين عندما تكلموا عن فكر وعقائد الشيعة لم يفهموا أصلها في الفكر الشيعي وإلى ما توحي !!!
إنه يريد أن يقول أن الشعراء الذين استقوا من الفكر الموحدي والفكر الشيعي الموحدي كانوا ببغاءً يردد ما وصل إليههم من هذا الفكر !!!
ونحن بدورنا لا نعلق على قوله سوى بقوله ونذكره به وهو: (هذه مبادئ أجملها الناس فيما وسموا به ثورة ابن تومرت، ولكن ابن تومرت وثورته بعد هذا في حاجة إلى دراسات ودراسات لم ينته إليها الدارسون إلى الآن، وكل ما يمكن أن يقال إن الرجل بدأ بالعمل تلاه الظهور بالفكرة على عكس ما عهد في غيره)
فهل أن أي فكر يحتاج إلى دراسات ودراسات لم يهضمه صاحبه وردده كما تردده الببغاء نترك الجواب للقارئ اللبيب.
الشعر الشيعي الموحدي يوضح الحقيقة
ولا يستطيع ان تاويت إلا أن يذعن تماماً للحقيقة كاملة عندما يتعرض لقصيدة الجراوي وهو أكبر شاعر في الدولة الموحدية في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) فيقول عنها:
(ومن قصائده ملحمة في رثاء الحسين وهي لا تختلف عن تلك المراثي التي نعرفها للشيعة تقرأ صبيحة يوم عاشوراء ونظمها للمنصور الموحدي (عبد المؤمن بن علي)!!
إنه اعتراف كامل وإذعان للحقيقة فلم التلاعب بها إذن والانحراف عنها ؟ فهل غاظهم أن ترتفع أعلام حضارة إسلامية أثرت العالم بالعلوم والفنون والآداب والعمران لا لشيء سوى أنها كانت تعتقد بالمذهب الحق واتباع أهل البيت (عليهم السلام)
الملحمة الحسينية
الحديث عن الشعر الشيعي الموحدي يحتاج إلى دراسة مطولة وهو متعدد الأغراض، ولكن النفس الشيعي يطغى عليه حتى يكاد من يسمعه لا يفرق بينه وبين الشعر الكوفي الشيعي وشعر كبار شعراء الشيعة أمثال الكميت ودعبل، وسنوجز في استعراض هذه الشعر بأبيات من الملحمة الحسينية التي تبلغ (93) بيتا والتي كانت تقرأ في يوم عاشوراء كل سنة وهي للشاعر أبو العباس الجراوي ومنها:
ألا يا رسولَ اللهِ صدري توهَّجا *** لمصرعِ سبطٍ بالدماءِ تضرّجا
فعطلتُ جيدَ اليأسِ من حليةِ الرجا *** فتعساً لأقوامٍ يريدونَ لي النجا
أقولُ لحزنٍ في الحسينِ تأكّدا *** تملّك فؤادي متهماً فيه مُنجدا
ولو غير هذا الرزءِ راحَ أو اغتدى *** لناديته قبل الوصولِ مردِّدا
وركبٌ إذا جاراهم البرقُ يعثرُ *** تذكّرتُ فيهم كربلاءَ فأجأرُ
وغيداء لا تدري الأسى كيفَ يخطرُ *** بثثتُ لها ما كنتُ بالطفِّ أضمرُ
أما لعهودِ الهاشميينَ حافظُ *** إلى السبطِ يومٌ للرسالةِ غائظُ
على ثكله قلبُ الكريمِ محافظُ *** فيا مهجتي إني على السبطِ قائظُ
نجيعُ حفيدِ المصطفى كيفَ يُسلكُ *** ورقُّ بنيهِ بعده كيفَ يُملكُ
فيا كربلا والكربُ لي متملّكُ *** ليكفيكَ منّي إن ذكركِ مُهلكُ
أيا حسرتي لما انتأوا وتحمّلوا *** إلى كربلا مأوى القلوبِ تنقلوا
ليسبوا على حكم الضلالِ ويقتلوا *** فيا رزءهم صمم ومثلكَ يفعلُ
أيا فاسقاً قدَّ الغرورُ شكائمَه *** فأوردَ في صدرِ الحسينِ صوارمَه
تهيَّأ ليومِ الحشرِ تجرعْ علاقمَه *** فما لكَ مُنجي من خصومةِ فاطمة
أيا أمَّة الطغيانِ مالكم حسُّ *** علامَ بناءَ الدارِ إن هُدِمَ الأسُّ
أترجونَ إصباحاً وقد غابتِ الشمسُ *** وزلَّ بكم عن دينكم ذلك الرجسُ
لأنتحلنَّ الدهرَ حبَّ بني علي *** وأتلو مراثيهم على كلِ محفلِ
عسى جدَّهم يومَ الجزاءِ يمدُّ لي *** بغفر ذنوبي راحة المتفضلِ
الحضارة الموحدية تستقطب العلماء
استقطبت الحضارة الموحدية العلماء والأدباء والمفكرين والفلاسفة والمبدعين واحتضنتهم ووفرت لهم كل ما يحفزهم على الإبداع، فإضافة إلى ما ضمته هذه الدولة من أعلام الفكر والعلم والثقافة كعبد الرحمن بن منقذ، وتقي الدين بن حمية السرخسي الخراساني، وعماد الدين القاضي وغيرهم، فقد ورد عليها من الشرق الكثير من العلماء والأدباء والشعراء الذين وصلت إليهم أخبار الحضارة العظيمة التي أقامها الموحدون ونهضتهم الفكرية والعلمية التي غطت أصقاع العالم فتقاطروا عليها، ومن الذين وفدوا عليها من الأعلام:
العالم والفلكي والجغرافي والرياضي الكبير الشريف الإدريسي، والمؤرخ عبد الواحد المراكشي، وأبو موسى الجزولي، والطبيب المشهور علي بن يقظان السبتي، وابنا دحية السبتي، وإبراهيم بن يحيى بن حافظ المكناسي، وأبو زكريا يحيى بن معط، وابن الأثير الصنهاجي، وعبد الرحيم بن طلحة الأنصاري السبتي، وعبد الحق بن سليمان القيسي التلمساني، ويونس بن يوسف الجذمي، ومحمد بن إبراهيم البقار الفاسي، ومحمد التميمي الفاسي، وعمر بن مودود السلماسي، ويحيى بن عبد الرحمن القيسي الدمشقي المعروف بالأصبهاني، ومحمد بن يحيى الخزرجي المصري وغيرهم الكثير.
الزراعة والصناعة والتجارة
انتعشت هذه الحقول المهمة في ظل دولة الموحدين فعاش الناس في رخاء ودعة، فهذه الحقول تشكل عصب الحياة في المجتمع حيث ازدهرت الزراعة بشكل خاص وارتقت أساليبها الفنية وتنوعت المحاصيل وانتشرت زراعة الفاكهة في أحواز إشبيلية وبلنسية، وتقدمت الصناعات الحربية والمدنية ولا سيما صناعة الأقمشة الممتازة والصناعات الجلدية وصناعة الورق وغيرها، كما ازدهرت التجارة وعم الرخاء وكانت ثغور الأندلس مثل بلنسية ودانية وإشبيلية والمرية ومالقة من أعظم مراكز التجارة الخارجية في هذا العصر.
الأسطول العظيم
يقول ابن خلدون في مقدمته: (إن أساطيل المسلمين وصلت في عهد الأمير عبد المؤمن بن علي إلى ما لم تصل إليه من قبل ولا من بعد وذلك من ناحية جودة الصناعة واتقان الحيل الهندسية والعلم بالشؤون البحرية).
وقد خاض عبد المؤمن بن علي بهذه الأساطيل ملاحم عظيمة ومعارك ضارية في الدفاع عن الإسلام ضد الروم وتصدى لهجماتهم وأوقع بهم هزائم منكرة، ولم تشر التواريخ إلى أي هزيمة وقعت لهذا الأسطول وكان من أهم انجازات هذا الأسطول انتزاع مدينة المهدية من أيدي النورمانديين.
النهاية والبقاء
لقد بنى الموحدون حضارة لا تزال آثارها إلى الآن شاخصة وبقيت إنجازاتها مفخرة على مر الدهور، وبسقوطها بيد الأسبان خسر العالم حضارة من أرقى الحضارات التي قامت في التاريخ فغابت العلوم والفنون وتضاءل الفكر والمفكرون واضمحل الأدب وكانت ضربة قاضية وجهت إلى الشعر.