قيم الأخلاق: الأبوان وصناعة الطفولة الناجحة

علي حسين عبيد

2016-10-19 05:20

نهض الأب مبكرا من النوم، قام بدور في هذا الصباح الأم لأن زوجته متوعكة، لم يشأ أن يوقظها، إنها عانت من ألم في الأسنان طوال ساعات الليلة الفائتة، قال لنفسه لتتركها ترتاح هذا الصباح وقم ببعض واجباتها اليومية تجاه ابنك، بالفعل باشر بتهيئة فطور الصباح لابنه، ثم تحرك الى الدولاب وهيّأ ملابس مناسبة ونظيفة له يرتديها اليوم في ذهابه للمدرسة، كذلك رتب له الكتب والأقلام والحقيبة، ذهب الى فراش ابنه، أيقظه بلطف كما تفعل أمه يوميا.

نهض الطفل من فراشه، غسل وجهه ويديه، ألقى تحية الصباح على أبيه، رأى مائدة الفطور جاهزة تماما، تناول فطوره وقصّ على والده الحلم الجميل الذي رآه هذه الليلة، فقد اعتاد الابن أن يرى طيفا جميلا في كل يوم، لذلك اعتاد الأب أن يسأل طفله ما هو حلمك هذه الليلة، فيبدأ الطفل يصوّر الحلم لأبيه، فيما يأخذ الأب بتدوين الحلم، وهكذا بعد سنوات، وجدَ الطفل نفسه كاتبا لعدد من قصص الطفولة الرائعة، هو المؤلف وأبوه الكاتب.

كبر الطفل وكبرت معه موهبة تصوير الأحداث، تعلم اللغة جيدا، فلم يعد يستعين بأبيه على كتابة أحلامه، بل حتى الأحلام التي كانت تأتيه في الليل كل ليلة لم يعد يحتاجها، إنه يستطيع الآن أن يتخيل الكثير من الأحداث بمختلف مشاعر الفرح والحزن والتأثير والعاطفة الجياشة، وفي الوقت نفسه يستطيع أن ينقل هذه الأحداث والتصورات من رأسه وخياله الى الورق أو شاشة الحاسوب لكي تصبح قصصا مؤثرة قد يستفيد ويستمتع بها الآخرون، ولأنه نشأ ونما في حاضنة متوازنة، وفي كنف أم وأب رائعين، بات الآن من أكثر الأبناء تميزا ونجاحا.

في المقابل كان لديه صديق يعيش معه في صف دراسي واحد ويجلس معه على مقعد واحد مصنوع من الخشب، هذا الطفل الصديق شديد المعاناة بسبب إهمال الأبوين له، لم يسمع منهما كلمة إطراء او تشجيع طوال شهور وسنوات نشأته، ولم يحصل على الفطور الجيد في الوقت المناسب، كذلك لا يتذكر في يوم ما أنه عثر على الملابس المناسبة التي يلبسها ويذهب بها الى المدرسة، لم يسأل عنه أبوه هل هو متميز في الدراسة أم لا؟ أمه كذلك لا تعتني بهذه التفاصيل وإن كانت أفضل من الأب قليلا.

يحكي هذا الطفل معاناته لصديقه الطفل الناجح، فيبدأ الأخير يقص ما يقدمه له الأبوان من اهتمام ورعاية في الجوانب كافة، فيأخذ صديقه يتحسر ويحلم بأبوين مثل أبوي صديقه، ويقول له إنك تعيش في نعمة، فيما أنا أعيش الإهمال وعدم الرعاية وهذا يؤثر على نفسيتي، هكذا حتى الطفل نفسه بدأ يكتشف مدى تأثير الإهمال الأبوي عليه.

الرعاية تصنع شخصية متميزة

كبر الصديقان، ولكن أحدهما واصل رحلته الدراسية ودخل في المرحلة الإعدادية فيما فشل الثاني في ذلك، فافترقا كل مضى في طريق مختلف، الأول الذي وجد الرعاية، مضى في طريق العلم والتميز والتفوق، في حين الابن الثاني الذي أهمله والداه، كان يعاني من الفراغ والفشل وعدم معرفة فائدة وجوده في الحاضر، ولا معرفة المستقبل وما يضمر له من حالات فشل أخرى.

حتى في هذا العمر حيث بلغ الصديقان عمرا قارب العشرين عاما، لا زالا يلتقيان بين حين وآخر، ولا يزال الطفل المهمل يعيش في كيان وشخصية الابن الذي لم يجد الرعاية الكافية، حيث لا يزال كئيبا باردا مترددا، لا يُقدم على الحياة برغبة، في حين أن شخصية الطفل المعتنى به تقوى وتتطور وتتميز وتواصل الصعود المستمر في سلّم الحياة، وسوف يبقى هذا الأمر مستمرا في الاتجاه نفسه الى آخر مشوار من حياة الصديقين.

أحدهما بات شخصية قوية متمكنة متميزة ومؤثرة في المجتمع، وحصلت على مركز وظيفي اجتماعي متميز، بسبب النشأة السليمة في عائلة سليمة، وفي كنف أبوين ناجحين، استطاعا أن يقدما الرعاية الصحيحة والكافة لطفلهما الصغير حيث كبرت ونمت معه هذه الرعاية لتصل به في النتيجة الى ان يكون شخصية ذات حضور متميز ومهم جدا، في حين بقي الطفل الآخر منذ طفولته مهملا وبقي معه الإهمال حتى جعل منه شخصية لا حضور لها في المجتمع ولا في الحياة برمتها، السؤال الأهم هنا من يتحمّل مسؤولية ذلك؟.

إن أبسط القيم الأخلاقية ترتّب على الأب والأم مسؤولية تامة على نجاح أو فشل أبنائهما، ولذلك تستدعي جميع القيم الأخلاقية الصحيحة والراقية أن يقوم الأبوان بدورهما التام في تنشئة الابن (ونعني هنا كلا الجنسين الذكر والأنثى)، على أن أي خلل في شخصية الابن يتحملها الأبوان إلا في حالة العوق الولادي وما شابه، أي المشكلة الخارجة عن إرادة الوالدين.

ولكن في الظروف الطبيعية، لابد أن يتصدى الأبوان لمسؤولياتهما التربوية تجاه الأبناء بأسلم طريقة ممكنة وحسب الظروف المتاحة، المادية منها بالدرجة الاولى، ولكن في الحقيقة يبقى قصب السبق في المجال التربوي لنجاح الأبناء يعود الى القدرة المعنوية والنفسية والتربوية المتميزة التي قد يتمتع بها الأبوان وقد يفشلان في توظيفها لصالح تربية الأبناء، لذلك لابد أن يتنبّه الأب والأم الى مسألة ذات أهمية بالغة في الجانب التربوي وهو الرعاية والاهتمام الكافي بالأبناء لأنها الأساس الأهم في بناء شخصية متميزة وناجحة للأبناء.

كيف تصنع إنسانا متميزاً؟

هل من مسؤولية الأبوين أن يصنعا طفلا شابا كهلا رجلا متميزا في المجتمع؟، بطبيعة الحال هذه من أهم مسؤوليات الآباء والأمهات، ومن باب أولى أن تكون من أهم الأولويات الحياتية للأبوين، لذلك من باب أخلاقي ليس صحيحا (ولا أخلاقيا) أن تشترك في مجيء طفل الى عالمنا، الذي هو عالم غامض بالنسبة للطفل، ثم تتركه وحيدا في هذه المتاهة.

ولنا أن نتخيل قيامنا بدعوة أحد الأشخاص من مكان بعيد، الى المكان الذي نعيش فيه، أي أننا مسؤولان على دعوته ومجيئه، وعندما يصل الى منطقتنا (الغامضة بالنسبة له) نتخلى عنه ونتركه وحيدا في مواجهة ما يجهله من عوائق ومشكلات، فالأصح أخلاقيا أن نلتزم هذا الإنسان ونرعاه ونساعده كي يكتشف المنطقة الغامضة التي دعوناه لها كي يزورها، نعم الأب والطفل يدعون الطفل للمجيء الى الحياة التي لا يعرفها ولا يفهمها وتعد بالنسبة له منطقة مجهولة، فهل من الأخلاق أن نتخلى عمّن دعوناه الى بيتنا أو منطقتنا.

علينا أن نتخيل إنجاب أولادنا بهذه الصورة تماما، إنهم لا يفهمون الحياة لأنهم عندما يأتون من الأرحام تعد الحياة منطقة غامضة تماما بالنسبة لهم، وهنا لا نقصد الأمور الفطرية، كالرضاعة وما شابه، بل الأمور العلمية والعملية التجريبية، التي تشمل (طريقة التفكير وطريقة السلوك)، لهذا تحتم علينا المسؤولية الأخلاقية أن نقوم بواجبنا تجاه أطفالنا على أفضل وجه، لأننا نحن سبب نجاح الطفل وسبب فشله بالدرجة الأولى.

أما كيف نصنع شخصية طفل وإنسان ناجحة، فيمكن أن نستدل على هذا الأمر بالعودة الى صدر هذا المقال ومعرفة رحلة الصديقين معا، ولماذا احدهما واصل النجاح والتميز في رحلته الحياتية، فيما بقي الثاني في حالة أقرب الى الضياع من سواه، تماما كالإنسان الذي يحل ضيفا على منطقة او محيط معين ولا يفقه عن أي شيء، في هذه الحالة سوف يبقى في حالة تيه وفشل، إلا في حالات نادرة أي عندما يعتمد الإنسان على نفسه ويكتشف الحياة او المنطقة الجديدة بنفسه، وهذه قضية غاية في الصعوبة إن لم تكن مستحيلة، لأن الطفل يولد ع قدرات تكاد تصل درجة الصفر، باستثناء القدرات الفطرية كما اشرنا الى الرضاعة سابقا.

لهذا يستدعي هذا الأمر من الأب والأم أن يكونا أكثر حرصا على رعاية أبنائهما، خاصة في مجال التوجيه والتوعية والتنبيه والتشجيع والتعليم على أن يحاط هذا كله في جو عائلي حميم، وخاصة الأم ينبغي أن تبذل قصارى جهدها في تقديم أقصى ما يمكنها في مجال الحنان ومشاعر الأمومة الراقية، لأن المسؤولية تحتم على الأبوين أن يقدما الرعاية التامة لأبنائهما من اجل صناعة طفولة ناجحة مستقرة ومتميزة.

ذات صلة

عالم الإسلام متماثلا اجتماعيا وثقافيا.. الطاقة الممكنةصناعة الاستبداد بطريقة صامتةوزارتا التربية والتعليم العالي في العراق مذاكرةٌ في تجاذبات الوصل والفصلالجنائية الدولية وأوامر الاعتقال.. هل هي خطوة على طريق العدالة؟التناص بوصفه جزءاً فاعلاً في حياتنا