الشُكر وعي النعم
من المحفزات الاخلاقية
محمد علي جواد تقي
2023-07-09 07:28
{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ}
عن الامام الصادق، عليه السلام، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، "عُرضت عليّ بطحاء مكة ذهباً، فقلت: يا رب لا، ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً، فإذا شبعت حمدتك وشكرتك، وإذا جعت دعوتك وذكرتك".
هذا رسول الله، والنبي الخاتم، ذو المنزلة الاستثنائية بين الانبياء وسائر البشر عند الله –تعالى-، فقد كانت له علاقة صداقة وثيقة –حسب تعبيرنا- مع جبرائيل؛ يهبط اليه يومياً بأنباء السماء، وبالآيات القرآنية، وكانت تحفّه الملائكة أينما حلّ وارتحل، ولنا أن نتصور أية قدرة و امكانية كان يحظى بها النبي الأكرم، وهو وسط جهل مطبق من أناس بالكاد يستوعبون بعض آيات الله، او يفهمون كلامه، ويطبقون أحكامه وسننه، مع ظروف معيشية قاسية في الجزيرة العربية آنذاك، لكن كل ذلك كان دون حرصه على الشكر لله –تعالى-، واستشعار الحاجة الدائمة اليه –تعالى-، وعدم التفكير لحظة واحدة بالاكتفاء والتفرّد.
لعل تطور الحياة بشكل سريع ومستمر بفضل تطور الوسائل الباعثة على الراحة والرفاهية المتزايدة، يدفع البعض لأن ينسى نفسه، من أين؟ والى أين، فيتملكه شعورٌ عارم بالاعتداد بالنفس، وأنه المبتكر، والمكتشف، والصانع لاشياء لم تكن تخطر على بال أحد، ثم تحولت الى سبب لتوفير الراحة والرفاهية للناس في كل انحاء العالم، ومن ثمّ فهو صاحب فضل كبير على الآخرين، وهذا بدوره يسبب له نسيان صاحب الفضل الحقيقي في كل ذلك، وهو؛ الله –تعالى- الذي وهب العقل والحواس، والصحة البدنية وسائر الامكانات المادية، بل وسخّر الطبيعة والكائنات الحيّة ليخدم الانسان نفسه والآخرين، ثم يعود بالشكر والثناء الى من أعطاه كل هذه المواهب العظيمة والاستثنائية، وهذه أجدها مسألة منطقية وعقلية، ولكن! الغريب أن لا يحصل هذا.
فلسفة الشكر
طبيعة البشر تميل الى الجمال الطبيعي في الحياة، فهو يتحسس جمال الطبيعة، وحلاوة الطعام والشراب، و عذوبة صوت العصافير، وعبق الازهار، كما يستشعر جمال العطاء والأخوة والقيم الانسانية في الجانب الروحي، لذا نلاحظ الشكر والامتنان المتداول فيما بيننا على خدمة يسديها البعض للآخر، بمختلف الاشكال، او حتى سؤال عن الحال والاحوال، فاذا ينعدم هذا النوع الايجابي من العلاقات الاجتماعية، او يتعرض أحدٌ لأزمة ومحنة في حياته، فان أبعد ما يفكر به هو الشكر، فكيف يشكر، وقد فقد وظيفته ومصدر رزقه، او ارتحل عن دار الحياة عزيزٌ عليه، او تعرض داره او سيارته لمكروه، أو أصيب بمرض او عاهة؟!
النبي الأكرم يعلمنا فلسفة الشُكر لله –تعالى-، وكيف انها تختلف عن طريقة التعامل بين بني البشر، بما يعني أنه مطلوب ليس فقط في السراء، وحين يستشعر الانسان الراحة والاطمئنان فيشكر على من وفرها له، وإنما في الضراء أيضاً عندما يستذكر نِعم يمتلكها دون ان يشعر بها، او بالأحرى؛ ساهٍ عنها، ولذا جاء في الرواية "أن النبي الأكرم كان يشكر الله –تعالى- 360مرة في اليوم، تأكيداً على وجود 360 عرق في جسم الانسان، لو اختلّ واحدٌ منها عن وظيفته فانه يسلب صاحبه العافية". (الأخلاق عنوان الإيمان ومنطلق التقدم- المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي).
هذا النوع من الشكر يرسم لنا خطين متوازين نسير بهما في الحياة دون قلق على شيء:
الخط الأول: الاستقرار النفسي والرضى والقناعة والصبر على الموجود، لأن ثمة قدرة عليا ناظرة للوضع الراهن، كأن يكون مرض عضال، او خسارة مادية، او أي مكروه يصيب الانسان، "فالمؤمن المتشبع بالبصائر القرآنية لا يرى انفصالاً بين الشكر والصبر، فهو اذ يصبر عن فقده نعمه من النعم، يكون في واقع الامر قد شكر خالقه على ما أنعم عليه من نعم اخرى".
الخط الثاني: الايمان بحكمة الله وقضاء وقدره، وأن كل ما يصيبه فهو خيرٌ له، ضمن قانون الابتلاء والاختبار في الحياة، وهي حقيقة أدركتها البشرية بعد طول زمان منذ آلاف السنين، جاهد وضحى الانبياء والمرسلون لإيصالها الى بني البشر، فالشكر لله –تعالى- على حكمته المتعالية في شؤون عباده، وأن ارحم الراحمين، ولا يريد لعباده الشر والسوء إلا ما يسببون هم بأنفسهم، فيكون الانسان في طريقه الى الايمان بما يعطيه الله له، ولعل هذا يفسر لنا اقتران الحكمة بالشكر في الآية الكريمة في سورة لقمان {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنْ اشْكُرْ لِلَّهِ}.
ومن ثمّ؛ فان المؤمن بحكمة الله –تعالى- وتقديره في تقسيم الارزاق (المال والبنون والصحة والعافية) نراه متطلعاً الى ما عند الله لا الى ما عند الآخرين.
سُئل الامام الصادق، عليه السلام، ذات مرة عن سبب ولادة البعض معوقين: قال: "لكي يعرف الناس ان هذه العين ليست من ذاتهم، وان الله هو الذي أعطاهم إياها".
وإذن؛ فإن الشكر في السراء والضراء تمنح صاحبها الارتياح والتفاؤل والأمل في الحياة، وإلا ما الذي يدفع مكفوف البصر، او فاقد لأحد أطرافه، او أبكم، يقدم على أعمال ربما يعجز عنها المتعافون، ومن يملكون كل شيء؛ الصحة والعافية والمال؟ إنه آمن بوجود نعم أخرى غير التي فقدها، فينسى المفقود وينمّي الموجود بعزم أكبر، وثقة عالية بالنفس.
أما من يكفر، او يتنكر للنعم، و يتساءل عن وجودها، بل ويستنكر على من يدعوه للشكر في كل الاحوال! فانه كمن يتخبط في الظلام الذي أوجده بنفسه على نفسه، فانه يستشعر القلق الدائم من المجهول.
على حافة الطغيان
لا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ، لان مفهوم الشكر يتعلق بالإيمان والكفر، وهي مسألة فاصلة ومصيرية، ف {مَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، ولكن من يكفر فان كفره هذا سينسحب على محيطه الاجتماعي تاركاً آثاراً خطيرة على الآخرين، فالذي لا يقدّر النعم الوفيرة لديه، من صحة وعافية، وعقل، ومال، وأشياء لا تُعد في الحياة، لن يقدر انساناً بالقرب منه، لانه من الناحية النفسية في حالة من التعالي والتطاول المستمر، فلا وقت له للنظر الى الآخرين، وإن كان قادراً على مساعدتهم على أي حال.
وكما أسلفنا، فان غير المنفتح على الشكر لله -تعالى، يتقوقع في شرنقة القلق والكآبة والشعور الدائم بالنقص والضِعة، وهو في طريقه لمعالجة هذه الحالات المرضية، نراه يتخبط في أخطاء كارثية اخرى تدفعه للطغيان والبغي، وربما ارتكاب جرائم مفاجئة لمحيطه الاجتماعي.
وهذا يفسر لنا السؤال الحائر دائماً عند الناس: كيف ظلم فلاناً صديقه او زميله او عامله، باختلاس أمواله، او بخس حقوقه، وقد كان في مضى من الزمن فقيراً محتاجاً للقمة الخبز؟!
فعندما نتوقى حافة الطغيان من أول خطوة، فنحن مدعوون لمائدة الشكر على كل ما لدينا وما نمتلك من أبسط الاشياء الى أكبرها، ومن أصغر كيان نعيش فيه وهو؛ الأسرة، والحياة الزوجية، الى الكيانات الأكبر في المحيط الاجتماعي والاقتصادي، فان الشكر على ما نحصل عليه من علم، ومهارات عملية، ومراتب مهنية، ومناصب وغيرها كثير، من شأنها ان تفتح علينا آفاق التقدم في الحياة، وحسناً قال أحد العلماء بأن من سجايا المبتكرين والمكتشفين، عرفانهم لجميل ما عندهم من النعم، بينما من شيم الفاشلين؛ التنكّر للنعم، مهما كانت كبيرة وملموسة لديهم. و"بالشكر تدوم النعم".