أزمة الاخلاق في المجتمعات الحديثة.. التحديات والحلول

باسم حسين الزيدي

2024-05-14 05:57

المقدمة

من أصعب المشاكل التي تواجه الافراد والمجتمعات الإنسانية في وقتنا الراهن، والتي تسببت ارتداداتها بأزمات أخرى كبرى، هو الانحدار نحو زمن الازمات الأخلاقية الحادة التي استهدفت البنى التحتية للمنظومة الأخلاقية كالقيم والعادات والاسرة، بالإضافة الى محاولة التأصيل لقيم أخلاقية هجينة بديلة عن الفطرة الإنسانية والأخلاقية التي ارتبط بقيمة الإنسانية واحترام الانسان ككائن عاقل ومكرم.

لقد شخص المرجع الراحل السيد محمد الشيرازي في كتابة (الازمات وحلولها) هذا الخطر وتحدث عن تداعياته الخطيرة على الافراد خاصة والمجتمعات بصورة عامة وفيها شخص اتجاهين لتفاقم الازمة أحدهما ينبع من الانحراف الداخلي للمجتمعات لأسباب ذكرها بقوله: 

"من أهم الأزمات أزمة الأخلاق، فإن الأخلاق العامة صارت سيئة، ولذا كثر النزاع في مختلف طبقات المجتمع من الأسرة الصغيرة الى التكتلات الكبيرة، وحتى كثر اصطدام السيارات إلى ما أشبه ذلك، والسبب هو توتر الأعصاب بسبب إرادة كل إنسان أن يحوز على أكبر قدر من المال والجمال ومباهج الحياة ولو عن الطرق غير الشرعية، وان يسبق الآخرين كذلك، في كل شيء، وحيث لا تصل يد الإنسان إلى ذلك تتوتر أعصابه وتسوء أخلاقه ويسبب عدم الرضا بالقسمة والاتصاف بعدم القناعة. 

والأخر يأتي من طرق خارجية بقصد التأثير على الافراد والمجتمعات وابعادها عن بوصلة الاخلاق الحميدة أشار اليها بقوله:

"وكذلك من أسباب عدم تمكن الإنسان من توفير حاجياته كثرة القيود وما أشبه وهذا أيضاً يوجب توتره وقلقه، مضافاً إلى جملة من المشاكل السابقة التي تساهم في انحراف الأخلاق عن موازينها، إضافة إلى أن بعض الحكومات الاستبدادية لها الدور الكبير في تعليم الناس الأخلاق السيئة، فإن (الناس على دين ملوكهم)".

الاخلاق وصناعة النموذج

يقول الله تعالى في القران الكريم: (وإنك لعلى خلق عظيم)، وفيه إشارة الى اخلاق النبي الكريم (صلى الله عليه واله) ومدى تحليه بالصفات الأخلاقية العالية التي استطاع من خلالها بناء الحضارة الإسلامية، حيث استطاع الرسول (عليه الصلاة والسلام) التحول الى نموذج فريد للقيادة من خلال خلقه العظيم لقوله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة). 

وفي آية أخرى يقول تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)، وهو مثال اخر على ان الرحمة الإلهية التي شملت النبي محمد (صلى الله عليه واله) لتجعله منه صاحب الخلق العظيم ومن يملك اللين والرفق والرحمة والرأفة حتى مع الأعداء، ولو كان بخلاف ذلك لما استطاع الوصول الى ما وصل اليه من المقامات العالية في الدنيا والاخرة.

يقول السيد الشيرازي (رحمه الله): "أن نتحلى باللين والرفق في كافة مجالات الحياة، فنعرف كيف نمسك أعصابنا ولا نفقدها، وأن تكون لنا السيطرة الكاملة عليها وعلى أنفسنا وأخلاقنا، وكيف نحفظ ألسنتنا فلا يفلت منا ما لا يرضاه الله من الكلام ونندم حيث لا ينفع الندم".

ويضيف: "ونعلم أن التفكير الصامت المنطقي أعلى صوتاً وابلغ أثراً من الصراخ والسباب والاتهامات والهمز واللمز والطعن واللعن، فقد قال القرآن الحكيم: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم)، فإن الإسلام يأمر (بالرفق واللين) حتى مع المشركين الذين أشركوا بالله سبحانه وتعالى، مع أن المشرك لا يلتزم لا بالعقائد ولا بالأحكام ولا بالشرائع ولا بغير ذلك". 

تفاقم ازمة الاخلاق

بالمقابل فأن تفاقم ازمة الاخلاق بين الافراد داخل المجتمعات يشير الى زيادة تدهور القيم والمعايير الأخلاقية، خصوصاً في المجتمعات الحديثة، التي ابتعدت كثيراً عن الاخلاق الإنسانية والنماذج الأخلاقية العظيمة التي استطاعت بناء الحضارات الإنسانية الراقية، كنموذج النبي محمد (صلى الله عليه واله).

وهذا الامر انعكس سلباً على العلاقة الاجتماعية والأخلاقية بين افراد المجتمع الواحد ليتسبب بأزمة فقاد الثقة بين الافراد وانعدام الاحترام المتبادل على أساس القيم والعادات والثقافات الحميدة.

وقد تحولت الحياة نتيجة لذلك، الى حلبة سباق لتحصيل المنافع الدنيوية الانية واتباع المصالح الفردية واللذات السريعة من دون إقامة وزن للمعايير الأخلاقية، وبالتالي وقع معظم الناس في المحظور حيث أصبحت التكلفة لفقدان الأسس الأخلاقية باهظة الثمن، وانعكست اثارها الخطيرة في السياسية والاقتصاد والتكنولوجيا والثقافات والتعليم وغيرها.

وقد تحولت الكثير من المجتمعات الإنسانية نتيجة لهذه الانحرافات الى بؤرة للفساد والرشى والانحلال الأخلاقي، فيما تضررت الأخرى نتيجة لتفاقم الازمات السياسية والحروب والمجاعات والامراض التي كان العامل الأخلاقي فيها سبب مباشر او غير مباشر.

فقدان القيم الإنسانية

ان ما يمز المجتمعات الإنسانية وجود قيم وصفات أخلاقية مشتركة، بغض النظر عن اللون والدين والمعتقد والقومية، مثل النزاهة والصدق والتسامح ونبذ العنف والكذب والانحلال الأخلاقي وغيرها.

وان خطورة فقدان او ضياع هذه القيم وانفصالها عن المجتمعات والافراد يمكن ان يؤدي الى ارتفاع معدلات الجريمة والفساد والتخلف وانخفاض مستويات الاخلاق في المجتمع، وبالتالي فإن خطورة فقدان هذه القيم او انفصالها عن المجتمع يؤدي الى فقدان القيم التي تعتبر الأساس في بناء أي مجتمع متماسك ومزدهر.

لذلك تجد الكثير من الشعوب تحاول الحفاظ على موروثها القيمي والأخلاقي وتراثها الحضاري رغم تطورها التكنولوجي والصناعي الكبير، وذلك للحفاظ على تماسك المجتمع وصلابته امام العادات والتقاليد الدخيلة والتي يمكن ان تعصف به وتتسبب في انحداره وجره الى الانحراف الأخلاقي الذي يشجع على انتشار الظواهر السلبية مثل الفساد والغش وسوء السلوك في مختلف المجالات، بما فيها السلوك في مؤسسات مختلفة من الحكومة الى الشركات الخاصة ما قد يتسبب بانهيار كامل المنظومة التي بنيت عليها الدولة ومؤسساتها.

التحديات الأخلاقية الحديثة

هي التحديات التي فرضها التطور التكنولوجي كتحديات أخلاقية جديدة والتي تطرحها التكنولوجيا مثل الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي ومفهوم الخصوصية وتعديل البيانات والتلاعب بالمعلومات الشخصية والعامة وغيرها والتي جاءت نتيجة زيادة الاعتماد على التكنولوجيا في مختلف مجالات الحياة.

ان التحديات الأخلاقية الحديثة تشمل ما يسمى "الاخلاقيات الرقمية" والتي تتعلق بسلوك المستخدمين على شبكة الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي، بالإضافة الى تطبيقات التكنولوجيا الحديثة التي برزت مؤخراً والتي تعرف بتطبيقات الذكاء الاصطناعي.

ان هذه التحديات فاقمت من الازمة الأخلاقية لتضيف المزيد من الضغط على السلوك الأخلاقي الفردي والجمعي وصعبت من مهمة البحث عن حلول لمعالجة هذه الازمة، وبالتالي أصبحت الحاجة ملحة الى تعاون وتكاتف الجميع (افراد، ناشطين، مثقفين، مؤسسات، منظومات، حكومات...الخ) لإيجاد الحلول المناسبة لهذه الازمة التي باتت تهدد الجميع وتنذر بانفلات خطير.

يمكن اقتراح بعض النقاط التي قد تساهم في إيجاد الحلول الواقعية لهذه الازمة:

1. تعزيز الوعي الأخلاقي العام حول القيم والأخلاق واهميتها في بناء المجتمعات على أساس متماسك ومزدهر، وان الرفاهية والتطور وبناء الحضارة لا يأتي عن طريق الانحلال الأخلاقي والتخلي عن قيمه، بل من خلال التمسك بالأخلاق والبناء عليها، ويأتي ذلك من خلال حملات توعية وتثقيف الجمهور حول القضايا الأخلاقية المهمة وأثرها على الفرد والمجتمع.

2. المحافظة على القيم الأخلاقية الموجودة داخل المجتمع وتشجيع التطوع او المشاركة المجتمعية كوسيلة لبناء قيم اجتماعية اقوى من خلال تعزيز الانتماء والمسؤولية الاجتماعية للمحافظة على القيم الموروثة والبناء عليها.

3. تعزيز التعليم الأخلاقي الذي يشمل ضرورة تضمين تعليم القيم والأخلاق في المناهج التعليمية لمختلف المراحل العمرية (من الابتدائية وحتى الجامعات).

4. تطوير السياسيات الحكومية الأخلاقية من خلال تطوير وتنفيذ سياسيات وقوانين فعالة تعزز النزاهة والمسألة في المؤسسات وتعاقب الفساد والتلاعب والأنشطة اللاأخلاقية، بالإضافة الى ضرورة تعزيز القيادة الأخلاقية في المؤسسات الحكومية وتشجيع المسؤولية والتصرف بنزاهة من قبل القادة والمديرين، والاهتمام بالبرامج التدريبية للموظفين الحكوميين لتعزيز الوعي الأخلاقي وتطوير مهارات اتخاذ القرارات الأخلاقية.

5. الاهتمام بالأسرة كونها اللبنة الأولى لبناء المجتمع الأخلاقي السليم من خلال توفير البيئة الامنة لقيام اسرة لا تعاني من عقد وازمات أخلاقية او اجتماعية او اقتصادية.

 * باحث في مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2024

http://shrsc.com

ذات صلة

بين موت الغرب ونهضة الشرقالبنية الحجاجية.. خطبة الزهراء (ع) مثالامتى يحق للمواطن المشاركة في القرارات الحكومية؟الإدارة الأمريكية الجديدة وتصوّرات الصدام والتوتر والوفاقالحياة المشتركة في الشرق الأوسط