الضائعات المالية في العراق
جميل عودة ابراهيم
2020-09-15 05:04
يٌعد العراق واحد من أهم البلدان المصدرة للنفط الخام في العالم، فهو يصدر نحو (3) ملايين برميل يوميا، وإن قل عن هذا المستوى منذ بدايات عام 2020، نتيجة وفرة المعروض من النفط، وقلة الطلب، بسبب وباء كورونا، ويبلغ احتياط النفط العراقي نحو 10.7% من إجمالي الاحتياطي العالمي، ويحتل العراق أكبر احتياطي نفطي في العالم بعد المملكة العربية السعودية.
وحسب وزارة التخطيط العراقية (مـــازال القطـــاع النفطـــي هو القطـــاع المهيمن علـــى الناتج المحلـــي الإجمالي، حيث ازدادت نســـبته مـــن 51.36% عام 2010 إلى 55.1% عام 2015، نتيجة لتعثر السياســـة الاقتصادية المطلوبة لتنويـــع الاقتصاد. بينما انخفضت نسبة مســـاهمة القطـــاع الزراعـــي فـــي توليد الناتـــج المحلي الإجمالـــي 4.17% عام 2010 إلى 2.02% عام 2015، كمـــا انخفضـــت مســـاهمة قطاع الصناعـــة التحويلية من 2.1% عام 2010 إلى 0.84% في عام 2015).
وإذا كان لدى غالبية الدول المنتجة للنفط والغاز مصادر دخل أخرى، تضمن إضافات سنوية جديدة لإيراداتها النفطية إلا أن العراق في السنوات (30) الماضية ينفرد عن الدول المصدرة للنفط بأنه بلد غير منتج لأي بضائع أو سلع يمكن تصديرها إلى الخارج. ويستورد شعبه حاجاته الكبيرة والصغيرة على حد سواء من الزراعة والصناعة والتجارة من بلدان أخرى، أهمها إيران وتركيا وسوريا، فضلا عن السلع والبضائع العابرة عن طريق الأردن والكويت.
فهل يكفي النفط موردا وحيدا للدخل في العراق؟ وهل يخلو العراق من مصادر دخل غير النفط بالفعل؟ وإذا كان في العراق مصادر دخل متنوعة؛ فلماذا لم يعمل على تنميتها وتطويرها لتكون دخلا متمما لمورد النفط، كما تفعل الدول المنتجة للنفط تماما؟
بالطبع لا تكفي إيرادات النفط لسد الحاجات المتزايدة للشعب العراقي، ويوجه العراق في السنوات الأخيرة عجزا كبيرا في تمويل الموازنة العامة للدولة، نتيجة انخفاض الإيرادات النفطية وغير النفطية، مما سبب أزمة مالية حادة في دفع رواتب الموظفين الحكوميين مؤخرا، فضلا عن توقف أغلب المشروعات الاستثمارية. وقد قال رئيس جمهورية العراق (برهم صالح) عن الأزمة المالية الحالية الآتي: (هل تعرفون كيف استطعنا توفير رواتب الشهر الماضي؟ لا أحد يعرف طبعاً، لقد تدبرناها من إيرادات النفط البسيطة والإيرادات غير النفطية البسيطة أيضاً، ومن تراكمات الصندوق الصيني الذي كنا قد وضعنا فيه نحو مليار دولار، اضطررنا للتصرف بها وأبقينا على جزء قليل كي يستمر الاتفاق مع الصين لأغراض الاستثمار).
ومن المتوقع أن تستمر هذه الأزمة وتشتد مع انخفاض إيرادات النفط، ومع عدم وجود موارد أخرى داعمة. وفي كل الأحوال صار من الواضح أن مورد النفط الخام لا يكفي مصدرا وحيدا للعملة الأجنبية، ورئيسا لتمويل الإنفاق الحكومي، وكلما تأخر العراق عن المباشرة بتطوير جذري في قدرات الإنتاج السلعي غير النفطي، تشتد أزماته، وتتزايد صعوبات النهوض.
نعم؛ ليس هناك بلد في العام ليس لديه مصادر متنوعة لإيراداته، وليس كل الدول تمتلك نفطا مثل العراق، بل العديد من الدول لا تمتلك نفطا ولا غازا، ومع ذلك فان لديها مصادر متنوعة لسد نفاقاتها السنوية، والعراق في الواقع هو كذلك لديه مصادر متنوعة للحصول على إيرادات إضافية داعمة لإيرادات النفط كمورد أساسي للموازنة العامة السنوية. وعليه؛ فالمشكلة أساسا ليست في وفرة مصادر الدخل القومي العراقي، ولكن في كيفية تنمية تلك المصادر الإضافية وتطويرها، لتكون سندا إضافيا قويا لمورد النفط.
وإذا كان الأمر كذلك، وكان في العراق مصادر دخل متنوعة؛ يمكن أن تسند الاقتصاد النفطي، فلماذا لا يجري الاستفادة من الموارد غير النفطية وتنميتها وتطويرها، لتكون هي أساس الإيرادات العراقية، ويكون إيراد النفط هو الداعم لها؟
ليس هناك جدل في أن مشكلة العراق الأساس هي مشكلة سياسية، بمعنى لا يوجد استقرار سياسي في العراق لا قبل 2003 إبان حكم حزب البعث، ولا بعد 2003 إبان حكم المعارضة، ولما كان الاستقرار السياسي غير متحقق فليس من السهل تصور حل المشكلات الاقتصادية، والبحث عن مصادر بديلة تحل محل النفط لتمويل الخزينة العامة. فالحكومات كلها بلا استثناء لا تمتلك رؤية واضحة لما ينبغي أن تقوم به لتطوير مصادر الاقتصاد وتنويعه. وكل حكومة تأتي تكتفي بالقيام بأدنى واجباتها في الحماية والإسناد بالاعتماد على موارد النفط المتوافرة فقط، والتي قد ترتفع حينا، كما حدث قبل 2014، حينما ارتفعت أسعار النفط إلى قياسات غير مسبوقة، وقد تنخفض كثيرا لأسباب سياسية واقتصادية، كما هو الحال الآن.
وعليه؛ فان اعتماد العراق على مصدر واحد لتوفير مستلزمات التنمية الاقتصادية سيعرض الدولة إلى الهزات التي يتعرض لها قطاع النفط، ومن هنا لابد لعملية الإصلاح الاقتصادي والتكييف الهيكلي أن تضع ذلك في الحسبان من خلال إحداث تحولات في البنية الاقتصادية لتنويع مصادر النمو، وذلك يتطلب عملية إصلاح اقتصادي تتناول الانتقال من الاعتماد على النفط من خلال سياسة إصلاح القطاعات الأخرى، وتطويرها والانتقال إلى اقتصاد السوق.
يمكن القول إن هناك مشكلتين أساسيتين تسببتا في عدم وجود مصدر مالي للعراق عدا النفط، الأولى هي مشكلة الهدر المالي الذي تسبب ومازال يتسبب بهدر مليارات الدنانير، نتيجة السياسات الخاطئ المتراكمة، والثانية؛ هي عدم الاهتمام بالتخطيط لتطوير وتفعيل مصادر الدخل الأساسية التي تعمل عليها كل الدول لتأمين اقتصاد حي ومستمر ومتنامي مثل الاهتمام بالزراعة والصناعة والسياحة، والاستفادة من الموارد غير النفطية الكثيرة في العراق مثل الغاز والفوسفات وغيرها.
وقد تسببتا هاتان المشكلتان في نتائج وخيمة على الاقتصاد العراقي أهمها:
1. وجود مؤسسات حكومية أصلية وفرعية كثيرة ليست ضرورية لتقديم خدمة مجتمعية، حيث كل وزير أو رئيس جهة جديد يضف إلى وزارته دائرة أو قسم أو شعبة، ليدخل من خلالها معارفه أو أتباع حزبه، فأضحت الوزارات والهيئات غير المرتبطة بوزارة مثقلة بالموظفين، ومثقلة بالاستحقاقات المالية الكبيرة التي تعجز عن توفيرها الموازنة العامة.
2. وجود مئات الآلاف من الموظفين غير المنتجين، يتقاضون مليارات الدنانير شهريا، دون أن يقدموا أي عمل ملموس، بعضهم موظفون يتقاضون أموالا من الحكومة، ولكنهم يخدمون مباشرة عند أعضاء مجلس النواب أو في مكاتبهم السياسية والاقتصادية، أو عند مسؤولين حكوميين متقاعدين، أو عند رؤساء الأحزاب والكتل السياسية، أو عند بعض رجال الدين أو في مكاتبهم. وهؤلاء لا يتواجدون في وزاراتهم ومؤسساتهم إلا أوقات استلام الراتب.
3. استحداث مناصب للدرجات العليا من مدير عام فصاعدا، وهذه المناصب لا تقدم أي خدمة مجتمعية تذكر، ولكنها تعطى للترضية السياسية، فكثير من المديرين العامين والمستشارين في بغداد والمحافظات والوكلاء وغيرهم هم عاطلون عن العمل بالفعل، ولا يؤدون أي خدمة عامة غير تواجدهم في المناصب الرفيعة كممثلين عن أحزابهم وكتلهم السياسية.
4. العقود المالية الكبيرة: هناك عقود تجري بين المؤسسات العامة وشركات القطاع الخاص الوطني والأجنبي، وهذه العقود في العادة محل نزاع وصراع بين غالبية الأحزاب السياسية وممثليهم من جهة وبين الموظفين الكبار في الوزارات والهيئات غير المرتبطة بوزارة وفي المحافظات، وبدل أن تحقق هذه العقود فوائد ملموسة للشعب العراقي كونها تمثل مشروعات وبرامج تنموية تتحول إلى عبء ثقيل يهدد كيان المجتمعات المحلية، إما أنها تظل معطلة لسنوات طويلة، وإما أنها تنجز بشكل لا تحقق غاياتها نتيجة عقود الفساد والهدر المالي المتعمد.
5. الحوافز المالية للموظفين: واحدة من أهم موارد هدر المال العام، أن الموظفين مع كثرتهم وعدم إنتاجهم في غالبية المؤسسات العامة إلا أنهم يتقاضون بالإضافة إلى رواتبهم الاسمية حوافز مالية كبيرة توزيع عليهم شهريا تفوق رواتبهم الاسمية. وهذه الحوافز لا تظهر بشكل جلي لأنها تعد من أرباح هذه المؤسسات التي ينبغي توزيعها على المسؤولين والموظفين بنسب متفاوتة. فمثلا جميع الشركات النفطية توزع شهريا أرباحا مهولة على موظفيها كلما أرتفع عدد البراميل النفطية أو ازدادت كلفة البرميل، فمثل هذه الشركات تعد شركات رابحة، وبما أنها شركات رابحة فموظفوها يستحقون جزء من تلك الأرباح. وهذا الأمر ينطبق على شركات وزارة النقل، ووزارة الاعمار والإسكان، وعلى البلديات وعلى أمانة بغداد، وعلى وزارة المالية، وعلى وزارة الصحة وغيرها.
6. الهدر والفساد المالي في المنافذ الحدودية: مصطلح المنافذ الحدودية يعني منافذ الحدود البرية مع دول الجوار، ويعني المطارات، ويعني الموانئ البحرية العراقي في محافظة البصرة، وكلها تشهد هدرا ماليا وفسادا غير مسبوق في تاريخ العراق. ولم تبذل الحكومات العراقية المتعاقبة أي جهود تذكر للسيطرة على هذه المنافذ بسبب الخلافات مع إقليم كوردستان في منافذ شمال العراق، وبسبب سيطرة الفاسدين في الموانئ العراقية، سواء كانوا أشخاصا أو شركات أو أحزابا متنفذة أو عشائر. ناهيك عن الصراعات في السيطرة والإدارة على المطارات العراقية كافة.
7. شبه انعدام لجباية أجور الكهرباء والماء : يمكن القول بضرس قاطع أن العراق هو الدولة الوحيدة في العالم لا يستطيع أن يجبي أموال الخدمات العامة كالكهرباء والماء والمجاري والهواتف الأرضية. لذا فان الضائعات المالية هنا كبيرة جدا مضافا إلى التجاوزات غير القانونية والسبب الرئيس هو أنه لا توجد بنى تحتية للكهرباء والماء أو الهواتف، ولا توجد خطط وبرامج لبناء هذه البنية التحتية، ولا توجد خدمات مستمرة للكهرباء والماء حتى تكون محفزا جيدا للمواطن لدفع الأجور والمستحقات.
8. وجود الآلاف من الأنشطة التجارية غير الرسمية التي تمارس نشاطها في ضوء الفوضى الإدارية والقانونية من دون الحصول على إجازات رسمية من البلديات، ووزارة الصحة، ووزارة التجارة والجهات ذات العلاقة، وهي تمتنع عن أداء الرسوم أو تدفعها من دون أن تصل إلى الدولة.
9. الهدر المائي: يعد العراق واحدا من الدول التي لم تعتن أصلا بالحصة المائية، ولم يقوم العراق بالاستفادة القصوى من نهري دجلة والفرات، وظلت عمليات هدر المياه وتلويثه هي السمة البارزة في التعامل مع موضوع الماء مع أهميته في ظل بروز ظاهرة التصحر. وتقف وزارة الموارد المائية عاجزة عن الاستفادة من المياه التي تمر في أراضي العراق وتذهب إلى حيث تذهب دون الاستفادة منها. بل هي عاجزة عن توفير الحصص المائية للمحافظات الجنوبية التي تعاني من قلة المياه الواصلة، ومن تلوثها وسوء استعمالها.
بناء على هذا كله، لابد من القول إن العراق لم يعد بإمكانه الاعتماد على النفط كمورد وحيد لإيراداتها المالية، وعليه أن يقوم بوقف هدر الأموال واستنزافها من جهة، وتنمية المصادر الأخرى وتطويرها كالزراعة والصناعة والتجارة الداخلية والخارجية والسياحة وغيرها من جهة ثانية. ومن دون ذلك فان العراق سينهار حتما ليس بسبب عدم قدرته على دفع رواتب موظفيه وحسب، بل لعدم قدرته على سداد ديونه الخارجية المتراكمة. وعليه:
1. لامناص من إحداث تغييرات جوهرية على نظام الإدارة في العراق، وينبغي أن يقوم بهذا التغيير جهات استشارية خارجية مختصة تعتمد أساسا على الخدمة المقدمة للمواطنين، كمعيار لبقاء هذه المؤسسة أو إعفاءها، وليس من المصلحة الاعتماد على الملاكات الإدارية الحالية، لأنها لا تريد إحداث ذلك التغيير، أو هي ستتعرض إلى ضغوطات تمنعها من إتمام ذلك الإصلاح، كما حدث في الحكومات السابقة، ويحدث الآن في حكومة مصطفى الكاظمي.
2. تحديد مصادر الهدر المالي، وهي كثيرة ومتنوعة، ووضع خطة عاجلة للسيطرة عليها، لاسيما في المنافذ الحدودية كلها البرية والجوية والبحرية، واستحال أجور الخدمات العامة كالكهرباء والماء والمجاري، وغيرها.
3. العودة من جديد للاهتمام بالموارد غير النفطية مثل السياحة والزراعة والصناعات التحويلية، وتنظيم الأنشطة التجارية غير المسجلة، والنقل الداخلي والخارجي، وغيرها، وهذه الموارد قادرة، لو أحسن استغلالها بطريقة صحيحة وسليمة أن تحل محل واردات النفط قطعا.
4. العمل فورا على إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي، ومحاولة دمج المصارف الأهلية بمصارف تتحول من صيغة البقالة المصرفية إلى صيغة المؤسسة المصرفية، وكذلك إعادة هيكلة المصارف الحكومية والعمل على تحويلها لمؤسسات مصرفية وطنية.