أخلاقيات الربح والخسارة: بين ثقافة الاعتذار والغطرسة

علي حسين عبيد

2015-08-12 01:11

من المؤشرات المهمة على تحضّر المجتمع، انتشار ثقافة الاعتذار بين افراده وأوساطه كافة، والابتعاد عن التعنّت والقسر والغطرسة في العلاقات المختلفة بين افراد وشرائح المجتمع، ويمكن اعتبار ثقافة الاعتذار معيارا على انتماء الدولة والشعب الى الحضارة الانسانية أو خلافها، فكلما كان الفرد اكثر استعدادا للاعتذار، كلما كان أكثر قربا للسلوك الانساني السليم، وعكس ذلك، أي عندما لا يؤمن الفرد بالاعتذار، ولا توجد لديه الشجاعة الكافة لذلك، فإن هذا مؤشر واضح على تفوق الغطرسة وانتشارها بين الافراد، كدليل على عنجهية السلوك الفردي وربما الجماعي أيضا.

وقد تم تعريف الاعتذار بأنه فعل نبيل وكريم يعطي الأمل بتجديد العلاقة وتعزيزها، وهو التزام لأنه يحثنا على العمل على تحسين العلاقة وعلى تطوير ذاتنا، لذلك يعد الاعتذار فن له قواعد ومهارات اجتماعية نستطيع أن نتعلمها، وهو ليس مجرد لطف بل هو أسلوب تصرف راقي.

ويذهب بعض الخبراء في حديثهم حول هذا الموضوع، الى أن معظم الناس يعرفون ما هو الاعتذار ، فهو تعبير عن الشعور بالندم أو الذنب على فعل أو قول تسبب في ألم أو إساءة لشخص آخر، وذلك بطلب العفو من الانسان الذي ألحق به الأذى، ويعد الاعتذار ثقافة راقية لا يجيدها كثيرون، بسبب عدة سلبيات تجتاح دواخلهم، فالاعتذار تقويم لسلوك سلبي يجعل من شجاعة الفرد في قمتها اتجاه نفسه واتجاه المجتمع.

أما الغطرسة (hybris)، فهي تعني الفخر أو العنجهية المتطرفة، وغالبًا ما تشير الغطرسة إلى فقد التواصل مع الواقع، والمغالاة في تقدير كفاءات أو قدرات الشخص الخاصة، خصوصًا عندما يكون الشخص الذي يعاني من هذه العادة صاحب سلطة، والصفة من هذا الاسم الغطرسة هي "متغطرس".

رغبات الشخص المتعسف

في اليونان القديمة، كان مصطلح الغطرسة يشير إلى الإجراءات التي كانت تصيب الضحية بالخزي والإذلال لإمتاع أو إشباع رغبات الشخص المتعسف، وقد اشتملت انتهاكات القانون ضد الغطرسة على ما يمكن أن نطلق عليه اليوم اسم الاعتداء والضرب، والجرائم الجنسية التي تتراوح بين اغتصاب النساء أو الأطفال وحتى الأنشطة الأخرى التي تكون بالتراضي، لكنها لا تكون لائقة، كسرقة الممتلكات العامة، وفي الأدب اليوناني غالبًا ما كانت الغطرسة تشير إلى مخالفات البشر ضد البشر الآخرين.

وقد عرف أرسطو الغطرسة على إنها إذلال الضحية، ليس بسبب أي شيء حدث لك أو ربما يحدث لك، ولكن فقط من أجل إشباع رغباتك، والغطرسة ليست ردًا على الإصابات التي حدثت في الماضي، فذلك يطلق عليه اسم الانتقام، وفيما يتعلق بالمتعة المرتبطة بالغطرسة، فإن سببها أن الرجال يعتقدون أنه من خلال سوء معاملة الآخرين، فإنهم يؤكدون تفوقهم.

إذاً هو مرض نفسي يُصاب به الانسان وربما شريحة واسعة من المجتمع، يؤدي بالنتيجة الى انحسار ثقافة الاعتذار وبالتالي، تراجع السلوك الانساني، وغياب المنهج المتحضّر الذي يتوافق مع روح العصر كما ينبغي، مما يقود الى خسائر على الصعيدين المعنوي والمادي، فكل المؤشرات تدل على أن الانسان الذي لا يتمتع بالقدرة على الاعتذار، لا يصلح الى ادارة المشاريع الاقتصادية او المؤسسات بمختلف انواعها ومهامها.

لذلك عندما يكون صاحب المشروع الانتاجي متغطرسا، سوف يفشل بسرعة كبيرة في ادارة هذا المشروع، وعندما يكون قادرا على الاعتذار لمن يسيء له، كون العمل والانتاج لابد أن تحدث فيه مشاكل من هذا النوع، فإن كان المدير او الرئيس او قائد المشروع قادرا على الاعتذار من الآخرين، سوف يكون اكثر قربا منهم، بل يكون اكثر احتراما منهم، وفي هذه الحالة تكون عجلة الانتاج افضل وأكثر جودة، بسبب الراحة النفسية التي يتحلى بها العاملون في هذا المشروع الانتاجي او ذاك.

لذلك جاء في إحدى وصايا أمير المؤمنين عليه السلام: (اقبل عذر أخيك فإن لم يكن له عذر فالتمس له عذراً)، لما تتحلى به ثقافة الاعتذار من مزايا تصب في صالح جميع الاطراف، وهي في الحقيقة ثقافة عامة، تشمل عموم المجتمع، وتبدأ من الحاضنة الاجتماعية الاصغر في المجتمع، ونعني بها العائلة التي يتربى فيها الانسان.

الانسجام مع النسيج الاجتماعي

صعودا الى المدرسة، والمراحل اللاحقة في التعليم، بالاضافة الى الاوساط المختلفة التي ينشط فيها الانسان، فعندما يعتاد على الاعتذار بصورة طبيعية في علاقاته مع الاخرين، هذا يؤدي الى صنع شخصية متحضّرة، قادرة على الانسجام مع النسيج الاجتماعي من دون أن تُصاب بالغطرسة التي تؤدي بالنتيجة الى عزل الانسان عن المجتمع، وعدم التفاعل معه.

وعندما يكون ذا منصب حساس او ذا سلطة ونفوذ كبير، فإن السلوك المتغطرس يقود المجتمع الى خسائر كبيرة، فضلا عن الخسائر التي يتعرض لها الفرد نفسه، ولذلك ينصح الخبراء اصحاب المشاريع الاقتصادية الكبرى، الى اختيار قادة اداريين يتمتعون بالهدوء والتوازن والثقة بالنفس، وعدم التسرع في معالجة الاحداث، او التعامل مع المشاكل البشرية أو الآلية وما شابه.

لأن الشخصية المتوازنة، تكون في منأى عن الغطرسة، وهي في هذه الحالة اكثر قدرة على الاعتذار من الاخرين في حالة الخطأ بحقهم، وصاحب الشخصية القادرة على الاعتذار، يكون اكثر نجاحا من غيره في ادارة المشاريع المعقدة، وقد يرى بعضهم أن ضعف الشخصية يقود الى ضعف في الادارة، وعدم القدرة على الحسم في بعض الحالات التي تحتاج الحسم.

ولكن في لا يمكن اعتبار الانسان القادر على الاعتذار في حالة الخطأ، اكثر ضعفا ممن لا يعتذر للاخرين في حالة الخطأ، بل على العكس تماما، معظم الناس القادرين على الاعتذار، هم أناس ناجحون في اعمالهم الادارية ومشاريعهم الاقتصادية الصغيرة او الكبيرة، وهذا دليل مأخوذ من الواقع الانتاجي الفعلي.

فالمدير المتوتر وغير المتوازن، والمتسرع في اتخاذ القرارات، اكثر قربا من الفشل من قرينه الهادئ، والقادر على الاعتذار في حالة الخطأ، في حين أن المتغطرس (تأخذه العزة بالإثم)، ويجد صعوبة أو استحالة في الاعتذار عن الخطأ، وبذلك تكون الخسارة كبيرة عندما يكون هكذا شخص مدير او اداريا كبيرا لمشروع كبير، لذا يحذر الخبراء من قادة العمل المتوترين، وغير المتوازنين، لأنهم في الغالب يقودون مشاريعهم الى خسائر غير متوقعة.

ذات صلة

فن صناعة النسيج الاجتماعي الرصينالصراط المستقيم بين المنهج والنموذجالشرق الاوسط على موعد ساخن متجدد مع ترامبالتعداد السكاني: لبنة أساسية لبناء مستقبل العراق وتحقيق رفاهية المواطنالايدلوجيا اللّيبرالية الأمريكية والمسار الشعبوي