إدراك الغرائز بين اللذة والألم

جامع السعادات

2023-11-19 05:08

ان القوى في الإنسان أربع: قوة نظرية عقلية، وقوة وهمية خيالية، وقوة سبعية غضبية، وقوة بهيمية شهوية - فاعلم أنه بإزاء كل واحدة منها لذة وألم، لأن اللذة إدراك الملائم، والألم إدراك غير الملائم، فلكل من الغرائز المدركة لذة هو نيله مقتضى طبعه الذي خلق لأجله، وألم هو إداركه خلاف مقتضى طبعه:

(بغريزة العقل) لما خلقت لمعرفة حقائق الأمور، فلذتها في المعرفة والعلم، وألمها في الجهل، و(غريزة الغضب) لما خلقت للتشفي والانتقام فلذتها في الغلبة التي يقتضيها طبعها وألمها في عدمها، و(غريزة الشهوة) لما خلقت لتحصيل الغذاء الذي به قوام البدن، فلذتها في نيل الغذاء، وألمها في عدم نيله، وهكذا في غيرها، فاللذات والآلام أيضا على أربعة أقسام: العقلية والخيالية والغضبية والبهيمية.

فاللذة العقلية كالانبساط الحاصل من معرفة الأشياء الكلية وإدراك الذوات المجردة النورية، والألم العقلي كالانقباض الحاصل من الجهل.

واللذة الخيالية كالفرح الحاصل من إدراك الصور والمعاني الجزئية الملائمة، والألم الخيالي كإدراك غير الملائمة منها. واللذة المتعلقة بالقوة الغضبية كالانبساط الحاصل من الغلبة ونيل المناصب والرياسات، والألم المتعلق بها كالانقباض الحاصل من المغلوبية والعزل والمرؤسية. واللذة البهيمية هي المدركة من الأكل والجماع وأمثالهما، والألم البهيمي ما يدرك من الجوع والعطش والحر والبرد وأشباهها. وهذا اللذات والآلام تصل إلى النفس وهي الملتذة والمتألمة حقيقة إلا أن كلا منها يصل إليها بواسطة القوة التي تتعلق بها. والفرق بين الكل ظاهر.

وربما يشتبه بين ما يتعلق بالوهم والخيال وما يتعلق بالقوة الغضبية من حيث اشتراكهما في الترتب على التخيل.

ويدفع الاشتباه بأن ما يتعلق بالغضبية وإن توقف على التخيل إلا أن المتأثر بالالتذاذ والتألم بعد التخيل هو الغضبية وبواسطتها تتأثر النفس، ففي هذا النوع من اللذة والألم تتأثر الغضبية لم تتأثر النفس.

وأما ما يتعلق بالوهم والخيال فالمتأثر بالالتذاذ والتألم هاتان القوتان ويصل التأثر منهما إلى النفس من دون توسط القوة الغضبية.

ومما يوضح الفرق أن الالتذاذ والتألم الخياليين لا يتوقفان على وجود غلبة ومغلوبية مثلا في الخارج، وأما الغضبيان فيتوقفان عليهما.

ثم أقوى اللذات هي العقلية لكونها فعلية ذاتية غير زائلة باختلاف الأحوال، وغيرها من اللذات الحسية انفعالية عرضية منفعلة زائلة، وهي في مبدأ الحال مرغوبة عند الطبيعة، وتتزايد بتزايد القوة الحيوانية، وتتضعف بعضها إلى أن تنتفي بالمرة، ويظهر قبحها عند العقل، وأما العقلية فهي في البداية منتفية، لأن إدراكها لا يحصل إلا للنفوس الزكية المتحلية بالأخلاق المرضية، وبعد حصولها يظهر حسنها وشرفها، وتتزايد بتزايد القوة العقلية، إلى أن ينتهي إلى أقصى المراتب، ولا يكون لها نقص ولا زوال.

والعجب ممن ظن انحصار اللذة في الحسية وجعلها غاية كمال الإنسان وسعادته القصوى. والمتشرعون منهم قصروا اللذات الآخرة على الجنة والحور والغلمان وأمثالها، وآلامها على النار والعقارب والحيات وأشباهها، وجعلوا الوصول إلى الأولى والخلاص عن الثانية غاية لزهدهم وعبادتهم، وكأنهم لم يعلموا أن هذه عبادة الأجراء والعبيد تركوا قليل المشتبهات ليصلوا إلى كثيرها. وليت شعري أن ذلك كيف يدل على الكمال الحقيقي والقرب من الله سبحانه! ولا أدري أن الباكي خوفا من النار وشوقا إلى اللذات الجسمية المطلوبة للنفس البهيمية كيف يعد من أهل التقرب إلى الله سبحانه ويستحق التعظيم ويوصف بعلو الرتبة! وكأنهم لم يدركوا الابتهاجات الروحانية، ولا لذة المعرفة بالله وحبه وأنسه ولم يسمعوا قول سيد الموحدين (1) (ص) "إلهي ما عبدتك خوفا من نارك ولا طمعا في جنتك ولكن وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك".

وبالجملة لا ريب في أن الإنسان في اللذة الجسمية يشارك الخنافس والديدان والهمج من الحيوان، وإنما يشابه الملائكة في البصيرة الباطنة والأخلاق الفاضلة، وكيف يرتضي العاقل أن يجعل النفس الناطقة الشريفة خادمة للنفس البهيمية الخسيسة.

والعجب من هؤلاء الجماعة (2) مع هذا الاعتقاد يعظمون من يتنزه عن الشهوات الحيوانية ويستهين باللذات الحسية ويتخضعون له ويعدون أنفسهم أشقياء بالنسبة إليه، ويذعنون أنه أقرب الناس إلى الله سبحانه وأعلى رتبة منهم بتنزهه عن الشهوات الطبيعية، وقد اتفق كلهم على تنزه مبدع الكل وتعاليه عنها مستدلين بلزوم النقص فيه لولاه، وكل ذلك يناقض رأيهم الأول.

والسر فيه أنهم وإن ذهبوا إلى هذا الرأي الفاسد إلا أنه لما كانت غريزة العقل فيهم بعد موجودة، وإن كانت ضعيفة، فيرى ما هو كمال حقيقي لجوهرها كمالا، ويحكم بنورانيتها الذاتية، على كون ما هو فضيلة في الواقع فضيلة، وما هو رذيلة في نفس الأمر رذيلة، فيضطرهم إلى إكرام أهل التنزه عن الشهوات، والاستهانة بالمكبين عليها.

ومما يدل على قبح اللذات الحيوانية أن أهلها يكتمونها ويحفون ارتكابها ويستحيون عن إظهارها، وإذا وصفوا بذلك تتغير وجوههم، كما هو ظاهر من وصف الرجل بكثرة الأكل والجماع، مع أن الجميل على الإطلاق يحسن إذاعته، وصاحبه يحب أن يظهره ويوصف به. هذا مع أن البديهة حاكمة بأن هذه اللذات ليست لذات حقيقية، بل هي دفع آلام حادثة للبدن (3) فإن ما يتخيل لذة عند الأكل والجماع إنما هو راحة من ألم الجوع ولذع المني ولذا لا يلتذ الشبعان من الأكل، ومعلوم أن الراحة من الألم ليس كمالا وخيرا، إذ الكمال الحقيقي والخير المطلق ما يكون كمالا وخيرا أبدا.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

.....................................
(1) المعني به هو أمير المؤمنين علي عليه الصلاة والسلام.
(2) المراد هم الذين حصروا اللذات في الحسية والكلام كله في هذا الرأي.

ذات صلة

مصائر الظالمينترامب يصدم العالم.. صنعنا التاريخفوز ترامب.. فرح إسرائيلي وحذر إيراني وآمال فلسطينيةالنظامُ التربوي وإشكاليَّةُ الإصلاح والتجديدالتأثير البريطاني على شخصية الفرد العراقي