أخلاقيات الربح والخسارة: النفس بين الغنى والفقر

علي حسين عبيد

2015-04-12 12:37

النفس كما يؤكد المعنيون بها من (علماء النفس)، هي التي تقف وراء نجاح الانسان وتميّزه عن أقرانه بمواصفات جيدة، وأحيانا فريدة من حيث الجودة، وقد تهبط به الى الدرك الأسفل، بسبب ضعفها، ولهاثها وراء الصغائر التي تضج بها الحياة، فالعظماء من البشر، كما تثبت أخبار التاريخ وأحداثه، هم أولئك الذين لهم نفوس عظيمة، تتحلى بسمات وملَكات ومزايا، ترتفع بحاملها او صاحبها الى مراتب عليا، تصطف به الى جانب العباقرة والخالدين، فالنفس هنا هي المعيار الأهم الذي تُقاس عليه شخصية الانسان.

بعض النفوس تدفع بصاحبها الى الانحدار، فتكون خسائره المعنوية والمادية فادحة، وأحيانا لا يمكن معادلة تلك الخسائر بثمن معين، مادي أو حتى معنوي، وعلى العكس من ذلك، يمكن للنفس أن ترتقي بحاملها في خط بيانيّ متصاعد، ربما يبلغ عنان السماء، وما بين هذه الدرجة وتلك، قد يكون الانسان كبيرا في حياته وبعد مماته، وقد يكون صغيرا لا يذكره أحد، إلا بالسوء!!، وشتان ما بين انسان غني النفس والقلب والنوايا والسلوك، وبين نفس وضيع، تذهب به نفسه الى الهاوية بسبب ضعفها وطلباتها التي لا تتوقف عن حد!.

وغالبا ما يتميز الانسان (ضعيف النفس) بكثرة الطلبات من الآخرين، لسبب أو حتى من دون سبب، فهو مجبول على (الاستجداء) تدفعه نفسه المريضة الى ذلك، ومثل هذا حتى لو امتلك خزائن الارض، فإنه لا يشبع، بل يطلب المزيد بسبب وضاعته، ودائما ترى الذلة تحيط به وتراها في وجهه وكلامه وسلوكه، بالغا من مراتب الوضاعة اقصاها، معرّضا نفسه لخسائر لا حدود لها.

بينما نجد الانسان غنيّ النفس، واثقا كبيرا وليس متكبرا، مكتفيا بذاته، لا يشعر بأية حاجة للآخر حتى لو كان يحتاجها فعلا، فمثل هؤلاء الناس، أغنياء بأنفسهم، زاهدين، لا يشعرون قط بحاجة او طلب ما من الاخرين، هذه عزة النفس ورفعتها، هي التي تجعل من الفقير غنيا، بل أغنى بكثير من الاغنياء ماديا وفقراء في نفوسهم وفكرهم وسلوكهم.

في إحدى المواعظ التي يقدمها النبي صلى الله عليه وآله، للامام علي عليه السلام نقرأ: (يا علي قلة طلب الحوائج من الناس هو الغنى الحاضر، وكثرة الحوائج الى الناس مذلة وهو الفقر الحاضر). كما ينقل لنا كتاب تحف العقول للشيخ ابو محمد الحسن بن علي بن شعبة الحراني من اعلام القرن الرابع، فالنفس الضعيفة كثيرا ما تدفع بصاحبها الى طلب الحاجة من الناس، وفيما بعد سوف يعتاد الانسان على ذلك، فيطلب حاجات من الناس وهو لا يحتاجها، فأية درجة من الانحدار سيعيشها انسان من هذا النوع، واية خسارة سيتعرض لها، حتى في الجانب المادي، ولنا أن نتصور أحدهم كأن يكون صاحب مشروع تجاري انتاجي سلعي، ويتصرف وفق هذا الاسلوب، أي تدفعه نفسه لطلب حاجاته من الناس، ويزج بهذه الطريقة من التعامل في عمله، ترى كيف يمكن أن يربح (ماديا) في تعاملاته القائمة على المذلة وضعف النفس.

فالخسارة هنا ليست معنوية فقط، وقد يعتادها الانسان فلا يشعر معها بالصِغَر!، وانما ستلحق به خسائر مادية كبيرة ايضا، تجعل بينه وبين اصحاب العمل التجاري السلعي قطيعة بسبب طلباته التي لا تتوقف عند حد!، لذا ليس أمام الانسان، سوى الكف عن اذلال نفسه بأسلوب طلب الحاجات من الاخرين، لأن الثروة الحقيقية تكمن في شعور الانسان بالاكتفاء، والزهد، والامتلاء، وعدم الشعور بالنقص، بل بالغنى والاعتداد بالنفس دائما.

يقول الامام علي عليه السلام: (الْغِنى وَالْفَقْرُ يَكْشِفانِ جَواهِرَ الرِّجالِ وَأَوْصافِها). والغني هنا ليس المقصود به فقط من يمتلك المال، بل من يتميز بغنى النفس، كذلك الفقر هنا، ليس الحاجة المادية للمال فقط، إنما فقر النفس، وهو من أشد انواع الفقر أذى للانسان، كونه لا يتوقف عند حالة الشعور النفسي والمعنوي فقط، بل يتعداه الى خسائر كبيرة معنوية ومادية ايضا، وهذا هو السبب الذي يجعل الكثير من فقراء المال، أغنياء بأنفسهم الكبيرة، ولعلنا جربنا او لاحظنا مشاهد ومواقف من هذا النوع في حياتنا، فعزيز النفس دائما يجد الآخرين في يتوسلونه كي يقضون له طلبا أو حاجة، وهو يرفض ذلك، أما ضعيف النفس، فيقضي عمره كله لاهثا في تقديم طلباته التي لا تنتهي عند حد للاخرين، مع عدم تلبيتها، لأن الجميع يعرفونه، فتصيبه الذلّة وإن لا يشعر بها، لأنه اعتادها من كثرة طلباته المصطنعة!. ولذلك هذا النوع من الناس غالبا ما يكون خاسرا على الصعيدين المعنوي والمادي.

أما النوع النقيض من الناس، ونعني بهم أغنياء النفس، فهؤلاء هم الفائزون دائما، وهم الرابحون معنويا وماديا، وغالبا ما نجدهم قانعين بالنتائج، حتى لو كانت خاسرة، لأنهم مؤمنون بأن الخسارة المادية سوف يتم تعويضها بالجد والعمل، ولكن الخسارة المعنوية، وخسارة الذات والنفس، والشعور بالذل، لاشيء يمحوه او يعوضه!.

من هنا نقرأ قولا للامام علي عليه السلام يقول فيه: (أَخُو الْغِنى مَن الْتَحَفَ بِالقَناعَةِ).

أخو الغِنى ـ أي رفيق الغنى وصاحبه ـ ، ومن إلتحف القناعة، أي من اتّخذ القناعة والزهد لحافاً يغطّيه ويستر حاله عن الناس. ولا يخفى أنّ مثل هذا الشخص غنيّ عن الناس، إذ ليس الغنى في حقيقته إلاّ الاستغناء عن الناس، هكذا يمكن أن يربح الانسان كرامته وغناه بواسطة عزة النفس وتكريمها والاعتداد بها، ويمكن للانسان أن يكون فقيرا ذليلا، اذا اختار الخسارة بنفسه، عندما يبقى مكبلا طول عمره بحاجته للناس، مع أننا نعرف جميعا، (أن السؤال لغير الله مذلة).

ذات صلة

استراتيجية وحدة المسلمين في مواجهة أعدائهمكاميلا هاريس خسارة الانتخابات أم خسارة القيم؟في تفسير ظاهرة تصادم النخب الثوريةحملة وطنية لمكافحة التصحّرالقطاع الخاص وحاجته للقوة الاكاديمية