غوائل المال وفوائده
جامع السعادات
2023-10-12 06:33
ان المال مثل حية فيها سم وترياق، فغوائله سمه، وفوائده ترياقه، فمن عرفها أمكنه أن يحترز من شره ويستدر منه خيره.
ولبيان ذلك نقول: إن غوائله إما دنيوية أو دينية:
والدنيوية: هي ما يقاسيه أرباب الأموال: من الخوف والحزن، والهم، والغم، وتفرق الخاطر، وسوء العيش، والتعب في كسب الأموال وحفظها، ودفع الحساد وكيد الظالمين، وغير ذلك.
والدينية ثلاثة أنواع:
أولها - أداؤه إلى المعصية. إذ المال من الوسائل إلى المعاصي، ونوع من القدرة المحركة لداعيتها. فإذا استشعرها الإنسان من نفسه، انبعثت الداعية، واقتحم في المعاصي، وارتكب أنواع الفجور. ومهما كان آيسا عن القدرة لم يتحرك داعية إليها. إذ العجز قد يحول بين المرء وبين المعصية، ومن العصمة ألا يقدر، وأما مع القدرة، فإن اقتحم ما يشتهيه هلك، وإن صبر وقع في شدة. إذ الصبر مع القدرة أشد، وفتنة السراء من فتنة الضراء أعظم.
وثانيها - أداؤه إلى التنعم في المباحات. فإن الغالب أن صاحب المال يتنعم بالدنيا ويمرن عليه نفسه، فيصير التنعم محبوبا عنده مألوفا، بحيث لا يصبر عنه، ويجره البعض منه إلى البعض. وإذا اشتد ألفه به وصار عادة له، ربما لم يقدر عليه من الحلال، فيقتحم في الشبهات ويخوض في المحرمات: من الخيانة، والغصب، والرياء، والكذب، والنفاق والمداهنة، وسائر الأخلاق المهلكة، والأشغال الردية، لينتظم أمر دنياه ويتيسر له تنعمه. وما أقل لصاحب الثروة والمال ألا يصير التنعم مألوفا له، إذ متى يقدر أن يقنع بخبز الشعير ولبس الخشن وترك لذيذ الأطعمة بأسرها، فإنما ذلك شأن نادر من أولي النفوس القوية القدسية، كسليمان بن داود (ع) وأمثاله.
على أن من كثر ماله كثرت حاجته إلى الناس، ومن احتاج إلى الناس فلا بد أن ينافقهم ويسخط الله في طلب رضاهم، فإن سلم من الآفة الأولى، أعني مباشرة المحرمات، فلا يسلم من هذه أصلا.
ومن الحاجة إلى الناس تثور العداوة والصداقة، ويحصل الحقد، والحسد، والكبر، والرياء، والكذب، والغيبة، والبهتان، والنميمة، وسائر معاصي القلب واللسان، وكل ذلك يلزم من شؤم المال والحاجة إلى حفظه وإصلاحه.
وثالثها - وهو الذي لا ينفك عنه أحد من أرباب الأموال، وهو أنه يلهيه إصلاح ماله وحفظه عن ذكر الله تعالى، وكل ما يشغل العبد عن الله تعالى فهو خسران ووبال. ولذا قال روح الله (ع): "في المال ثلاث آفات، أن يأخذه من غير حله"، فقيل: إن أخذه من حله؟ قال: "يضعه في غير حقه"، فقيل: إن وضعه في حقه؟ فقال: "يشغله إصلاحه عن الله".
وهذا هو الداء العضال، إذ أصل العبادات وروحها وحقيقتها هو الذكر والفكر في جلال الله تعالى، وذلك يستدعي قلبا فارغا. وصاحب الضيعة يصبح ويمسي متفكرا في خصومة الفلاح ومحاسبته وخيانته، ومنازعة الشركاء وخصومتهم في المال والحدود، وخصومة أعوان السلطان في الخراج، وخصومة الأجراء في التقصير في العمارة وغير ذلك.
وصاحب التجارة يكون متفكرا في خيانة الشركاء وانفرادهم بالربح وتقصيرهم في العمل وتضييعهم المال، ويكون غالبا في بلاد الغربة متفرق الهم محزون القلب من كساد ما يصحبه من مال التجارة. وكذلك صاحب المواشي وغيره من أرباب أصناف الأموال. وأبعدها عن كثرة الشغل النقد المكنون تحت الأرض، وصاحبه أيضا لا يزال متفكرا مترددا فيما يصرف إليه، وفي كيفية حفظه، وفي الخوف ممن يعثر عليه، وفي دفع طمع الخلق منه.
وبالجملة: أودية أفكار أهل الدنيا لا نهاية لها، والذي ليس معه إلا قوت يومه أو سنته، ولا يطلب أزيد من ذلك، فهو في سلامة من جميع ذلك.
فوائد المال
وأما فوائده: فهي أيضا دنيوية ودينية:
أما الدنيوية: فهي ما يتعلق بالحظوظ العاجلة: من الخلاص من ذل السؤال، وحقارة الفقر، والوصول إلى العز والمجد بين الخلق، وكثرة الإخوان والأصدقاء والأعوان، وحصول الوقار والكرامة في القلوب.
وأما الدينية: فثلاثة أنواع:
أولها- أن ينفقه على نفسه في عبادة، كالحج والجهاد، أو فيما يقوى على العبادة، كالمطعم والملبس والمسكن.
وثانيا- أن يصرفه إلى أشخاص معينة: كالصدقة، والمروة، ووقاية العرض، وأجرة الاستخدام. وأما الصدقة بأنواعها، فلا يحصى ثوابها وربما نشير إلى فضيلتها في موضعها. وأما المروة، ونعني بها صرف المال إلى الأغنياء والأشراف في ضيافة أو هدية أو إعانة وما يجري مجراها مما يكتسب به الإخوان والأصدقاء ويجلب به صفة الجود والسخاء، إذ لا يتصف بالجود إلا من يصطنع المعروف ويسلك سبيل الفتوة والمروة، فلا ريب في كونه مما يعظم ثوابه.
فقد وردت أخبار كثيرة في الهدايا والضيافات وإطعام الطعام، من غير اشتراط الفقر والفاقة في مصارفها. وأما وقاية العرض، ونعني بها بذل المال لدفع ثلب السفهاء، وهجو الشعراء، وقطع السنة الفاحشين والمغتابين، ومنع شر الظالمين وأمثال ذلك، فهو أيضا من الفوائد الدينية. قال رسول الله (ص): "ما وقى المرء به عرضه فهو له صدقة".
وأما أجرة الاستخدام، فلا ريب في إعانته على أمور الدين، إذ الأعمال التي يحتاج إليها الإنسان لتهيئة أسبابه كثيرة، ولو تولاها بنفسه ضاعت أوقاته وتعذر عليه سلوك سبيل الآخرة بالفكر والذكر الذي هو أعلى مقامات السالكين، ومن لا مال له يحتاج أن يتولى بنفسه جميع الأعمال التي يحتاج إليها في الدنيا، حتى نسخ الكتاب الذي يفتقر إليه، وكلما يتصور أن يقوم به الغير فتضييع الوقت فيه خسران وندامة.
وثالثها- أن يصرفه إلى غير معين يحصل به خير عام، وهي الخيرات الجارية: من بناء المساجد، والمدارس، والقناطر، والرباطات، ونصب الخشبات في الطرق، وإجراء القنوات، ونسخ المصاحف والكتب العلمية، وغير ذلك من الأوقاف المرصدة للخيرات المؤبدة، الدائرة بعد الموت، المستجلبة ببركة أدعية الصالحين إلى أوقات متمادية.
الأموال المنجية من غوائل المال
من أراد النجاة من غوائل المال، فليحافظ على أمور:
الأول- أن يعرف مقصود المال وباعث خلقه وعلة الاحتياج إليه، حتى لا يكتسب ولا يحفظ إلا قدر حاجته.
الثاني- أن يراعي جهة دخله، فيجتنب الحرام والمشتبه، والجهات المكروهة القادحة في المروة والحرية، كالهدايا المشوبة بالرشوة، والسؤال الذي فيه الانكسار والذلة.
الثالث- أن يراعي جهة الخرج، ويقتصد في الإنفاق، غير مبذر ولا مقتر. قال الله تعالى: "والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما" الفرقان، 67. وقال النبي (ص): "ما عال من اقتصد".
ثم للاقتصاد في المطعم والملبس والمسكن درجات ثلاث: أدنى وأوسط وأعلى، وربما كان الميل إلى الأولى أحرى وأولى، ليدخل في زمرة المخفين يوم القيامة.
الرابع- أن يضع ما اكتسبه من حله في حقه، ولا يضعه في غير حقه فإن الإثم في الأخذ من غير حله والوضع في غير حقه سواء.
الخامس- أن يصلح نيته في الأخذ والترك والإنفاق والإمساك، فيأخذ ما يأخذ استعانة به على ما خلق لأجله، ويترك ما يترك زهدا فيه واستحقارا له واجتنابا عن وزره وثقله، وإذا فعل ذلك لم يضره وجوده.
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "لو أن رجلا أخذ جميع ما في الأرض وأراد به وجه الله فهو زاهد، ولو ترك الجميع ولم يرد به وجه الله فليس بزاهد".
فينبغي لكل مؤمن أن يكون باعث جميع أفعاله التقرب إلى الله ليصير الجميع عبادة. فإن أبعد الأفعال من العبادة الأكل والوقاع وقضاء الحاجة، ويصير بالقصد عبادة. فمن أخذ من المال ما يحتاج إليه في طريق الدين، وبذل ما فضل منه على إخوانه المؤمنين، فهو الذي أخذ من حية المال ترياقها واتقى سمها، فلا تضره كثرة المال. إلا أنه لا يتأتى ذلك إلا لمن كثر علمه واستحكمت في الدين قدمه. والعامي إذ يشتبه به في الاستكثار من المال، فشأنه شأن الصبي الذي يرى المعزم الحاذق يأخذ بالحية ويتصرف بها ليأخذ ترياقها، فيقتدي به ويأخذ مستحسنا صورتها وشكلها ومستلينا جلدها فتقتله في الحال. إلا أن قتيل الحية يدري أنه قتيل، وقتيل المال قد لا يعرف ذلك. وكما يمتنع أن يتشبه الأعمى بالبصير في التخطي قلل الجبال وأطراف البحار والطرق المشوكة، فيمتنع أن يتشبه العامي الجاهل بالعالم الكامل في الاستكثار من المال.