تدخل الدولة لحماية المجتمع من الشركات المندمجة

شبكة النبأ

2023-12-28 07:08

وربما أصر رجل الاقتصاد على أن مشاكل الرخاء بعيدة عن ميدان عمله، فهم يهتم بإيجاد أحسن السبل لرفع الإنتاج، فعندما يتخذ من مبادئ النظام القانوني والاستقرار السياسي والعوامل النفسية عند الأفراد المقادير المعلومة لمعادلاته، والتي يقوم بواسطتها بوضع هندسة ذهنية مهما كانت قيمتها كتنظيم للفكر؛ نجد أن ذلك غريبٌ عن العالم الحقيقي الذي يعيش فيه؛ إذ إنه بالرغم من أن الرجل السياسي يهتم بالإنتاج إلى أقصى درجة فإن الإمكانيات التي تقترن بصنع الأشياء والطريقة التي توزع بها، وهما عنصران من عناصر الرخاء، لا ينفصلان عن مسألة هذا الإنتاج.

فليس عالمه بالعالم الجامد حيث تتحدد بعض المقادير تحديدًا دائمًا. ولكننا نجد أن الأفكار والأحكام تعتبر في عالم الإنتاج ناحية لها فاعليتها؛ ولذلك وجب أن تتمشى سياسته مع هذه الأفكار وهذه الأحكام كحقائق ليست بأقل شأنًا من نسبة الإنتاج إذا كُتب له النجاح في عمل هذا التحديد.

ويجدر بنا أن نورد هنا مثالًا يوضح هذا التأكيد، ففي كتاب للبروفسور روبنز ناقش فيه أسباب الركود الذي حدث سنة ١٩٢٩م وما بعدها، والوسائل التي تنقذنا من هذه النتائج الوخيمة. وذكر أن هذا الإنقاذ يتوقف على قدرتنا على توطيد معالم الاستقرار السياسي واستعدادنا للتخلي عن سياسات التدخل والمعونة وما شابه ذلك؛ إذ إنها تعرقل السير الطبيعي للنظام الرأسمالي، وأن ما يستخلص من هذه الدراسة أكثر استلفاتًا للأنظار من العلاج الذي قدمه؛ لأن الاستقرار السياسي، ولو أنه ينشأ إلى حد ما عن أسباب غير اقتصادية؛ إلا أنه لا يمكن الفصل بينه وبين هذه النواحي.

والحقيقة هي أن معنى أنك تبغي الاستقرار السياسي، وأنك تريد تحقيق الانتعاش الاقتصادي، ويُعزى كل وضع سياسي إلى الوضع الاقتصادي، وأن نمو الفاشستية وترعرع الشيوعية والفشل الذي مُني به نزع السلاح، وتهديد اليابان في الباسفيك، كل ذلك يرجع إلى الناحية الاقتصادية. وإذا سلمنا بأن القضاء على مثل هذا يعتبر شرطًا للانتعاش معناه أننا ندور في حلقة مفرغة.

ولكن ماذا نقصد بالسير «الطبيعي» للرأسمالية؟ من الواضح أن البروفسور روبنز قد وضَعَ في ذهنه ما أسماه مستر ليمان بطابع الرأسمالية الجامد الذي لا يمتُّ بأية صلة للنظام الموجود، ولكنه وليد نظرية تجريدية حيث نجد مضامينها خاليةً من الواقعية؛ لأن سياسات التدخل لم تكن وليدة رغبة قوية عند رجال السياسة المسئولين في القضاء على النظام الرأسمالي، ولكنها وليدة أهواء وضغوط كافية في النظام ذاته.

أما الالتجاء إلى التدخل سواء أكان ذلك أمرًا خاطئًا أم صحيحًا فهو نتيجة محاولات الضغط التي قام بها الرأسماليون الذين يعتبرون في وضع يتيح لهم الأمان من الأعمال التي تقوم بها الدولة إزاءهم، فرغبتهم في الربح وليدة تلك الحاجة كما أن الربح يعتبر الدافع الأساسي للنظام الرأسمالي. ولكن لكي يجعل من المتعذر على رجل السياسة أن يخضع لضغط المصالح التي ترمي إلى التدخل، نجد أنه من واجب البروفسور روبنز تغيير رباط العلاقات في الدولة الحديثة التي بها نجد لهذا الضغط أثره وفاعليته، ولكنه إذ يفترض وجود هذا الرباط كفرض قانوني في دراسته؛ فإنه في الواقع يجرد نفسه من العوامل الأساسية للقضاء على الأخطاء التي يشكو منها.

ولم تكن تلك هي العقبة الوحيدة التي تورط فيها البروفسور روبنز من جراء فروضه القانونية.

والواقع أنه يحاول أن يدفع الجميع إلى الرجوع إلى «نظام الحرية الطبيعي» الذي دافع عنه آدم سميث بقوة. ويقضي هذا النظام بأن تكون وظيفة الدولة الأساسية هي البعد ما أمكن عن التدخل في الصراع الاقتصادي الدائر. ومن البطولة أن تقوم بالوعظ للرجوع إلى نواحي الدولة السلبية، وبذلك تتخلى على هذا الأساس عن مناقشة النواحي العملية، بيد أن الافتراضات التي تقوم عليها هذه النظرية أهم من مسألة ما إذا كانت هذه الافتراضات تنطوي على أية سياسة عملية.

وأول هذه الافتراضات هو أن المناقشة الحرة بين المصالح الخاصة التي لا تفرض عليها أية قيود ستولد مجتمعًا منظمًا دقيقًا. وثاني هذه الافتراضات أن هذه المنافسة، وهي ميزة ظاهرة في هذه الحياة من الناحية النظرية، هي التي تبدأ عن هذا الطريق وستستمر كذلك. فالافتراض لا يتمشى مع الخبرة التي تمر بها؛ إذ إننا من الناحية التاريخية نجد أن نمو التدخل الناشئ عن الدولة قد نجم عن الحقيقة التي تتمثل في أن الثمن الاجتماعي الذي تتقاضاه هذه المنافسة المتحررة من أي قيد لا يُطيقه أحد إذا لم يشترك في هذا الثمن.

ومن الناحية التاريخية أيضًا نجد أن ما يتمخض عن المنافسة الغير المنظمة هو السير قدمًا إن آجلًا أو عاجلًا نحو الاحتكار، ولا توحي الدلائل التي لدينا بأن الدولة قد دفعت الصناع إلى تكوين الشركات المندمجة التي تمكنهم وحدها من تفادي النتائج التي تتمخض عن هذا النوع من المنافسة. وعلى العكس فالتاريخ يوضح أن الدافع على الاندماج والتكوين (مثله في ذلك مثل الدفاع على المنافسة) قوي جدًّا، وذلك في مرحلة التطور الاقتصادي؛ ولذلك أصبح تدخل الدولة ضرورة لحماية المجتمع من نتائج هذا التكوين.

وربما يجادل المفكرون الذين يشاطرون البروفسور روبنز وجهةَ نظره في أن هذا التاريخ ما هو إلا نتيجة سوء استغلال الرأسمالية، ولكنه ليس كامنًا في طبيعة الرأسمالية ذاتها. وطبيعي أن الرد الصائب على هذا هو أنه لم تتح لنا السبل للتمييز بين سوء الاستغلال والطبيعة، وبدون هذه السبل نجد أننا مضطرون إلى افتراض تتابع سببي. وحتى إذا وجدت وجب علينا الرجوع إلى الدولة للتدخل عندما يحول اندماج رءُوس الأموال دون المنافسة غير المنظمة. ويعتبر ذلك جوهر مبدأ «قانون شيرمان» في الولايات المتحدة. وإني أجسر على التشكك فيما إذا كان ذلك باعثًا لنا على الإعجاب به.

بيد أن هناك ردًّا أكثر تعميمًا، وأن مغزاه هو السبب في أنني قمت بدراسة وجهة النظر هذه التي قام البروفسور روبنز بتوضيحها، وأن هذا الرد هو الحاجة في كل مرحلة من مراحل البحث الاجتماعي، إلى أن نكون واثقين من ماهية المشكلة التي نستجيب لها، ولا سيما إذا ما كانت المشكلة تقوم على الناحية الواقعية أو الناحية المثالية، وأن الاستجابة إلى أي حل له قيمته بالنسبة للناحية المثالية يمكن ترجمتها إلى الناحية العملية بواسطة صيغة تقوم على الإدراك التام للافتراضات الأُولَى التي تُبنى عليها. ولم نخول الحق — لأن ندفع أية نظرية مثالية إلى أن تؤدي عملها — في أن نناقش أنه مهما عُورضت هذه الافتراضات فذلك يعتبر أمرًا غير طبيعي؛ ولذلك وجب أن ينظر إليها على أنها أقل واقعية من الصور التي يطلبونها.

فإذا وجدنا — في مجال التنافس الذي نمر به وفي مرحلة من مراحل تطور مثل هذه الخبرة — أنه دائمًا ما تتبع بذلك الإدماج أو التكوين، وإذا اتبع التكوين — وهو في ناحية جوهرية من النواحي الصناعية — بعمل تقوم به الدولة بأية صورة من الصور، نجد أنه من الواضح أن تنظر إلى هذا التكوين والعمل الذي تقوم به الدولة على أنهما متصلان اتصالًا وثيقًا بالمنافسة. وأما عن الفروض المبدئية التي لا ينظر إليها من هذه الزاوية، فإننا نجد من الضروري استمرارها عن طريق تحويل عالم الحقائق الذي نتناوله بالبحث، وأن «المذهب الطبيعي» الذي نقرنه بعمل دون آخر ليس — بالتحديد — من الحقائق ذاتها، وأنه نتيجة لهذه الفروض التي اخترناها لتكون بداية البحث. ولكن هذه الفروض ذاتها هي في الواقع بيان لمجموعة من القيم التي أخذنا على عاتقنا حمايتها. وهي وسيلة للوصول إلى نتيجة في مجال السلوك الاجتماعي المرغوب فيه، سواء أكان متسمًا بالحكمة أم لم يتسم بها.

والواقع أننا نجد أن مقررات أية نظرية اجتماعية هي أحكام منصبَّة على القيم التي تُستمد من خبرة أي مفكر والتي تصدر عنه. ولقد بُني صرح نظرية هوبز على أساس الاعتقاد المزدوج بأن الطبيعة البشرية شريرة في طبيعتها، وبأنه لا مناص من وجود ملك يستطيع أن يحتفظ بالأمان من هذه الطبيعة الكامنة والميل إلى الجنوح نحو الشر. ولكن لوك كان يؤمن بوجود نوازع الخير في الطبيعة البشرية، وكذلك بالخطر الذي تتعرض له أية حكومة تقوم بالعمل دون النظر إلى رغبات رعاياها.

ولقد حاول روسو وضع نظرية للدولة، هذه النظرية التي ستتيح لجميع المواطنين فرصة متساوية في مختلف النواحي الاجتماعية. ومنذ أفلاطون نجد أننا كلما عرفنا التاريخ الشخصي لأي مفكر استطعنا تفسير الأسباب التي أدت إلى هذه الافتراضات التي بُنيت عليها أعماله، وأن هذه الافتراضات دائمًا ما تكون نتيجة وجهة النظر التي يتخذها فيما يجب أن تكون علي الدولة.

ولكن ليس معنى ذلك أن هذه الافتراضات خاطئة، ولكن ذلك يعني وجود تحيز في المعادلة الشخصية في هذه الافتراضات، هذا التحيز الذي لا يوجد مثلًا في قانون مندلييف أو نظرية بقاء الطاقة في الطبيعة.

وأن أية نظرية اقتصادية تستبعد فكرة الرخاء من الميدان الذي تعمل فيه يحرمها من الاعتراف بها كنظرية من النظريات؛ تمامًا، كما تفتقر الحمى القرمزية إلى أعراضها، إذ عندما نعرف السبب تكون لدينا الوسائل التي بها نستطيع أن نتحكم فيها. وذلك بطريقة تختلف كل الاختلاف عن الطريقة التي بها نتحكم في ركود الرأسمالية، عندما نعرف الأسباب التي أدت إلى ذلك. وفي مثال الحمى القرمزية نلاحظ أن نشاط الجرثومة التي تسببها يتبع إجراء خاصًّا لا يمت إلى الإرادة البشرية بصلة. ولكن في حالة ركود الرأسمالية فإن إرادة الأفراد ومؤسساتهم الاجتماعية التي تنشأ عن هذه الإرادات تعتبر ناحية أساسية بالنسبة للقرارات التي تتخذها. أما في الأمراض الجسمانية فنجد أن علاج المريض يعتبر عملية موضوعية تصدر عن طبيعة المرض ولا تعتمد على الطبيب أو المريض. أما في الأمراض الاجتماعية فنجد أن إرادة الطبيب وإرادة المريض — أي الدولة والمواطنين — تعتبران العاملين الحاسمين في عمليتي التشخيص والعلاج.

وأن التطبيق الناجح لهذا العلاج هو وظيفة موافقتهما على كل مرحلة من مراحل العلاج، وأن موافقتهما تعتمد على وجهة النظر التي يتخذانها عما يجب أن تسعى الدولة في سبيله، وأن وجهة النظر هذه تحدد تفسيرهم لأسباب المرض الاجتماعي وأعراضه.

* مقتطف من كتاب (الدولة نظريًّا وعمليًّا) لمؤلفه هارولد ج. لاسكي

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي