قسوة القلب

السيد نبأ الحمامي

2016-09-07 07:40

قال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ)([1])

حرصت الشريعة الإسلامية، منذ أن بزغ نورها مع أول كلمة في قاموسها (إقرأ)، على العناية البالغة بالقيم والملكات الروحية، كونها الأساس الذي ترتكز عليه الإنسانية في رقيها وتطورها وتميزها عن بقية الكائنات، وبها تمتلك القابلية للعروج إلى أعلى مدارج الكمال وإفاضة المعارف من حضرة ذي الجلال. وقد تعارف عند أهل اللغة والعرف أن يعبر عن متعلق تلك الملكات الروحية بـ(القلب) ([2]) أو (العَقْل) الذي هو محل العلوم والإدراكات و الكمالات الإنسانية والمدبر للبدن([3]). قال الراغب في المفردات: قال بعض الحكماء حيثما ذكر الله القلب فإشارة إلى العقل والعلم، نحو "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ "([4])([5])

فالعقل يمثل في الإنسان حقيقتَهُ، وما أعضاء جسده وأجزاؤه المادية إلا أدوات مسخرة لعقله، وليس للجسد من أمره في تدبير أو حيلة إلا بما يفيضه العقل عليه من طاقة وتوجيه، ليقوم بفعالياته الحيوية على أكمل وجه. وبهذا المعنى استعمل القرآن الكريم لفظ (القلب) كثيرا([6])، كما في قوله تعالى(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا) ([7]). وسيأتي تفصيل ذلك. وإنما أطلقوا (القلب) على عقل الإنسان لأنه أخلص شيء فيه وأرفعه ([8]). والقلب هو المقبول عند الله إذا سلم من غير الله، وهو المحجوب عن الله إذا صار مستغرقا بغير الله، وهو المطالب والمخاطب، وهو المثاب والمعاقب، وهو الذي يستسعد بالقرب من الله تعالى فيفلح إذا زكاه، وهو الذي يخيب ويشقى إذا دنسه ودساه. وهو المطيع لله بالحقيقة به، وإنما الذي ينتشر على الجوارح من العبادات أنواره. وهو العاصي المتمرد على الله، وإنما الساري على الأعضاء من الفواحش آثاره، وبإظلامه واستنارته تظهر محاسن الظاهر ومساويه، إذ كل إناء يترشح بما فيه([9])

أما حقيقة (القلب) وماهيته فقد بقيت مترددة بين الأوهام والتقديرات، ليتأكد بذلك عجز الإنسان عن درك حقيقة (قلبه) مهما طال شانه في ميادين العلم، وقطع أشواطا في مراحل رقيه وتطوره.

ويقع الكلام في (قسوة القلب) ضمن استضاءات:

الاستضاءة الأولى: المقصود من (قسوة القلب)

(القسوة) من المفاهيم الواضحة، وتعني – لغة - الصلابة([10])، ولذلك تطلق صفة (قاسية) على الأحجار الصلبة. وحينما تضاف (القسوة) إلى القلب، فإنها تعني غلظته بالجفاء عن قبول الحق([11])على نحو من الاستعارة والتشبيه، فيطلق لفظ (القاسية) على القلوب التي لا تظهر أي استجابة لنور الحق والهداية، ولا تلين ولا تستسلم لها، ولا تسمح بنفوذ نور الهدى إليها([12]). قال تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) ([13]). وقال تعالى (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)([14])

فقسوة القلب تعني ذهاب اللين والرحمة والخشوع من الإنسان بسبب أغشية الجهل والذنوب التي تتراكم على القلب، فتكون مانعة من قبول الحقيقة، وتقبل الوعظ والنصيحة، والاهتداء إلى الطريق القويم. لأجل ذلك حذرت الشريعة الإسلامية منها، وحذرت المؤمنين من الاتصاف بها، فقال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ([15]). وعذلت اليهود بما عرفوا به من قسوة القلب وما نتج عنها من آثار وخيمة، فقد جاء في التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) ([16])، قال (ع) " يقول الله: يبست قلوبكم - معاشر اليهود - كالحجارة اليابسة، لا ترشح برطوبة، أي أنكم لا حق الله تؤدون، ولا أموالكم تتصدقون، ولا بالمعروف تتكرمون، ولا للضيف تقرون ولا مكروبا تغيثون، ولا بشيء من الانسانية تعاشرون وتواصلون"([17])

الاستضاءة الثانية: (قسوة القلب) من العقوبات الإلهية

يقول السيد مرتضى الحسيني الشيرازي: (الظاهر من الروايات – بل صريح بعضها – أن (قسوة القلب) من أقسى العقوبات الإلهية. وكونها من العقوبات الإلهية فرع كون مقدماتها وأسبابها اختيارية، فإن من المحال على الله تعالى أن يعاقب الإنسان على شيء خارج إرادته واختياره، لمنافاته العدل الإلهي، ولذا توصف (قسوة القلب) بالاختيارية من جهة مقدماتها وأسبابها، ويكون محلا للوم العقلاء من يُقدم على أمر اختياري تكون عاقبته ونتيجته وخيمة، ولو كانت غير اختيارية، لإمكانه عدم الوقوع فيها بالكف عنها من رأس. وهذا الاختيار نابع من أعماقنا وذواتنا في البداية([18])

وينجم عن (قسوة القلب) – باعتبارها عقوبة - جملة من الآثار السلبية، تعرضت إلى ذكرها النصوص الإسلامية، منها:

1) فقدان القيم والصفات الإنسانية: من حسن الجوار وإكرام الضيف وإغاثة المكروب، والتعدي على حقوق الآخرين. وما شاكل ذلك. وقد تقدمت –آنفا- الرواية عن الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) بما يدل على هذه المضامين.

2) الاضطرابات النفسية والقلق المخيم على الروح، مما يؤدي إلى سلب الخشوع وعدم الإقبال على الله تعالى في العبادة. يقول تعالى (فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) ([19]). ولا شك إن الضلال والابتعاد عن الهدى الإلهي منشأ للأغلب من الاضطرابات النفسية

روي عن الإمام أبي جعفر الباقر (عليه السلام) قال " إن لله عقوبات في القلوب والأبدان: ضنك في المعيشة ووهن في العبادة. وما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب "([20])

3) فقدان المصداقية في القول والفعل، وتكون الخيانة هي الصفة المتغلبة عند قاسي القلب. يقول تعالى (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ([21])

4) قسوة القلب تفسح المجال واسعا للشيطان أن يتخذ من قلب الإنسان سكنا له، فيزين له المعاصي، ويرديه في مهاوي الهلكات. يقول تعالى (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ([22])

5) عدم التأثر بالمواعظ ولا الوعيد ولا البشرى في نصوص الآيات القرآنية المؤثرة وأحاديث المعصومين عليهم السلام، بل بمطلق النصيحة، فلا تنمو عندهم ثمار التقوى والصلاح والفضيلة. فعن ابن عباس في تفسير قوله تعالى (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً) قال: فصارت قلوب بني إسرائيل -مع طول الأمل- قاسية بعيدة عن الموعظة بعدما شاهدوه من الآيات والمعجزات، فقلوبكم كالحجارة صلابة ويبسا وغلظا وشدة، أو أشد صلابة -يعني قلوبكم- عن الإذعان لواجب حق الله عليهم، والاقرار له باللازم من حقوقه لهم من الحجارة([23])

6) جمود العين عن البكاء

قال أمير المؤمنين (عليه السلام) "ما جفت الدموع إلا لقسوة القلوب، وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب"([24])

الاستضاءة الثالثة: أسباب (قسوة القلب)

لما كانت (قسوة القلب) من العقوبات الإلهية، وكانت لها أسباب ومقدمات واقعة تحت إرادة الإنسان واختياره، كان من الضروري على المؤمن أن يتعرف على أسبابها كي لا يقع فيها. وقد وردت في بعض النصوص القرآنية والروائية جملة من الأمور المسببة لقسوة القلب، منها:

1- انشغال الإنسان بالدنيا وزينتها ونسيان الآخرة وعدم الاستعداد لها.

فالإنسان في هذه الحياة ينسى أو يتناسى أن وراءه أجلا محتوما ينتظره، ويتصور أنه في الدنيا من المخلدين. وقد روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال " من يأمل أن يعيش غدا فإنه يأمل أن يعيش أبدا، ومن يأمل أن يعيش أبدا يقسو قلبه ويرغب في دنياه "([25])

ومما ناجى الله عز وجل به موسى (عليه السلام): يا موسى لا تطول في الدنيا أملك فيقسو قلبك، والقاسي القلب مني بعيد([26]).

2- ترك ذكر الله والتهاون في العبادة.

قال تعالى (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ([27])

وعن النبي صلى الله عليه واله قال (ترك العبادة يقسي القلب) ([28])

وعن الإمام الصادق عليه السّلام قال كان المسيح عليه السّلام يقول « لا تكثروا الكلام في غير ذكر اللَّه فإن الذين يكثرون الكلام قاسية قلوبهم ولكن لا يعلمون »([29]).

وفي حديث آخر عنه (عليه السلام) قال «أوحى اللَّه تعالى إلى موسى عليه السّلام: يا موسى لا تفرح بكثرة المال ولا تدع ذكري على كل حال فإن كثرة المال تنسي الذنوب وإن ترك ذكري يقسي القلوب »([30])

وكما أن ترك ذكر الله تعالى يقسي القلب، فإن –في مقابل ذلك– ذكر الله يرقق القلب، لا سيما في خلوات الإنسان لأنها أبعد للرياء وأزكى للنفس، فمن وصية الإمام الباقر عليه السلام لجابر الجعفي: (وتعرض لرقة القلب، بكثرة الذكر في الخلوات) ([31])

3- ترك حضور مجالس أهل البيت عليهم السلام وإحياء أمرهم.

فقد روي عن الإمام الرضا (عليه السلام) قال (من جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت فيه القلوب) ([32]) الدال بمفهومه على موت القلب إن لم يحضر صاحبه مجلسا يحيي فيه أمر أهل البيت عليهم السلام

4- الرضا بالجهل وترك التفقه بالدين.

روي عن النبي صلى الله عليه واله قال: إن الله عز وجل يقول: تذاكر العلم بين عبادي مما تحيى عليه القلوب الميتة إذا انتهوا فيه إلى أمري([33]). ويفهم من الرواية الشريفة أن المقصود من العلم الذي تحيى القلوب بتذاكره ما كان موصلا إلى الله ومعرفة ما يرضيه فيؤدّى، وما يسخطه فيُتجنَّب. و التفقه في الدين من أجلى مصاديق ذلك العلم.

5- كثرة الطعام والشراب.

فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزرع إذا كثير عليه الماء([34])

وقال صلى الله عليه واله: "لا تشبعوا فيطفَأ نور المعرفة من قلوبكم "([35])

6- كثرة الذنوب والإصرار عليها.

وهذا السبب من أعظم أسباب قسوة القلب وأخطرها وإنما أخرنا ذكره لارتباطه بالاستضاءة الآتية. فقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال " كثرة الذنوب مفسدة للقلب "([36]). وتقدم عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله (..وما قست القلوب إلا لكثرة الذنوب)

الاستضاءة الرابعة: (موت القلب)

وقد يعبر عنه في الذكر الحكيم وأحاديث المعصومين عليهم السلام بـ(الطبع) أو الـ (ختم)

قال تعالى: (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ([37]). وقال تعالى (أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) ([38])

إن كل إنسان يجد من نفسه أنها تتأثر بما تقوم به من أفعال وسلوك، وتتكيف تدريجيا على ضوء تلك الآثار، وقد تناولت النصوص الإسلامية ما للذنوب من تأثيرات سلبية على إظلام القلب وتلويثه. وتتأكد هذه التأثيرات السيئة مع إصرار الإنسان على الذنوب، لتغوص روحه في ظلمات الضلال، وتكسو قلبه أغشية الرين والصدأ، وتحول دون نفوذ نور الهداية والإيمان، فإن تدارك نفسه بالتوبة والإقلاع عن الذنوب، أمكن لقلبه أن يتعافى وتزول عن هذه الأغشية تدريجيا، وإن تمادى في اجتراح المعاصي ولم يتب، انغلق قلبه عن تقبل أي شكل من أشكال النصح والوعظ، ويزداد قلبه إيغالا في القسوة، حتى يصل به الأمر إلى تشوه الحقائق وعدم تميزها عن الأمور الباطلة، ثم تنقلب عنده الموازين فيرى الحق باطلا والباطل حقا. وينقطع خط وصله بأسباب النجاة.

ويشير القرآن الكريم إلى تأثير ما يكتسبه الإنسان من الذنوب على قلبه والرين الذين يكسوه ويحول بينه وبين معرفة الحق، في قوله تعالى(كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) ([39])([40])

وفي روايات أهل البيت عليهم السلام تأكيد واضح على هذا المعنى، فعن النبي صلى الله عليه واله قال (إن المؤمن إذا أذنب كانت نكتة سوداء في قلبه فان تاب ونزع واستغفر صقل قلبه منه، وان زاد زادت فذلك الرين الذي ذكره الله في كتابه كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون) ([41])

وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال(قَالَ مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وفِي قَلْبِه نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْباً خَرَجَ فِي النُّكْتَةِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فَإِنْ تَابَ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوَادُ وإِنْ تَمَادَى فِي الذُّنُوبِ زَادَ ذَلِكَ السَّوَادُ حَتَّى يُغَطِّيَ الْبَيَاضَ فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُه إِلَى خَيْرٍ أَبَداً وهُوَ قَوْلُ اللَّه عَزَّ وجَلَّ (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ)) ([42])

وفي قوله (عليه السلام) (مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا وفِي قَلْبِه نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ) دلالة على أن للنفس - بحسب طبعها الأولي - صفاءً وجلاءً تدرك به الحق كما هو وتميز بينه وبين الباطل وتفرق بين التقوى والفجور قال تعالى: " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها "([43])([44])

ويذكر سماحة السيد مرتضى الحسيني الشيرازي: (أن القرآن الكريم في أكثر من موضع في كتابه العزيز أن الإنسان يلج ساحة الانحرافات ويتكدر قلبه بأغشية الرين بشكل تدريجي لا دفعي فوري، وذلك في قوله تعالى (وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) ([45])([46]). والشيطان بمكره يدفع الإنسان إلى الخطوة الأولى في طريق المعاصي ويهون له أمر ما يقترفه، وحينما يقع الإنسان في شراك الذنب في خطوته الأولى يسهل استدراجه من قبل الشيطان في بقية الخطوات، حتى ينزل إلى هوة المعاصي والذنوب، ويصل إلى مراحل متأخرة لا يرجى معها إنابته إلى الصلاح والهداية، وهذا ما يشير إليه قول الإمام الباقر عليه السلام المتقدم آنفا (فَإِذَا غَطَّى الْبَيَاضَ لَمْ يَرْجِعْ صَاحِبُه إِلَى خَيْرٍ أَبَداً).

ولما كان الأمر كذلك فقد يخفى على الإنسان تلبس قلبه بلباس الرين بسبب انغماسه في المعاصي، ويحسب نفسه من المحسنين، وهذه من أخطر مراحل قسوة القلب والختم عليه لأنها "قسوة خفية لا يلتفت إليها حتى الإنسان بنفسه وهو ما نعبر عنه بالنفاق الخفي أو النفاق القلبي الباطني الذي قد يخفى حتى على القلب) ([47])

الاستضاءة الخامسة: علاج قسوة القلب

من مجموع الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي تتحدث عن القلب وسلامته والآفات التي تصيبه، وطرق مبارزتها ومكافحتها يتبين، أن الشريعة الإسلامية تولي اهتماما وعناية للجانب الفكري والعقائدي والأخلاقي، وتقدمه - من ناحية الأهمية – على الجوانب التطبيقية والعملية للإنسان، وترى أنها انعكاسات لذلك الأساس الفكري وآثاره، وكما أن سلامة القلب الظاهرية سبب لسلامة الجسم، وأن مرضه سبب لمرض أعضائه جميعا، فكذلك هي الحال بالنسبة لسلامة مناهج حياة الإنسان وفسادها، كل ذلك انعكاس عن سلامة العقيدة والأخلاق أو فسادهما. ومن جملة الأمور التي ذكرت علاجا لقسوة القلب:

1) الحذر من الوقوع في شراك إبليس وتزيينه للذنوب، والابتعاد عن مواطن الشبهة، وتجنب الوقوع في الخطوة الأولى للشيطان حتى لا ينزلق في بقية الخطوات ويكون الختم والطبع والموت مصيره، وأن ينظر الإنسان إلى معصيته – مهما صغرت في تصوره – أنها من كبائر الذنوب التي قد تسحبه إلى جهنم إن أغفلها، ويبادر إلى التوبة والإنابة عند الوقوع في المعاصي لمنع تراكم أغشية الذنوب على القلب.

2) السعي إلى التعلم لإزالة أغشية الجهل([48])، وتذاكر العلم ومجالسة العلماء. فقد روي عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: " تذاكروا وتلاقوا وتحدثوا فإن الحديث جلاء للقلوب، إن القلوب لترين كما يرين السيف، وجلائه الحديث "([49])

3) أن يتفقد الإنسان قلبه ليتأكد من سلامته من القسوة، خصوصا في مواطن العبادة، ويرى مدى إقباله على الله تعالى وإخلاصه في عبادته، وكذا يتفقده في أمور الدنيا وما يتعلق بزينتها وزخارفها، ومدى تعلقه بها، ويسعى في بناء ذاته وتهذيب نفسه، لا سيما بترك الأسباب الموجبة لقسوة القلب. وقد روي أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا رسول الله، أشكو إليك قسوة قلبي فقال (صلى الله عليه واله): اطلع على القبور واعتبر بيوم النشور([50])

الاستضاءة السادسة: مظاهر لقسوة القلب في العصر الحاضر

ويتجلي ذلك في عصرنا الحاضر: في التهاون بالمنكرات، والمرور عنها مرور الكرام، بل قد تبلغ القسوة في الانسان حداً يلتذ بالمعصية والعياذ بالله تعالى، كما قال صلى الله عليه واله: (يرون المنكر معروفاً والمعروف منكراً)

والتهاون في مسالة الدم، والقتل، كما يشاهد في بعض البلاد الإسلامية من ان الاعراف تتحكم في مسالة الدم بما يخالف الشريعة الإسلامية، وبما يدل على قسوة مستحكمة في القلوب.

وعدم المبالاة بشأن المظلومين من الشيعة في انحاء العالم، والمهجرين والمضطهدين، والمطردين، والمهاجرين، وغيرهم الكثير.

كما ان من اهم تجليات قسوة القلب، عدم الاهتمام بالمقدسات وبما جرى وما يجري عليها، وعدم اتخاذ موقف مناسب حكيم من التقولات التي يقال عن الإسلام وعن القران وعن رسول الله وعن ائمتنا الاطهار عليهم السلام.

فهاهو البقيع فكيف اصبح وامسى.؟ مع انه يضم في ثراه أربعة من ائمتنا الاطهار عليهم السلام، وكثيراً من الاطهار والطاهرات من ال بيت النبي صلى الله عليه واله وغيرهم كفاطمة بنت اسد عليها السلام وام البنين عليها السلام، هذا مع ان الاهتمام بالرموز والعظماء والالتفات حولهم وتعظيمهم وتخليد ذكراهم وترميزهم و، امر تسير عليه كل امة متحضرة مهتمة بتراثها و حضارتها،

وها هي سامراء وما هي عليها من حال يرثى لها.

وها هي الماكينة المعادية تسخر اعلامها وقواها للنيل من الإسلام ونبيه.

فهل حركنا ساكناً، وهل اتخذنا موقفاً مشرفاً حكيما سلمياً للدفاع عن انفسنا وحقوقنا ومقدساتنا،.؟؟ ان ذلك من أجلى مصاديق قسوة القلب، ما ينبأ عن ضمور الضمير وموته، وقسوة القلب وختمه.

يقول السيد مرتضى الشيرازي في محاضرة له:

فكيف يكون القلب صلداً قاسياً خشناً لا يعرف الرحمة ولا يعرف الرقة، بحيث عندما يسمع عن ((البقــــيــع)) و حالته يمر على ذلك مرور الكرام؟ كيف ذلك؟ هم سادتنا، هم قادتنا، هم أقدس مقدسات الوجود، بعد رسول الله(صلى الله عليه وآله)، وقبورهم مهدمة وأنا وغيري نسمع ونرى ولا نصنع شيئا ولا نحرك ساكناً!!

حتى لقد اضحى هذا المنكر عندنا عادياً إلى أبعد الحدود وهذه علامة من علامات قسوة القلوب، والمنكرات – بما لاحد لها ولا حصر- موجودة،من نساء متبرجات،ومن فساد مختلف ألوانه وأشكاله، ومن غيبة ونميمة وتهمة وظلم وغصب حقوق،ونحن نسمع بها،والإنسان يمر عليها مرور الكرام دون ان نحرك ساكناً او نتخذ اجراءاً او نشكل لجانا ومؤسسات لمكافحتها، ماذا يعني ذلك؟! معنى ذلك أن القلب قاس- والعياذ بالله-.

وأنتم لاحظوا إذا سبكم شخص ما فان الكثير من الناس لاينام الليل لأن فلاناً أهانه ! لكنه يسمع كلاماً ضد الإسلام وضد القرآن وضد الرسول والأئمة (صلوات الله عليهم أجمعين)، وقد يصدر منه تعليق او رد فعل ما، لكن هل تتحرك قوته الغضبية بنفس الدرجة التي تحركت فيها لِسبَّةٍ وجهت إليه؟! وهل يتخذ موقفاً حقيقياً إزاء ما يتعرض إليه الإسلام والمؤمنون من الظلم والجور؟ هذا هو المحك ومن ههنا تعرف معادلة قسوة القلوب([51]

* باحث ومدرس في الحوزة العليمة في النجف الاشرف

...............................................
([1]) البقرة/74
([2]) للفظ (القلب) ثلاث معان رئيسة، وكل ما عداها راجع إلى أحدها، وهي: (الأول) العَلَقة اللحمية الواقعة في يسار أعلى جوف الإنسان والذي يضخ الدم إلى أجزاء الجسم المختلفة (الثاني) مظهر العواطف لدى الإنسان، وأطلق عليه (القلب) لأن القلب أول من يتأثر بالعواطف في جسم الإنسان، فتزداد نبضاته ويسرع الدم في جريانه فتنسب الظواهر الروحية إلى القلب بهذا الاعتبار (الثالث) العقل. وهو محل بحثنا.
([3]) ويعرف عند الحكماء ومن يسلك مسلكهم بالنفس الناطقة. العلامة المجلسي، بحار الأنوار: 67/36.
([4]) ق/37
([5]) الراغب الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن: 477.
([6]) ينظر: ابن منظور، لسان العرب: 1/687
([7]) الحج/46.
([8]) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة: 5/17.
([9]) الفيض الكاشاني، المحجة البيضاء: 5/3.
([10]) الخليل الفراهيدي، العين: 5/189.
([11]) الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن: 9/529.
([12]) ينظر: السيد الطباطبائي، تفسير الميزان: 7/91. محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 6/211.
([13]) البقرة/74.
([14]) الأنعام/43.
([15]) الحديد/16.
([16]) البقرة/74.
([17]) التفسير المنسوب للإمام الحسن العسكري (عليه السلام): 2/519
([18])من محاضرة في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ألقاها سماحة السيد مرتضى الشيرازي على طلبة بحثه يوم الأربعاء (8) رجب 1433هـ.
([19]) الزمر/22.
([20]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول: 296.
([21]) المائدة/13.
([22]) الأنعام/43.
([23]) محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن: 1/512
([24]) الشيخ الصدوق، علل الشرائع: 1/81
([25]) ميرزا حسين النوري، مستدرك الوسائل: 2/106
([26]) الشيخ الكليني، الكافي: 2/329
([27]) الحديد/16
([28]) ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر (مجموعة ورام): 2/439
([29]) الشيخ الكليني، الكافي:2/114
([30]) المصدر نفسه:2/497
([31]) ابن شعبة الحراني، تحف العقول عن آل الرسول: 285
([32]) الشيخ الصدوق، عيون أخبار الرضا (ع): 1/264
([33]) الشيخ الكليني، الكافي: 1/41
([34]) ورام بن أبي فراس المالكي الاشتري، تنبيه الخواطر ونزهة النواظر: 1/55
([35]) الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: 457
([36]) تفسير الدر المنثور: 6/326
([37]) البقرة/8
([38]) النحل/108
([39]) المطففين/14
([40]) ينظر: الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن: 10/300. ابن شهراشوب، متشابه القرآن ومختلفه: 1/154. الفيض الكاشاني، التفسير الصافي: 5/300.
([41]) الفتال النيسابوري، روضة الواعظين: 414.
([42])الشيخ الكليني، الكافي: 2/273.
([43]) الشمس / 8
([44]) السيد الطباطبائي، تفسير الميزان:234
([45])البقرة/168
([46]) وقد تكررت هذه العبارة في القرآن الكريم خمس مرات
([47]) من محاضرة في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ألقاها سماحة السيد مرتضى الشيرازي على طلبة بحثه يوم الأربعاء (8) رجب 1433هـ
([48]) وقد وردت روايات عن أهل البيت عليهم السلام تؤكد على سببية وتأثير العلم والحكمة في حياة القلوب، منها ما روي عن أمير المؤمنين (ع)، قال " واعْلَمُوا أَنَّه لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ، إِلَّا ويَكَادُ صَاحِبُه يَشْبَعُ مِنْه ويَمَلُّه، إِلَّا الْحَيَاةَ فَإِنَّه لَا يَجِدُ فِي الْمَوْتِ رَاحَةً، وإِنَّمَا ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحِكْمَةِ الَّتِي هِيَ حَيَاةٌ لِلْقَلْبِ الْمَيِّتِ وبَصَرٌ لِلْعَيْنِ الْعَمْيَاءِ". نهج البلاغة: 2/16
([49]) الشيخ الكليني، الكافي:1/41
([50]) الحسن بن محمد الديلمي، إرشاد القلوب: 1/12
[51] من محاضرة في التفسير الموضوعي للقرآن الكريم، ألقاها سماحة السيد مرتضى الشيرازي على طلبة بحثه يوم الأربعاء (8) رجب 1433هـ بتصرف

ذات صلة

التنمية المتوازنة في نصوص الإمام علي (ع)أهمية التعداد السكاني وأهدافهالموازنة في العراق.. الدور والحجم والاثرفرصة الصعود في قطار الثقافةموقع العراق في سياسة إدارة ترامب الجديدة